في حضرة الغياب ... أبو علي شاهين
تاريخ النشر : 2020-05-26 16:51

في ذكرى رحيل شيخ المناضلين أبو علي شاهين, أعيد نشر ما كتبته بعد الرحيل

دونما تخطيط مسبق, وجدتني بجوار بيت "أبو علي" رائحة القهوة السادة التي يصنعها بيديه و بطريقته الفريدة تستصرخني أن أصعد لاحتسائها, و كالعادة دون موعد مسبق, فبيت الحاج عامر و مفتوح على مدار الساعة.يُفتح باب الشقة المتواضعة بأثاثها, الفخمة بفكرها و قاطنيها و الكريمة بضيافتها و ثقافتها. هل هي مصادفة, أبا علي, أن يكون أول ما يقع نظر الزائر عليه هو تلك المكتبة العامرة و لوحة مضاءة لأمير الشهداء أبو جهاد و بجوارها صورة لمحمود درويش؟.. أم أنها رسالة للزائر : هذا هو العنوان فلا تخطئ في ترتيب أولويات النقاش.

بعد السلام و لوم أبو علي على طول غيابك مع أنك كنت في ضيافته قبل يومين فقط, تأتي أم علي, صاحبة الوجه البشوش الذي يشعرك بأنك في ضيافة الوالدة, للتسليم عليك و السؤال عن الزوجة و الأولاد, و هي تحفظ أسماءهم و فصولهم الدراسية. تجلس على أريكة مرتفعة نسبياً فتقع عيناك على لوحة فنية رائعة للشهيد أبو عمار و أخرى للزعيم الخالد جمال عبد الناصر و ثالثة,ملونة, للشهيد عبد القادر الحسيني و رابعة للمفكر الكبير ادوارد سعيد و أخرى للمناضل العالمي تشي جيفارا. عندها يدفعك الفضول للنظر في زوايا الصالون الأخرى, فتجد عن يسارك مجسم فني للسيد المسيح عليه السلام, الشهيد الفلسطيني الأول كما يسميه أبو علي, و الى يمينك المطبخ المفتوح و رائحة القهوة و عدد من بوابير الكاز القديمة. و أمامك ما لذ و طاب من القرشلة بالزعتر و سلة فواكه جلبها الحاج من أريحا أو جنين أو طولكرم فهو لا يقبل الا بالأفضل كل حسب منطقة زراعته و موسمه.

البيت يعطي الزائر فكرة واضحة عن ساكنيه . عن تكوينهم السياسي, الأخلاقي , الاصالة , التمسك بالارث و الموروث الثقافي و التاريخي, البعد الوطني و القومي والانساني, الانفتاح على الآخر و ثقافته و معتقده و التمسك بالجذور دونما تعارض أو صراع . فأبا علي هو النموذج لذاك التكوين الفذ. هو المثقف و المفكر الذي يجبرك على الانصات و النهل من كنوز معرفته, و هو ذات الرجل البسيط المتواضع الذي يذكرك برجل الخيمة أو الديوان الذي يصر على أن يخدم ضيفه بنفسه و بكل حب. هو الذي حين تشاركه الغذاء يوماً, و بيته عامر دوماً بالمدعوين, يصرخ بك إن لاحظ أنك لا تأكل بنهم كاف "سيبك من الاتكيت و شغل الاجانب و ادلغص زي البني آدميين".

 تصادف أن زرته يوماً و كان يوم عيد زواجه الخمسين و قد أحضرت بعض الصبايا من رواد المنزل العامر ما تتطلبه مثل تلك المناسبة من حلويات, فقلت بتلقائية: هذا يوبيل زواجكم الذهبي و انشاء الله تحتفلون باليوبيل الماسي, فردت الحاجة أم علي: ياه بكفي ..أجبتها من تتحمل أبي علي خمسين سنة بما فيها من سجن و غربة ومنافي؟؟ .. لاشك أنها تستحق كل تكريم على صبرها على الظروف و عليه, فكان جزائي أن أجبرني الحاج على أكل كمية من الحلويات كانت كفيلة ألا أذوق طعم النوم تلك الليلة.

آه من تزاحم الذكريات و من عجز الكلمات,,

في آخر زيارة لأبي علي يوم ٣٠ أبريل في بيته بغزة, رأيت دموعاً في عينيه, صدمُت وصحت" الدموع ليست لأمثالك و تنبهت أنه ما زال في ملابس توحي... بأنه كان خارج البيت" .. ما الذي يبكيك أيها الجبل ؟ .. أجاب أنا للتو عائد من زيارة لقبور أحبة افتقدهم. سألت: من هؤلاءالأحبة الذين يبكون عيوناً ما تعودت البكاء؟؟ .. أجاب و هو ينتحب, الشهداء أسعد الصفطاوي واسماعيل أبو شنب و صلاح شحادة.. تمتمت و العبرات تغالبني كي لا يراها. كم أنت كبير و انسان يا أبا علي..

أبو علي.. آه ياوجع الفراق.. و آه كم أفتقدك يا حاج ...