الانقسام الفلسطيني.. الفيدرالية آخر الحلول
تاريخ النشر : 2020-04-07 10:00

هل يمكن أن يكون الحل الفيدرالي ملائما لإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وفصائله، ومبادرة جديدة لعمل فاعل تتوزّع فيه المسؤوليات ضمن فلسطين الموحّدة.

لن تمنعنا التداعيات السلبية التي فجرها انتشار فايروس كورونا في العالم من مناقشة قضايانا الداخلية، فطالت أم قصرت الأزمة سوف تظل هناك قضايا محورية لن تطالها تحولات كبيرة في مفاهيمها وثوابتها.

ربما تتغير النظرة حيال قضايا كثيرة، لكن معظم مكونات وأمراض القضية الفلسطينية تظل على حالها، لأن المسؤولين عنها جعلوا منها معادلة صفرية، بمعنى مكاسب طرف خسائر للطرف الآخر. وهي معادلة يصعب تحقيقها على الأرض، لذلك تفرض صياغة أفكار خلاقة.

يوما يعد يوم تزداد الهوة اتساعا بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تزداد الفجوة بين شعبيهما الفلسطينيين اللذين لم تفرقهما كل الأحداث التي مرت عليهما منذ زمن، وجاءت عاصفة الكورونا لتثبت مدى البعد بين ما تبقى من أرض، حيث انقسم الجهد والتصدي للوباء بين كيانين منفصلين، يعتمد كل منهما على حلفائه بعيدا عن التعاون والمشاركة الفاعلة في دحر الخطر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني بأسره.

منذ فاجأت حركة حماس العالم بالفوز بأغلبية أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني في الانتخابات العامة عام 2006 كانت معضلة التوصل إلى تفاهم فتحاوي – حمساوي تتمحور حول المشاركة بين أكبر وأبرز الفصائل في عواصم عربية ووسطاء عرب وأجانب ولقاءات وتصريحات واتهامات يعرفها الجميع.

تستدعي القضية المزيد من العصف الذهني، بعد أن وصل الشعب الفلسطيني إلى حافة انهيار الأمل في مصالحة وطنية شاملة بين الضفة وغزة

تركز الاهتمام منذ ذلك التاريخ على استعادة فتح القطاع السليب من فك حركة حماس التي تعمل بجد وتصميم على إرساء أسس إمارة مستقلة ذات سيادة في الركن الضيق الجنوبي الغربي مما تبقى من الأرض الفلسطينية خارج الضفة الغربية.

خدع الفلسطينيون الأبرياء أنفسهم، وكانوا يعتقدون أنه يمكن تحقيق التفاهم بين التنظيمين المتنافرين حول إعادة اللحمة للشعب والأرض، اعتمادا على وطنية ومسؤولية الأخوة الأعداء، الأمر الذي فشل فيه الجميع، وانعكست نتيجة الفشل على عدم تحقيق مطالب ورغبات الشعب الفلسطيني الذي فقد بدوره الأمل وتراجع عن العمل لإقناعهم أو إرغامهم على التفاهم.

لم تكن المحاولات العربية لتحقيق التقارب أكثر نجاحا من اللقاءات الفلسطينية ضمن وساطات العديد من الدول، وما رافقها من اقتراحات وإغراءات وتهديدات، وتم اتخاذ مواقف إعلامية طنانة عقب كل اجتماع لم ينفّذ منها كلمة أو حرف.

تتابعت اللقاءات المظهرية بعد اجتماعات القاهرة المتكررة وزيارات الوفود المصرية لغزة وبيت لحم، ودعوات لاجتماعات في مكة والخرطوم والدوحة وبيروت.

وصل الجميع إلى قناعة لا تقبل النقض، وهي أن فتح وحماس لا ترغبان في العودة إلى فلسطين الموحّدة. وترسخت هذه القناعة لدى دول وشعوب عربية وإسلامية، والولايات المتحدة ودول في أوروبا وإسرائيل، والصين وروسيا. ويتساءل هؤلاء عن السبب والدافع للتصميم على مواصلة الانقسام.

إن حق الشعوب في اختيار ممثليها ومصيرها ومستقبلها، هو حق مقدّس يعتمد على الاختيار الطوعي للمواطنين، وليس على توافق الأحزاب والفصائل مهما كان دورها وتاريخها وسلطانها.

تكمن المشكلة في أن الوضع الفلسطيني يخضع لمصلحة الفصائل التي تتضخم وتعتمد على التحالفات الإقليمية والدولية التي تحتضن الحركات الفلسطينية الأقوى والأكبر، مثل حركتي فتح وحماس، ودعم تلك الدول المتحالفة ماليا وعسكريا لكل منهما.

الانفصال أو التوحّد قرار لا يملكه سوى الشعب الفلسطيني وحده، والطريق نحو معرفة ما يريده هذا الشعب هو الاستفتاء الحر المعلن، وليس القرار الحزبي المفروض بالقوة والعقاب والتهديد والوعيد، من غزة أو رام الله. هناك نظم سياسية عديدة للحماية من سطوة وهيمنة الأحزاب المهيمنة بالقوة والسلاح.

شهد التاريخ الحديث تصادما بين مواطني دول مختلفة حول المطالبة بمزيد من الصلاحيات والاستقلالية بعيدا عن الإدارة الصارمة التي تفرضها الحكومات المركزية في بلد ما، أو فقدان الانسجام بين الأصول والديانات والطوائف، مثل الأيرلنديين في الجزر الإنجليزية، والأكراد مع الغالبية العربية، وحروب دول البروتستانت مع الكنيسة اللاتينية، والخلاف المستعر بين شمال إسبانيا وجنوبها.

أدى تجذر الخلاف إلى تنامي الرغبة في الاستقلال التام لتلك الأقليات والطوائف والأصول المختلفة الساعية لمزيد من الحرية والاستقلال من أجل عيش أفضل. لكن العقل البشري تمكّن من التوصل إلى حلول سلمية لهذا التشابك الدموي دون اللجوء إلى الانفصال أو الاستقلال، وكان اسم ذلك الحل “الدولة الفيدرالية”.

في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي تبلورت بوادر أول دولة فيدرالية في التاريخ على يد المهاجرين الأوروبيين للعالم الجديد، وهي الولايات المتحدة، نتيجة لضرورة احتضان المهاجرين الجدد المختلفين في الأعراق واللغات والعادات والديانات. واليوم هناك الكثير من النماذج لهذا النوع، مثل دولة ألمانيا ودولة البرازيل وسويسرا.

توفّر الدول الفيدرالية لبعض شرائح المجتمعات المختلفة إنشاء حكومة إقليمية مرتبطة في مساحة جغرافية متصلة ولها قوانين خاصة اقتصادية وإدارية وجنائية، ويحكمها حاكم منتخب يساعده برلمان الولاية المنتخب أيضا، يصدر قوانين الولاية الإدارية والاقتصادية والجنائية، ويفرض ضرائبها، وتصدر حكومة الولاية كل ما يتعلق بها من قوانين ولوائح، وقد تكون مختلفة عن الولايات الأخرى للدولة، ويرفرف على أرضها علمها بجانب علم الدولة الفيدرالية ونشيد خاص بالولاية تاليا للنشيد الوطني للدولة.

تحتفظ الحكومة الفيدرالية بقليل من الصلاحيات التي لا تتعارض مع ولاية وصلاحيات الولايات الأخرى. على سبيل المثال فإن الحكومة الفيدرالية الأميركية القابعة في واشنطن تملك الصلاحية المطلقة في أقل من عشر صلاحيات فقط، منها القوات المسلحة، والسياسة الخارجية، وإصدار النقد ومقاومة التزوير، وفرض ضرائب الدخل الفيدرالية، وخفر السواحل، والغابات.

خدع الفلسطينيون الأبرياء أنفسهم، وكانوا يعتقدون أنه يمكن تحقيق التفاهم بين التنظيمين المتنافرين حول إعادة اللحمة للشعب والأرض، اعتمادا على وطنية ومسؤولية الأخوة الأعداء

ظهرت معالم هذا النموذج في التعامل الأميركي المركزي والولاياتي مع جائحة كورونا، فهناك قرارات عامة تصدر، وأخرى خاصة بكل ولاية.

يبدو أنّ الفلسطينيين مقبلون على التفكير في تطبيق النموذج الفيدرالي، ربما يكون الأمر صعبا في هذه الأجواء، وربما يكون مثيرا للبعض ودافعا للرفض في ظل ديمومة الاحتلال، وقدرته على تغيير أوراق اللعبة في أي لحظة، وعدم وجود دوافع حقيقية للتفكير في حلول من هذا النوع.

يدفع الانسداد الذي وصلت إليه العلاقة بين القائمين على الضفة وغزة إلى عدم استبعاد أي من الحلول الخلاّقة التي يمكن أن تضع حدا لما يعانيه الشعب الفلسطيني من أزمات متراكمة، تسببت في انعدام الحياة بصورة شبه طبيعية.

هل يمكن أن يكون الحل الفيدرالي ملائما لإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وفصائله، ومبادرة جديدة لعمل فاعل تتوزّع فيه المسؤوليات ضمن فلسطين الموحّدة؟ هل من الممكن أن يصبح لكل من غزة والضفة مجلس تشريعي محلي منتخب، ورئيس إقليم منتخب، ويكون هناك رئيس للدولة ومجلس تشريعي بالانتخاب من المواطنين في غزة والضفة، مع اسم الدولة الموحد (فلسطين) والعلم الذي يرتفع على كافة الأراضي؟

تستدعي هذه القضية المزيد من العصف الذهني، بعد أن وصل الشعب الفلسطيني إلى حافة انهيار الأمل في مصالحة وطنية شاملة بين الضفة وغزة.