لروح تيريز السلام
تاريخ النشر : 2020-04-01 17:55

في زمن القحط والوباء التاجي، الذي عم العالم بكارثته رحلت تيريز هلسة من عالمنا إلى عالم الخلود يوم السبت الموافق 28 آذار/ مارس الماضي (2020) عن عُّمر يناهز ال66 عاما، وبعد صراع طويل مع المرض، غير نادمة على مواقفها وقراراتها الدراماتيكية، التي إتختها في مسيرة حياتها وفصلتها عن موطن الولادة، وعن دفء العائلة، وعن رفاق الطفولة والمدرسة، وعن احلام المراهقة.

أحداث بعينها قلبت أولويات ومعادلات الفتاة تيريز ذات الستة عشر ربيعا، ونقلتها إلى عالم التراجيديا، منها القبض على مجموعة عكا في عرض البحر، التي استشهد أحد رجالها، ولم تسمح سلطات الإستعمار الإسرائيلية لعائلته رؤيته ووداعه. وإرتبط ذلك مع تحول في العلاقة مع العائلات الصهيونية، التي جاءت مع الموجات الإستعمارية، التي نظمتها الحركة الصهيونية لفلسطين لتنفيذ مشروعها الكولونيالي، وقطنت في بيوت ابناء الشعب الفلسطيني، الذين أرغموا على مغادرة الوطن الأم نتاج المذابح والمجازر الصهيونية إلى المنافي والشتات، تلك العائلات الإستعمارية تغير سلوكها 180 درجة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، وباتت أكثر عنصرية وهمجية مع ابناء الشعب الفلسطيني، الذين تجذروا في ارض الوطن، ورفضوا مغادرته، ومنهم تيريز، التي ولدت في مطلع كانون ثاني/ يناير 1954 في البلدة القديمة لمدينة عكا الجزار، وعاشت هذا التحول العنصري من خلال تعاملها مع اقرانها من ابناء تلك العائلات الصهيونية. على إثر ذلك  إتخذت القرار دون تردد، وحسمت بوصلة حياتها، لم تنظر إلى الخلف، عندما غادرت في 23 تشرين ثاني/ نوفمبر 1971 مدينة عكا، والمستشفى الأنكليزي في الناصرة، وإتجهت إلى الضفة الفلسطينية، ومنها إلى لبنان للإلتحاق بالثورة.

المناضلة تيريز هلسه ولدت لإبوين عربيين، والدها أردني من الكرك، ووالدتها من قرية الرامة الفلسطينية في الجليل، ترعرت طفولتها في وسط مناخ مضطرب، وعاصف، غير معالم التاريخ والجغرافيا واليدمغرافيا، وقلب معايير الحياة رأسا على عقب في اعقاب نكبة الشعب العربي الفلسطيني عام 1948، وإقامة دولة إسرائيل الإستعمارية. ونمى وعيها الوطني والقومي في خضم الصراع اليومي مع الحكم الإستعماري العسكري، الذي فرض على الفلسطينيين بعد النكبة في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية المختلطة، وتعاظم نضوجها الوطني والقومي بعد نكسة الجيوش العربية في حزيران 1967، ومع إشتعال شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ظاهرتها العلنية في بلدان الطوق العربية. مما حدا بها مع زميلة لها للإلتحاق بركب الثورة.

حين وصلت تيريز إلى بيروت، وطلبت الإلتحاق بحركة فتح/ جناح أيلول الأسود ، حيرت من إلتقتهم من القادة، حتى ان بعضهم إعتقد انها "جاسوسة"، وجاءت مدفوعة من أجهزة الأمن الإسرائيلية. لكن تيريز البطلة أكدت وعمدت إنتمائها عبر إنخراطها المباشر في عمليات التدريب لتنفيذ العملية الفدائية مع اربعة من رفاقها الأبطال (ريما عيسى، علي طه، وزكريا الأطرش) التي حددت لهم، وهي إختطاف طائرة من شركة سابينا البلجيكية في 8 أيار/ مايو 1972 لمطار اللد لمبادلة المخطوفين من الإسرائيليين الصهاينة بعدد من أسرى الحرية الأبطال في سجون إسرائيل الإستعمارية.

قدر لتيريز البطلة النجاة من الموت مع رفيقتها ريما، في الوقت الذي أستشهد البطلين علي وزكريا. وحكم عليها اربعة مؤبدات، قضت منها عشرة سنوات في السجن، وأفرج عنها بعملية تبادل للأسرى عام 1983. وبعد الإفراج عنها واصلت النضال، ولم تتراجع عن خيارها الذي إتخذته عام 1971، وبقيت في الخنادق الأمامية للكفاح الوطني، حتى بعد زواجها، وإنجابها لثلاثة ابناء.

هذة المرأة الشجاعة مثلت بتجربتها الرائدة جملة من الدلالات، اهمها تأكيدها أن للمرأة دور هام في الحياة عموما والكفاح خصوصا، ولا يقل دورها عن دور الرجل؛ وعمقت مفاهيم الوطنية والقومية، حيث شاءت القول، ان الوطنية فوق كل الإعتبارات الجنسية والدينية والعرقية، ورسخت إنتمائها الوطني والقومي كونها ولدت، كما اشرت لإب أردني وأم فلسطينية، فمزجت وصهرت هذة العلاقة بإنتمائها للثورة، لقناعتها أن ثورة الشعب الفلسطيني، هي ثورة كل عربي وكل إنسان مؤمن بخيار السلام والحرية وتقرير المصير للشعوب المناضلة؛ واضافت إلى جانب ابناء الشعبين الفلسطيني والأردني ومن أبناء الشعوب العربية وأنصار الثورة الأمميين من اتباع الديانة المسيحية، بان الدين ليس ذي صلة بالوطنية والقومية، فالدين لله، والوطن للجميع. وهكذا عمدت وطنيتها وقوميتها بالكفاح في صفوف الثورة لتؤكد إنتمائها لفلسطين، التي ولدت وترعرت فيهأ، بقدر إنتمائها لهويتها الأردنية، وصقلت ورسخت هويتها القومية العربية.