غزة مِنْ أمامكم.. وغزة مِنْ ورائكم !
تاريخ النشر : 2014-07-27 11:26

سقطت الاقنعة، ولم يعد ثمة ما يمكن اخفاؤه بعد الان، لأن المشهد الاخير من المؤامرة انفضح وباتت المسألة الان محصورة في السؤال الكبير المطروح بقوة على الاجندة العربية (دع عنك حكاية المجتمع الدولي، وترهّات النهوض بمسؤولياته «الاخلاقية» والكلام الفارغ عن المصالح الاميركية وغيرها من المصطلحات المغسولة التي دأب الاعلام – والساسة – العرب على تكرارها في مناسبة وغير مناسبة، وكأن الامبريالية الاميركية في حاجة الى من يُذّكرها بمصالحها او يُبدي غيرة عليها اكثر من مفكريها ومخططيها واستراتيجييها وخصوصا وكالاتها الاستخبارية المتعددة الاذرع والغايات والمقاربات ودائما الاختراقات).

السؤال الكبير هو ما إذا كان العرب جاهزون الان لتصفية القضية الفلسطينية بعد ان لم تعد المسألة محصورة في وقف اطلاق النار او «الهُدن» الانسانية وغيرها من الافكار والمقترحات التي يُبدع فيها «حواة» الغرب الاستعماري للالتفاف على جوهر ما يحدث من جرائم حرب وتطهير عرقي وجرائم ضد الانسانية، كانت تداعيات حروب تفكيك الاتحاد اليوغسلافي، مجرد «فصل» وانتهى، فيما النكبة الفلسطينية متواصلة بايقاع اسرائيلي وتواطؤ اميركي... «موحّد»، لا تختلف فيه سوى الأسماء «الكودية» للعمليات العسكرية سواء سُمّيت، سلامة الجليل أم تصفية الحساب، عناقيد الغضب أم الرصاص المسكوب وعمود السحاب أم الجرف الصامد.

نصيب غزة من الدماء والدمار والتطهير والابادة، كان مرتفعاً مقارنة باجمالي «الفاتورة» التي دفعها الشعب الفلسطيني منذ ستة عقود ونيف، ولم تكن تمنيات مجرمي الحرب الصهاينة حول اختفائها وخروجها من الجغرافيا، سوى التعبير الحقيقي عما تُشكّله هذه البقعة الفلسطينية الشاهدة والشهيدة، التي ولغ النازيون الجدد في دمها من صداع ورهبة وكابوس للاحتلال، الذي ظن ان فقر القطاع وشح موارده وصغر مساحته وكثافته السكانية كفيل بإخضاع الغزيين واجبارهم على خيارات قاتلة ليس فقط في رفع الرايات البيض والتحول الى سقائين وحطابين (وبنّائي مستوطنات وباقي الاعمال القذرة التي لم يعد السيد الصهيوني مستعداً للعمل فيها) بل وايضاً في فصل القطاع عن الضفة، والتحول الى «دويلة» قد تكون اكثر رخاء وثروة وإمكانات مفتوحة للتحول الى هونغ كونغ المنطقة، نظراً للثروة النفطية وخصوصاً الغازيّة التي يتوفر عليها شاطئ غزة ومياهها الاقليمية.. ولا يهم الاسرائيلي – حينذاك – من يحكم القطاع ويُديره، سواء اعتمر عمامة وكان ملتحياً، أم تفرنج وراح يرطن بالعبرية والانجليزية والفرنسية، ما دام ادار ظهره لوحدة الشعب الفلسطيني وتنكّر لحقوقه وقَبِلَ ان يكون «جاراً طيباً» مع محتل يتوفر على ترسانة قتل حديثة ومهولة.. وبخاصة ان تجريد (الدويلة) من السلاح سيكون الشرط اللازب للاستقلال (..) والرخاء!!

ما يحدث في غزة من جرائم وابادة وعربدة اسرائيلية، أبعد من ان يكون مجرد رد على قتل المستوطنين الثلاثة أو تصفية حساب مع حماس المُتهّمة (اسرائيلياً) بخطفهم ثم قتلهم, وهو كذلك ليس له صلة بحكومة «الكفاءات» الجديدة التي شكّلت على ايقاع مصالحة هشة وانعدام ثقة بين فتح حماس, بل يندرج في اطار الخطة الاسرائيلية الاستباقية القائمة على استغلال الظروف والمناخات السياسية العربية الراهنة والمضي قدماً في إجبار السلطة الفلسطينية على العودة «صاغرة» الى المفاوضات، والتخلي عن اي اوهام بدولة فلسطينية وفق المطالب (حتى لا نقول الشروط) المعلنة، بل والتسليم بانهاء الصراع حتى قبل رسم الحدود, فضلاً عن شطب حق العودة ونزع سلاح الدولة المنقوصة السيادة على اجوائها ومياهها وحدودها، واستمرار اسرائيلي عسكري (وليس اطلسي او اجنبي او مشترك) في جبال غور الاردن..

ساذج من يعتقد أن اسرائيل التي «تتواضع» في تحديد اهداف حربها الراهنة، معنية فقط بتدمير الانفاق أو كشف مواقع انتاج واطلاق الصواريخ, بل هي الان واكثر من أي وقت مضى اكثر الحاحاً على طي صفحة الصراع وأخذ المنطقة الى مربع «التسوية» على وقع دوّي القصف وهدير المدافع ودك الابنية المتصدعة في قطاع غزة والتلويح بمزيد من القوة لأهالي الضفة الغربية من مغبة الوقوع في شرك انتفاضة ثالثة, الامر الذي يستوجب مزيداً من الحذر في التحليل القائم على معطيات وارقام عابرة وغير نهائية، لا افق لها على صعيد موازين القوى, لكن عواصم القرار الدولي (وليس اجتماع باريس يوم امس سوى اشارة ودليل) باتت اكثر جهوزية لـ»مبادرة» يمكن ان يسموها شاملة أو صفقة كاملة, يبرع فيها المستعمرون القدامى والجدد, في ظل انهيار عربي واضح وغياب الخيال السياسي وبروز اتجاهات انعزالية عربية اكثر خطورة مما كانت الحال عليها عشية إقدام انور السادات على خطوته الخيانة بالصلح المنفرد مع اسرائيل, مُحمّلاً العرب مسؤولية التدهور الاقتصادي في بلاده, ما لبثت ابواق إعلامه ان ذهبت بعيداً في التحريض والفجور, على نحو بدا وكأن حرباً عربية عربية على وشك ان تندلع..

ما اشبه الليلة بالبارحة، لكنها غزة - التي لن تختفي من المشهد بعد كربلائيتها الاخيرة - مِن امامكم وهي مِن ورائكم.. فأين المفر؟

عن الرأي الاردنية