القدس في خطاب "خطة ترامب"
تاريخ النشر : 2020-06-01 17:31

تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج "التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات" الذي ينفذه مركز مسارات - الدورة السادسة 2019-2020.

مقدمة

طرحت خطة "السلام من أجل الازدهار"[1]، التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بتاريخ 28/1/2020، والمعروفة باسم "صفقة القرن"، الرؤيةَ الأميركيةَ لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن بين القضايا التي طرحتها قضية القدس، التي أُدرِجت تحت مصطلح العاصمة السيادية لدولة إسرائيل، ونصت على أن تبقى القدس "العاصمة السيادية لدولة إسرائيل"، ويجب أن تظل "مدينة غير مقسّمة".[2]

 ما المصطلحات الأميركية التي استحدثتها الخطة وتبنّتها تجاه القدس، وما الفرق بينها وبين المبادرات الأميركية السابقة لعملية السلام؟

حملت صفقة القرن تغيّرات في الموقف الأميركي تجاه مجمل قضايا الحل النهائي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتبنت موقف الطرف الإسرائيلي في هذه القضايا، وتحديدًا فيما يخص مدينة القدس.

القدس في المبادرات الأميركية

اتسم الخطاب الأميركي تجاه القدس في بادئ الأمر بالحياد والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، ولكنه سرعان ما تحوّل إلى تبني وجهة النظر الإسرائيلية. ففي العام 1970، قدّم وليام روجز، وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974)، مبادرة روجرز للسلام، التي نصّت على إلغاء السيادة الإسرائيلية على القدس[3] واعتماد القرار (242)، وتلاها مشروع زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977-1981)، في العام 1977، الذي لم يتطرق إلى القدس، بل ثبّت فكرة الحكم الذاتي.

أما اتفاقية كامب ديفيد الموقّعة في العام 1978 بين مصر وإسرائيل، فلم تذكر القدس[4]، وفيما يخص الأراضي المحتلة العام 1967 نصّت على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها العام 1967، والاتفاق على "حدود آمنة ومعترف بها لجميع الأطراف في سياق العلاقات الطبيعية والسلمية" وفقًا للقرارين 242.[5]

وفي العام 1982، طرح الرئيس رونالد ريغان (1981-1989) عقب اجتياج إسرائيل للعاصمة اللبنانية بيروت، "مبادرة سلام أميركية لشعوب الشرق الأوسط"، ونصّت على أن "القدس يجب أن تبقى غير مقسمة، ولكن يجب تحديد وضعها النهائي من خلال المفاوضات".[6]

بعد ذلك، أصبح الخطاب أكثر غموضًا، فقد أعلن الرئيس جورج بوش (الأب) (1989-1993) رؤيته بعد احتلال الكويت، التي نصت على "أن يقوم السلام على قاعدة قرارَي مجلس الأمن 242 و338، ومبدأ الأرض مقابل السلام"[7]، حيث لم تُذكر القدس بشكل صريح، وتم اعتماد مبدأ تبادل الأراضي مقابل السلام، ولم لتحدد الأراضي التي سيتبادلها الطرفان، ومن ثمّ عقد مؤتمر مدير، في ذات العام، الذي لم يصل إلى نتيجة لتمسك الأطراف إلى حد كبير بمواقفهم التقليدية.[8]

بدأ الحديث في عهد الرئيس جورج بوش (الابن) (2000-2008) عن تأجيل تقديم حل لقضية القدس ووضعها في المرحلة الثالثة، والدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لبحث حل نهائي في أقرب وقت ممكن.[9] أما في عهد الرئيس باراك أوباما (2009-2017)، فحملت ولايته الأولى تحولًا في الخطاب تجاه القدس، حيث ذكر القدس لأول مرة في خطابه "بداية جديدة"، الذي ألقاه بالعاصمة المصرية القاهرة، في العام 2009، قائلًا: "عندما تكون القدس بيتًا آمنًا ودائمًا لليهود والمسيحيين والمسلمين، ومكانًا لجميع أطفال إبراهيم للاختلاط بسلام كما هو الحال في قصة الإسراء، عندما انضم موسى ويسوع ومحمد عليهم السلام إلى الصلاة".[10]

وحدث تحوّل جذري في الخطاب الأميركي في العام 2014، حينما أطلق جون كيري، وزير الخارجية آنذاك، مسودتين للحل أطلق عليهما "الاتفاقية الإطارية": الأولى طرحت في شباط/فبراير 2014، بعنوان "مسودة إطار عمل للمفاوضات"، وتم ذكر إسرائيل لأول مرة في الخطاب الأميركي على أنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"؛ أما الثانية، فطرحت في آذار/مارس من العام ذاته، وتضمنت فقرة جاء فيها "ربما تكون القدس أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية من بين جميع القضايا التي يتعين حلها في الاتفاقية ... وأنه لا يمكن أن يكون هناك اتفاق وضع دائم دون حل قضية القدس".

جاءت هذه الفقرة مصحوبة بملاحظتين: الأولى، "تسعى إسرائيل إلى أن تكون مدينة القدس المعترف بها دوليًا عاصمة لها، ويسعى الفلسطينيون إلى أن تكون القدس الشرقية عاصمة لهم"؛ والثانية، "يسعى الفلسطينيون إلى أن تكون عاصمة دولتهم المعترف بها دوليًا في القدس الشرقية، بينما يسعى الإسرائيليون لأن تكون القدس المعترف بها دوليًا هي عاصمتهم".

القدس في صفقة القرن

كشفت "صفقة القرن"[11] التغير الكبير في الخطاب الأميركي بشكل صريح تجاه القدس، وسبقها العديد من الخطوات كترجمة عملية للتحول، تمثّلت في إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها.

تعدّ مسألة القدس محورًا أساسيًا في هذه الخطة، إذ ورد ذكرها 70 مرة في النص، وستتناول هذه الورقة المحاور كما هي موجودة في الصفقة على النحو الآتي:

تناولت الخطة القدس في الجزء الثاني/المحور الخامس على أنها "مقدسة للعديد من الأديان، ولها أهمية دينية لكثير من الإنسانية"[12]، وأنه "يجب معالجة قضية الأماكن المقدسة في القدس، وخاصة جبل الهيكل/الحرم الشريف بأقصى قدر من الحساسية"[13]، إضافة إلى أنه "كانت دولة إسرائيل راعية جيدة للقدس، وخلال فترة حكم إسرائيل، أبقت القدس مفتوحة وآمنة"[14]، وفي ذلك تأكيد على أن القدس كانت في أمان خلال فترة حكم إسرائيل، وبناء على ذلك تستحق إسرائيل الاحتفاظ بها والسيطرة عليها، ولا يحق لأي كان التدخل في شؤونها.

أما الجزء الخامس، فذكر القدس من مختلف الجوانب الدينية والأماكن المقدسة والوضع السياسي. فمن الناحية الدينية، ذكرت المدينة في الروايات الدينية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، مدينة القدس، وجاءت الصفقة على تبني الرواية اليهودية بشكل كامل، مثل القول: "أصبحت القدس المركز السياسي للشعب اليهودي عندما قام الملك داود بتوحيد القبائل الاثنتي عشرة في إسرائيل، جاعلًا من المدينة العاصمة والمركز الروحي للشعب اليهودي، التي بقيت منذ ما يقرب من 3000 عام"[15]، إضافة إلى أن هناك ما يقرب من 700 إشارة منفصلة إلى القدس في العبرية (الكتاب المقدس) طوال 100 جيل، وتم تجسيد آمال الشعب اليهودي وأحلامه بعبارة "العام المقبل في القدس".[16]

وذكرت الصفقة المسيحية، واعترفت بوجود الأماكن المقدسة لهم، مثل كنيسة القيامة، وجبل الزيتون، وأن هناك اثنتي عشرة طائفة مسيحية موجودة في القدس. ولم تنكر بأن القدس لها "مكانة" بارزة عند المسلمين، وذُكِرت في القرآن الكريم بأنها ثالث أقدس موقع في الإسلام.

وبناءً على هذه الروايات، فإن اليهودية – وفق الخطة - هي أحق الديانات في القدس، وذلك لكونها تعود إلى 3 آلاف عام.

أما ما يخص الأماكن المقدسة في القدس، فذكرت الخطة أن إسرائيل عندما "سيطرت"[17] على القدس قامت بمسؤوليتها بحماية جميع الأماكن المقدسة، وتم ذكر ثلاثة وثلاثين مكانًا مقدسًا في المدينة. وتمتدح الصفقة الدور الذي تقوم به إسرائيل في حماية هذه الأماكن بالقول: "على عكس العديد من السلطات السابقة التي حكمت القدس، ودمرت الأماكن المقدسة لديانات أخرى، فإن دولة إسرائيل تستحق الثناء للحفاظ على المواقع الدينية للجميع والحفاظ على الوضع الديني الراهن".[18] وفي ذلك تأكيد على أن إسرائيل وحدها من لديها القدرة والحق في الإبقاء على القدس بمقدساتها تحت سيطرتها الكاملة.

وتطرقت الخطة إلى أن عملية دخول الفلسطينيين إلى هذه المقدسات سيخضع للمفاوضات، لكن بما تفرضه الرؤية الإسرائيلية الأمنية، حيث جاء فيها "إذا أراد الفلسطينيون الدخول للقدس لأداء الصلاة، سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين، فهذا سيخضع للمفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على كيفية الوصول، ومواعيد الزيارات، والعدد الذي سيسمح له بالدخول بعد حصولهم على الوثائق المطلوبة التي قد تكون فيزا، أو تصريح، او ترتيبات يتفق عليها الطرفان".

من الناحية السياسية لوضع القدس، تم استحداث مصطلحات خطيرة تجاه القدس، إذ تمّ التفريق بين مصطلح Jerusalem والقدس باعتبار الأولى العاصمة السيادية لإسرائيل، حيث تحتوي على القدس بشقيها الشرقي والغربي، أما الثانية فتشمل الجهة الشرقية من شعفاط أو كفر عقب أو أبو ديس، أو أي مكان يختاره الطرف الفلسطيني داخل حدود الدولة المطروحة في المبادرة (خارج السور الذي بني حول القدس بعد العام 2000)، ويمكن حينها تسميتها بالقدس، ويتم إعلانها عاصمة للفلسطينيين. وجاء في الخطة "نعتقد أن العودة إلى القدس المقسمة، لا سيما وجود قوتين أمنيتين منفصلتين في واحدة من أكثر المناطق حساسية على وجه الأرض، سيكون خطأ فادحًا".[19]

أكدت الخطة ضرورة بقاء "الحواجز الأمنية"، التي يقصد بها الجدار الفاصل في المدينة الذي يفصل بين الأحياء العربية بالقول: "يجب أن يبقى هذا الحاجز المادي في مكانه ويجب أن يكون بمثابة حدود بين عواصم الطرفين"[20]، وفي ذلك مخالفة لما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي الصادر في العام 2004 بعدم شرعية بناء الجدار، وأنه مخالف للقانون الدولي، ويجب إزالته وتعويض المتضررين.[21]

وتطرح الخطة أن تكون عاصمة فلسطين في "قسم" من المنطقة الشرقية قد تكون في منطقتين منفصلتين جغرافيًا في كفر عقب والجزء الشرقي من أبو ديس وشعفاط، في المقابل تتبنى الصفقة ما يسمى "القدس الكبرى" لدى إسرائيل كعاصمة لها، التي تقسم إلى ثلاث مناطق: الحلقة الخارجية، والمدينة الجديدة، والمركز التاريخي، وهي بذلك تضم تجمعات استيطانية كبيرة للمدينة، إضافة إلى أن الخطة تتبنى الشعار الإسرائيلي القديم تجاه القدس، حيث عملت إسرائيل على تغيير معالم المدينة، وهدم البيوت، وتهجير سكانها، وطمس المعالم التاريخية فيها.

بما يخص المقدسين الذين تم ذكرهم كأقلية وأنهم مقيمون عرب، ستسمح هذه الرؤية للمقيمين العرب في عاصمة إسرائيل، القدس، بما يتجاوز خطوط الهدنة للعام 1949، ولكن داخل الحاجز الأمني الحالي باختيار أحد الخيارات الثلاثة: "أن يصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل؛ أن يصبحوا مواطنين في دولة فلسطين؛ الاحتفاظ بوضعهم كمقيمين دائمين في إسرائيل".[22]

ويُلاحظ هنا استخدام أسلوب الأمر في مخاطبة الطرف الفلسطيني باعتماد مبدأ القوة وسياسة فرض الأمر الواقع، بالإضافة إلى التأكيد على أن القدس هي العاصمة السيادية غير المقسمة بشقيها الشرقي والغربي وحدة واحدة لإسرائيل.

واعتبرت الصفقة أن على الفلسطينيين: "يجب الاعتراف بالقدس دوليًا عاصمة لدولة إسرائيل. والاعتراف بالقدس (أو أي اسم آخر تختاره دولة فلسطين) دوليًا كعاصمة لدولة فلسطين"[23] ... وأن: "تخضع الحدود بين القدس (عاصمة إسرائيل بشقيها الغربي والشرقي) والقدس (عاصمة فلسطين التي يتم اختيارها لاحقًا) لمسؤولية إسرائيل الأمنية المهيمنة"[24]، وبالتالي إزالة مدينة القدس من أي مفاوضات في المستقبل.

في هذا السياق، جاءت الصفقة محققة ومتطابقة مع المخططات الإسرائيلية التي تقوم على السيطرة الكاملة على القدس، حيث جاء وضع القدس ترجمة للقانون الإسرائيلي الذي أقرّ في 1980 ونصّ على "القدس، كاملة وموحدة، هي عاصمة إسرائيل"[25]، وعليه أقرّ الكنيست الثامن والعشرين من شهر أيار يومًا للقدس وفق التقويم العبري.[26]

القدس إلى أين؟

اعتبر نتنياهو أن المقترحات التي طرحها الرئيس ترامب تعزز دعم الولايات المتحدة "الثابت، غير القابل للكسر" لإسرائيل[27]، واستدرك قائلاً: "ولإتمام هذه المفاوضات، يجب أن يلبوا كل من الشروط الآتية: الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، الاعتراف بالقدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل، الموافقة على السيطرة الأمنية الإسرائيلية على كامل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن - على الأرض وفي البحر وفي الجو".[28]

وكأحدى تبعات طرح الصفقة مؤخرًا، جاء في تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي حول حقوق الإنسان حول العالم بتاريخ 11/3/2020، استخدام مصلح "السكان غير الإسرائيلين"[29] لأول مرة، الذي يعني أن الفلسطينيين في القدس الشرقية هم سكان غير إسرائيليين يعيشون في القدس. وبذلك، يعمل هذا التقرير على تهميش المرجعيات الدولية، بما فيها قرارات مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ونفي الحق الفلسطيني في مدينة القدس.

خاتمة

استعرضت هذه الورقة التحول الجذري في الخطاب الأميركي تجاه القدس الذي يعطي غطاءً دوليًا لإسرائيل استخدام منطق القوة في ظل ضعف وهشاشة الموقف الفلسطيني. والحديث عن الضم وما سيتبعه من تداعيات ما هي إلا ترجمة لهذه الصفقة بأدق مصطلحاتها.