عصر الابتزاز الدولي
تاريخ النشر : 2020-02-16 21:55

على ما يبدو أن هناك تنازلاً ملحوظاً عن الاهتمام بالمقاصد التي أُنشئت من أجلها منظمة الأمم المتحدة، والتي ورد النص عليها في المادتين الأولى والثانية من الميثاق الخاص بالمنظمة.
وقد لا يضر أن نُذكر هنا بأهم هذه المقاصد كما جاءت في النص، وهي: "تساوي الشعوب في الحقوق وحقُّها في تقرير المصير، ومنع التهديد باستعمال القوة أو استعمالها في العلاقات الدولية، كذلك لزوم مساعدة الأمم المتحدة والامتناع عن مساعدة الدول المستهدفة بالمنع أو الإنفاذ، وضرورة ضمان تصرف الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة وفقا لمبادئ المنظمة، إلخ .....".
ولا شك أن أخطر مظاهر هذا التراجع قد تم رصده من خلال "السياسة الأمريكية"، وتحديداً مع وصول الرئيس الحالي "ترامب" لـ "البيت الأبيض"، وخاصة فيما يتعلق بـ "القضية الفلسطينية"، حيث تشهد منديات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية دلائل متعددة على ذلك.
فقد لاحظ العالم مؤخراً ردة فعل كلاً من "الولايات المتحدة" و "الكيان الصهيوني" على قراري السيدتين " بنسودا" و " باشليت "؛ الأول قرار المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في ديسمبر الماضي بفتح تحقيق في ارتكاب جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية، والثاني قرار مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، نهاية الأسبوع الماضي بنشر “قائمة سوداء" بأسماء (112) كياناً تجارياً يساهم في أنشطة استثمارية غير قانونية، بـ "المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة" في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أما الأمر الثالث والجدير بالملاحظة فقد تمثل في جلسة "مجلس الأمن" للبحث في مشروع قرار صادر عن "المجلس"، يؤكد على أن خطة الرئيس الأميركي "ترامب"، لتسوية مزعومة لـ "الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني"، والمعروفة دولياً باسم "صفقة القرن"، تتعارض مع القانون الدولي وتقوض حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ويطالب بالتنديد بتلك الخطة.
فكيف كانت ردود الفعل "الأمريكية" و "الإسرائيلية" لهذه الممارسات القانونية والدبلوماسية الصادرة عن المؤسسات الدولية؟!
بدايةً؛ وفي شأن قرار " بنسودا "، فقد أثار قرار الجنائية الدولية؛ التحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ردود فعل غاضبة لدى مختلف الأوساط السياسية الإسرائيلية، فقد وصفه "ناتنياهو" بأنه "يوم أسود" في رسالة بعثها إلى زعماء العام يندد فيها بالقرار، معتبراً إياه يعمل على "تحويل المحكمة الدولية إلى سلاح سياسي في الحرب ضد "إسرائيل"!
وهو في ذلك يجاري ما قاله "ترامب" في بيان سابق له إن "أي محاولة لمقاضاة العسكريين الأمريكيين أو الإسرائيليين أو العسكريين من الدول الحليفة ستسفر عن رد قوي وسريع"، لأنه يعتبر المحكمة الدولية "غير شرعية"، كما هددت واشنطن قضاة ومدعي المحكمة، "بتجميد حساباتهم البنكية ومنعهم من دخول الأراضي الأمريكية، فضلاً عن محاسبتهم قضائياً إذا واصلوا التحقيق في جرائم الأمريكيين والإسرائيليين وغيرهم من مواطني الدول الصديقة لأمريكا"!
أما بالنسبة لقرار السيدة " باشليت " الخاص بالقائمة السوداء للشركات العاملة في المستوطنات، فإن ردود الفعل الاسرائيلية كانت هستيرية من كافة ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي دون استثناء، حيث حمل "ناتنياهو" بشدة على المفوضية الأممية واصفاً إياها بـ "هيئة منحازة وعديمة التأثير"، ونبه إلى أنه يعد موقف الحكومة الأمريكية من "المستوطنات" في عهد "ترامب" أكثر أهمية من وجهات نظر منظمات الأمم المتحدة"، وعلى المستوى الحكومي فقد قررت "خارجية الاحتلال" قطع علاقاتها مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان!
ولم يتأخر الرد الأميركي على نشر المفوضية العامة لحقوق الانسان القائمة السوداء للشركات العاملة في المستوطنات. فقد انتقد "بومبيو" وزير الخارجية؛ الأمم المتحدة على خلفية نشرها قائمة الشركات التي تمارس أنشطة في "المستوطنات الإسرائيلية"، "متهماً إياها بأنّها منحازة ضد "إسرائيل" وأنه لأمر مثير للسخط، ودعا الدول الأعضاء بالأمم المتحدة إلى الانضمام إلى الولايات المتحدة في رفض تلك المساعي، مدعياً أن محاولات عزل "إسرائيل" تتعارض مع الجهود الرامية لتهيئة الظروف المواتية لمفاوضات "إسرائيلية ـ فلسطينية"!
وفيما يخص جلسة "مجلس الأمن" ـ فحدث ولا حرج ـ فقد سعت "الولايات المتحدة" في البداية إلى جعل الجلسة مغلقة بعيداً عن الإعلام، خروجاً عن الأسلوب المتبع في جلسات المجلس، كما طالبوا بأن يتحدث "كوشنير" "مهندس الصفقة" مع أعضاء مجلس الأمن، وخلال ذلك كانت "الممارسة الحقيقية" تدور في "الدهاليز “لإفشال" مشروع القرار قبل صياغته بـ "النسخة الزرقاء"، فقد جرى الحديث عن "ضغوط أميركية" شديدة على داعمي الرئيس " محمود عباس "، مع التهديد "بإجراءات عقابية" مالية بدلاً من المساعدات المقدمة إلى دول أعضاء في المجلس، إلى جانب استغلال علاقاتها السياسية مع عدد من الدول الأوروبية مثل "بريطانيا" و"ألمانيا" من أجل إحباط مشروع القرار!
ولعل من أبرز الدلائل على ذلك ما أوردت وكالة "فرانس برس" في شأن إقالة "السفير التونسي" لدى الامم المتحدة الأسبوع الفائت تزامناً مع المفاوضات حول مشروع القرار الفلسطيني!
كما حاولت "الولايات المتحدة" حرف مشروع القرار عن مقصده من خلال سلسلة "تعديلات" على النص تقضي بشطب بنود، خصوصاً تلك التي تشير صراحة الى قرارات الامم المتحدة منذ 1967، كما تم شطب كل الاشارات الى القدس الشرقية المحتلة، والغريب ما أقرته مندوبة "أمريكا" بأن خطة السلام التي أُعلنت في 28 يناير الماضي "بعيدة من المعايير الدولية التي تمت الموافقة عليها من اجل سلام دائم وعادل وتام" في النزاع بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين"!
تُرى؛ كيف يمكن أن نقرأ "الممارسات الأمريكية" المخالفة لمقاصد الأمم المتحدة، والحامية للاحتلال، والمشرعنة لكافة ممارسته الغير قانونية؟!
بالتأكيد إن تلك "الممارسات" وإن كانت تمس بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية، وبالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، إلا إنها تمس من باب أولى بالأمم المتحدة، وبالمقاصد والمبادئ التي قامت عليها، وجملة القواعد الناظمة للقانون الدولي التي تنظم العلاقات الدولية؛ بين الدول بعضهم ببعض، وفي علاقاتهم مع أشخاص القانون الدولي.
هذه "الممارسات" ما هي إلا جريمة "ابتزاز دولي" تقوم به دولة "عضو دائم" في الأمم المتحدة في حق دول أعضاء "مساوية لها العضوية"، مع الإصرار على رفض قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن المنظمة؛ وخاصة مجلس الأمن ـ وهذه الجريمة الثانية ـ، مستخدمة القوة الغير مشروعة في العلاقات بين الدول، وهي تتمثل هنا بالتهديد، وما أسمته "العقوبات الاقتصادية" بشكل يتنافى مع القانون الدولي والعديد من الاتفاقيات خاصة الدبلوماسية منها!
أخيراً، وبشكل مباشر أقول، لقد أثبتت فلسطين وقيادتها أنها قادرة على رفض "جريمة الابتزاز" الأمريكية، والتي من الواضح أن "بعض" الدول خضعت لها، وقبلت هذا "التنمر الأمريكي"، ولكن هل يعتبر هذا القبول شكلاً سليماً للعلاقات الدولية؟
وهل يمكن للأمم المتحدة أن تستمر كمنظمة دولية فاعلة في المجتمع الدولي، بتمرير هذه الجرائم والتغاضي هنا؟
وهل تضمن الدول الحليفة للولايات المحتلة، أنها لن تتعرض لمثل هذه الممارسات الخارجة عن القانون في يوم من الأيام من "حليفتها" الولايات المتحدة، أو من قِبل غيرها من الدول؟
بل السؤال للولايات المتحدة نفسها، هل تضمن بأنها ستظل تحتفظ بهذا الشعور؛ بـ "الغطرسة" خلال السنوات القليلة القادمة، مع كل هذه العلامات التي تشهد بتراجع مكانتها دولياً؟
فما الحل إذن؟
أليس في العالم من قوى قادرة أن تعيد "ميزان العدالة" اتزانه قبل فوات الأوان؟
ما الذي يجعل العالم أجمع يعجز عن حل العديد من المشاكل التي تواجهه حتى على مستوى الصحة والبيئة؟ كمشكلة مرض الـ "كورونا" الذي يتفشى هذه الأيام!
أليس السبب يكمن في الصمت عن الجرائم الدولية التي تهز عرش الأمم المتحدة في عصر "الابتزاز الدولي"، فما الدعي للصمت بعد؟!