الصحوة الأولى والأخيرة
تاريخ النشر : 2020-03-28 20:41

 كان من ضمن برنامج تدجين تلك الشريحة من السكان، اعداد برامج دراسية خاصة مختلفة عن البرامج الدراسية المعدة لكل المواطنين في الدولة، وذلك بهدف التلاعب بأفكار ومخيلات ومصير الطلاب، أضافة إلى دروس في المواطنة يلقيها أحد ضباط، تصور الخدمة في الجيش بمثابة بطولة قل مثيلها، وقد كان الحديث يدور حول وحدة الدم ووحدة المصير وواجب التضحية من اجل الوطن، فاقتنع الكثير من الطلاب بان مستقبلهم مرتبط في هذه الخدمة إضافة إلى حصولهم على امتيازات كثيرة منها معاش كبير والخروج الى التقاعد مع بداية العقد الخامس من العُمر، إضافة إلى الحصول على منحة مالية ضخمة عند الخروج إلى التقاعد، كل ذلك اغرى الكثير من الطلاب واضحى الكثير منهم يتلهف للتخرج من الثانوية ليلتحق بالخدمة العسكرية، خاصة وان هناك من نجح في تثبيت قول في دهن البعض من الناس بان من يذهب إلى الجيش "يذهب ضبع ويرجع سبع".
وكان من بينهم الطلاب "حمزة حسون" الذي كان يتمتع ببنية جسدية متناسقة وقوية، وما ان بدأ في الخدمة حتى بدأ يكد ويجتهد ليحقق طموحات طالما حلم بها فبرز بين الجنود الامر الذي دفع الضابط لان يثني عليه ويطلب من الجنود اعتباره مثالًا يحتذى به.
دبت غيرة في نفوس بعض الجنود اليهود الذين اخذوا يتحرشون به في محاولة لإذلاله، وكان ذات يوم أن وجد تحت المخدة ورقة وقد كتب عليها " عربي قذر" وهنا عبر عن مقته وحنقه وهو يصرخ.
انا درزي مش عربي
اعتبر ذلك شتيمة واشتكى للضابط الذي دعا الجنود إلى محاضرة تأديبية شرح فيه للجنود عن تضحيات الدروز وطلب ان يكون ذلك الحادثة الأخيرة.
وعند الغداء هم حمزة بالجلوس فأزاح أحد الجنود الكرسي قبل أن يجلس فسقط على مسطبة غرفة الطعام ودوى صوت الضحك فما كان من حمزة إلا ان وقف بسرعة وصفع الجندي الذي كان يعاني من الغرور صفعة قوية وجرى هرج ومرج وقام الجنود بالفصل بينهما، حضر الضابط وأخذ يهدد الجنود بإبقائهم في المعسكر لمدة شهر ان اعادوا مثل هذه الفعلة مرة أخرى واختتم بالقول:
كلنا هنا اخوة وعلينا ان نحب بعضنا البعض ونتصرف كأسرة.
انتهت التدريبات الضرورية والتي تُكسب الجنود مهارة القتال وكان لا بد للجيش ان يقمع مظاهرة في الأراضي العربية المحتلة، واثناء التصدي للمتظاهرين تبارى الجنود بإصابة أحد الأطفال، قال أحد الجنود لزميله وهو يشير إلى الطفل:
 أنظر إلى ذاك العصفور، هل يمكنك ان تصيبه؟
فما كان من الجندي إلا ان صوب بندقيته وأطلق النار فسقط الطفل قتيلًا.
دوى صوت التصفيق، لم يستوعب حمزة سبب التصفيق قي البداية ولكنه سرعان ما عرف السبب، نفخ حنقه وحدث نفسه:
إن الطفل لم يشكل أي خطر علينا فلماذا يجعلون موت الاخر تسليتهم، فكر كغيره ممن يهرب من الخدمة أو يتصنع الجنون ليتم تحريره من الخدمة ولكنه عدل عن فكرته:
إذا هربت فسوف اعاني من الملاحقة وسأسبب القلق لأهلي خاصة في ساعات الليل حيث تختار الشرطة العسكرية هذه ساعات للقبض على الفارين، وإذا تصنعت الجنون فلن أجد مصدرا للرزق طوال حياتي.
عاد وقال:
تنشوف اخرتها.
وفي المساء بعد العودة إلى المعسكر، اتصل بأحد الأصدقاء الذي اعلمه بان السلطات سوف تصادر أراضي القرية في السهل " الجلمة والمنصورة لصالح عدة مشاريع تنوي الدولة القيام بها، وكانت الصدفة ان اتصل به والده بعد اتصال صديقه واعلمه بان تلقى امرًا بهدم الدار التي شيدها له بعد ان خرج إلى التقاعد ووضع في بنائها تحويشة العمر.
كانت صدمة قوية جدًا جعلته ينرفز بشدة.
ماذا.. غير معقول، هل هذه اللحظات التي اعيشها حقيقة ام خيال.. حلم ام علم.. هل من الممكن ان يحدث ذلك ونحن في قمة العطاء للدولة.. لا مستحيل. مستحيل> انكب في فراشه وأخذ يتقلب:
يريدون أيضا هدم الدار.. لا.. لا.. لا يمكن ان يفعلوا ذلك، فنحن اهل لبعضنا البعض وهناك وحدة دم ووحدة مصير، اكيد هناك سوء فهم.

 في الصباح كانت الأوامر تقضي بحماية مستوطنين يقمون بتجريف الأراضي وقلع أشجار الزيتون في (" يهودا واسامرة" )
قال الضابط:
أن مهمتكم واضحة تماما، تتلخص في حماية المستوطنين افهموا الأهالي هناك، إن من حقهم ان يرفعوا دعوات قضائية ضد المستوطنين ولكن ليس من حقهم التصادم معهم، ومن يخل بالأمن من حقكم ان تتصرفوا بالشكل الذي ترونه مناسبًا.


شرد حمزة بذهنه بعيدا واخذ يحدث نفسه:
لماذا يدفعوننا لنكون حطب وقود حروبهم؟
قام الجنود بحراسة المستوطنين وحدث هرج ومرج تم إصابة عدد من المواطنين إصابات بين متوسطة وخفيفة وعاد الجنود إلى معسكرهم، وعلى مائدة الطعام اخذ الجنود يتباهون بما فعلوا، قال أحد الجنود:
انا صوبت البندقية على مؤخرة العجوز وأطلقت النار عليها ههههههه.. يا لها من روعة عندما شاهدته يتحسس مؤخرته وهو يصرخ متألمًا.
وقال جندي اخر وهو يرفع قبضة يده ويفتحها:

انا أحب اصطياد الفرافير الصغيرة، صوبت البندقية عل أرجل الفتى وأطلقت النار، وهكذا سيبقى معاقُا مدى الحياة..
ضحك الجنود واستمروا في عرض بطولاتهم، إلى ان ذهبوا للنوم، وكان حمزة يستمع إلى نشرة الاخبار التي أفادت بان الجيش قام بتدريب " جبهة النصرة " وفتح لهم الشريط الفاصل بين الجولان السوري المحتل وبين الشق الثاني من الجولان للهجوم على قرية "حضر" حيث تسكن عائلته، شعر بان كبده يتفتت وتذكر بان السلطات الإسرائيلية تسمح لجميع الشرائح بزيارة الاقرباء في الدول العربية ما عدا عشيرته، استشاط غضبا وشعر ان الدم يغلي في عروقه بعد ان حضر إلى ذهنه الواقع الذي يعيشه وعشيرته، نفخ حنقه:
آخخخخخخخ.. لقد قالوا لنا باننا ندافع عن الوطن فعن أي وطن ندافع، إن الوطن هو الأرض التي نعيش عليها والتي نشأنا وتربينا عليها، وهم الذين يريدون سرقتها، ثم انهم يعتدون على اهلي هناك، يدفعون بالتفكريين لقتلهم، يا لهذا التناقض الغريب الذي سقط على اعتابه من سقط شهيدًا.
صمت لحظة وأضاف:
عن أي شهادة يتحدثون، انهم ضحايا الطمع الصهيوني الذي لا يحده حد.. هؤلاء الضحايا سقطوا ضحية للبساطة المتناهية.. سقطوا نتيجة لصفقة ساقطة أُبرمت بين بعض المتنفذين العملاء وبين السلطات الإسرائيلية، فهل اثمرت هذه الصفقة.. هل منحتنا امتيازا واحدً على الأقل عن بقية أبناء شعبنا.. هل سقوط الضحايا ادخل مصنعا إلى قرانا لنكسب لقمة عيشنا الحلال بكرامة.. هل وسع مسطحات قرانا كي نبني بيوتنا بدون مخالفات وبدون غرامات وقلق دائم.. هل منحنا خرائط تفصيلية زراعية.. صناعية.. وسياحية.
تنهد وهو يقول:
فعلا الواقع أغرب من الخيال، ماذا عليَّ ان افعل، انهم استطاعوا ان يجروا لنا عملية غسل دماغ بواسطة البرامج الدراسية منذ الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية، بالإضافة إلى النشاطات التي كانوا يقيمون بها في المدارس، لقد استلوا شعورنا القومي وافرغوا الكثير من شبابنا من الموقف والضمير، وفرقونا إلى محل وملل كي نقاتل بعضنا البعض وكي يسهل عليهم البطش بالجميع، وقد نجحوا، ما هو الحل؟
صمت وهو يهز برأسه وأضاف:
انها مشكلة عويصة فمن ناحية ينظرون إلينا كمرتزقة وفي نفس الوقت ينظر إلينا شعبنا كخونة بدلا من ان يأخذ بأيادينا ويخلصنا من بين براثن وانياب صهيون.. لقد سدوا علينا جميع المنافذ الحياة لنبقى رهن اشاراتهم لنبقى بسطاء.. لنبقى خداما لهم في سلك الامن.. اننا احياء واموات لسياسة مبرمجة تهدف إلى إبقاء شبابنا الاحياء امواتًا..
وفي لحظة طائشة واثناء هذه الصحوة الأولى والتي كانت الأخيرة وجد نفسه يضع فواهة البندقية في فمه ويطلق النار، واثناء صعود خروج روحه من جسده حدث نفسه قال: لقد وقعت في خطأ كبير، كان عليَّ ان اثأر لشعبي قبل ان انتحر..