من الالتباس إلى الوضوح: ثلاث ركائز لإعادة إحياء الحركة الوطنية الفلسطينية
تاريخ النشر : 2019-12-13 20:24

الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة. فالدولة الفلسطينية السيادية المستقلّة التي كانت هدف هذه الحركة منذ أكثر من ثلاثين عاماً قد لا تنشأ أبداً ونهائياً. وقد أصبحت اتفاقيات أوسلو، مجموعة الاتفاقات الفاشلة المصمَّمة لتسهيل تحقيق سلام عن طريق التفاوض، عبئاً ضخماً ومصدر التباس، إذ حجزت المؤسّساتِ الفلسطينية في نظام من التعاون مع عملية مختلّة الوظيفة تسمح بنزع ملكيات شعبها تدريجياً. وعلى الرغم من التحديات المتزايدة والمتضافرة التي تولّدها الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة، والآن مع إدارة ترامب المتعاطفة معها، يبقى الكيان السياسي الفلسطيني ضعيفاً ومُنقسماً جداً ليواجه هذه التحديات ويعيد توجيه نفسه لاتّباع أجندة وطنية جديدة. بالتالي، على الفلسطينيين ترتيب أمورهم الداخلية فوراً. ويبدأ ذلك عبر التخلّص من الالتباس الذي يلفّ المؤسّسات والتمثيل والعلاقات الفلسطينية نتيجة اتفاقيات أوسلو. فعبر توضيح هذه الأركان الثلاثة، سيصبحون في وضع أفضل بكثير لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية كي تخدم مصالحهم الجماعية ولوضع رؤية واضحة جامعة للمستقبل.

التوصيات بشأن السياسات

الوضوح المؤسّساتيّ: فصْل السلطة الوطنية الفلسطينية عن منظّمة التحرير الفلسطينية؛ منع المسؤولين من تبوّؤ منصب قيادي في كلتا المؤسّستَين؛ توضيح أدوار السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير الفلسطينية ووضعهما، واستعادة منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال السياسة الوطنية وصنع القرارات.

الوضوح التمثيليّ: المصالحة بين الفصائل الفلسطينية على مستوى منظّمة التحرير الفلسطينية من خلال إصلاح النظام الانتخابي وإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن؛ إعادة هيكلة منظّمة التحرير الفلسطينية لتكون أكثر تمثيلاً؛ إنشاء مساحة عامة لتبادل الأفكار والبرامج السياسية.

الوضوح العلائقيّ: من خلال منظّمة التحرير الفلسطينية، إجراء إعادة تقييم وموضعة للعلاقة الفلسطينية مع إسرائيل خارج إطار عمل أوسلو بالارتكاز على عدم التعاون؛ التفكير في إعادة تحديد طبيعة النظام الإسرائيلي والموقف الفلسطيني ضمنه.

المقدّمة

شكّل التوقيع على اتفاقيات أوسلو في أواسط التسعينيات بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية بدايةَ فترة من الوعد والالتباس، ولا سيّما للفلسطينيين. فقد أضاف إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي حكومة انتقالية ذات حكم ذاتي محدود في الأراضي المحتلّة، طبقة مؤسّساتية للسياسة الفلسطينية سرعان ما بات من الصعب التفرقة بينها وبين منظّمة التحرير الفلسطينية، ويعزى ذلك الأمر في جزء كبير منه إلى أنّ قيادة كلا الكيانَين كانت ذاتها.

ومع مرور الزمن، عانى التمثيل الفلسطيني أيضاً من هذا الغموض المؤسّساتي، مع دخول منظّمة التحرير الفلسطينية، الجهة المُمثلة لكلّ الفلسطينيين في كنف السلطة الفلسطينية التي تتّسم بأفق أضيق بكثير. وأدّت الأحداث التي تلت إلى انقسام الكيان السياسي الفلسطيني وتدهور العملية الديمقراطية في الأراضي المحتلّة وتعزيز السلطوية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة على حدّ سواء، وقد أدّت كلّ هذه العناصر إلى تقويض شرعية التمثيل الفلسطيني.

وأعادت اتفاقيات أوسلو رسم شكل العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، الذين بموجب هذه الاتفاقيات أصبحوا شركاء في عملية السلام. بيد أنّ هذا التحوّل في العلاقات لم يكن واضحاً بالنظر إلى أنّ إسرائيل استمرّت باحتلالها للأراضي الفلسطينية طوال فترة المفاوضات، وما زال هذا الاحتلال جارياً حتّى الآن بعد مرور أكثر من عقدَين من الزمن.

واليوم، باتت عملية السلام في خبر كان. فما عادت اتفاقيات أوسلو قابلة للتطبيق،[1] إذ لم تعد تعكس الواقع على الأرض ولا مسار الصراع. بيد أنّ تأثيرات الاتفاقيات ما زالت تربك الحياة السياسية الفلسطينية التي تواجه مستوى غير معهود من الانقسام والخلل الوظيفي. ولم تعد القيادة السياسية الفلسطينية قادرة على معالجة مجموعة التحديات الملحّة التي تواجهها اليوم.

ويتأتّى أهمّ هذه التحديات من الإدراك المتزايد أنّ نشأةَ دولةٍ فلسطينية مستقلّة قد لا تحصل أبداً. إن كان هذا الأمر صحيحاً فهو يطرح أسئلة عميقة للجهات كافة، لكن للفلسطينيين بشكل خاص. فما هي الخطوة التالية؟ وماذا يفعلون بمشروع بناء الدولة التي استهلك قدراً هائلاً من الطاقة والموارد؟ وكيف يعيدون تنشيط حركتهم الوطنية ويعيدون توجيهها؟

المصدر: مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، “الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة”، تمت زيارة الموقع في ٣٠ نوفمبر ٢٠١٩، www.ochaopt.org

الخلفية

مع أنّ الإجابة على هذه الأسئلة صعبة في شتّى الظروف، جعلت البلبلة التامّة التي تتخبّط فيها السياسة الفلسطينية في الوقت الراهن الإجابةَ عليها أمراً شبه مستحيل.

فالهيئتان المؤسّساتيتان الرئيسيتان لدى الفلسطينيين، أي منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، ضعيفتان ومنقسمتان وراكدتان ومختلّتان وظيفياً. ففي الضفّة الغربية، تمارس حكومة السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح سيادةً محدودة حول أرخبيل من الجيوب المعزولة والمهمّشة التي تفصل بينها مناطق خاضعة لسيطرة إسرائيلية ومتّصلة ببعضها بنظام نقل تحت سيطرة إسرائيلية.[2] وفي غزّة، تبسط حركة حماس سيطرتها على جيب معزول أكبر حجماً يخضع لحصار إسرائيلي، بالتعاون مع مصر، منذ 12 سنة. ولا تبدو أيّ جهة من الجهتَين قادرة بمفردها على تغيير هذه الظروف المتعسّرة.

وقد شلّ الانفصال السياسي والمناطقي الذي جرى في العام 2007 بين هذين الفصيلين العمليةَ الديمقراطية والحوكمة المؤسّساتية.[3] فلم تُجرَ انتخابات للسلطة الفلسطينية منذ 13 عاماً. ويحكم محمود عبّاس، رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، بموجب مرسوم من دون قيود تشريعية أو قضائية. ومن البديهي أنّه من دون انتخاباتٍ تواجه السلطة الفلسطينية أزمة شرعية حادّة. وقد أصبحت السياسة في الضفّة الغربية وقطاع غزّة سلطوية وقمعية بشكل متزايد للتعامل في وجه حالة من الاستياء والاضطرابات المتزايدة[4]

وبعيداً عن تحدّي إعادة توجيه الحركة الوطنية، يواجه هذا الكيان السياسي الضعيف والمنقسم مجموعةً متنامية من التحديات على الأرض، إذ تحرص الحكومات اليمينية المتعاقبة في إسرائيل على ضمان سيطرة دائمة على الضفّة الغربية، وتهدف إدارة ترامب إلى “إعادة تأطير جذرية” للمقاربة الأمريكية تجاه الصراع، وذلك عبر “التقليل من شأن المخاوف السياسية والوطنية” التي تعتري الفلسطينيين ودعم أجندة حركة الاستيطان الإسرائيلية.[5]

ومع ازدياد عدد المستوطنين الإسرائيليين أربعة أضعاف تقريباً منذ بداية عملية أوسلو،[6]عَلَت أكثر فأكثر الأصواتُ الداعية لضمّ “المنطقة ج” رسمياً إلى إسرائيل. والمنطقة ج، كما سُمّيت في اتفاقيات أوسلو، هي رقعة الأرض في الضفّة الغربية التي تمّ تأسيس مستوطنات فيها. وتضمّ المنطقة ج أكثر من 60 في المئة من الضفّة الغربية، وهي ضرورية لتأسيس دولة فلسطينية قابلة للاستمرار. لكنّ أكثر من 620 ألف مستوطن يعيشون فيها اليوم بشكل غير شرعي في أكثر من 240 مستوطنة متناثرة، من بينها القدس الشرقية.[7] وعلاوة على هذا العائق المادّي أمام قيام دولة فلسطينية، أصبح المستوطنون وحركتهم المنظّمة عائقاً سياسياً أكبر. فقد رجّح الميلُ نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية كفّةَ الميزان لصالح الداعين إلى توسيع السيادة الإسرائيلية إلى ما بعد الخطّ الأخضر.

وقد تم اعتماد سياسة الضمّ في المشروع السياسي لحزب الليكود الحاكم في ديسمبر 2017،[8] ووعد بها أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عشيّة الانتخابات في أبريل 2019،[9]وكرّر هذا الوعد مراراً منذ تلك الآونة. وبات من المستبعد أكثر فأكثر أن يتمكّن أيّ تحالف سياسي من أخذ خطوات لعَكْس مشروع الاستيطان من دون إسقاط نفسه أو تأجيج اضطراب سياسي واسع النطاق أو حتّى التسبّب بحرب أهلية.[10]

بالفعل، ما من إقبال اليوم في إسرائيل، لدى القيادة السياسية أو أكثرية الشعب، لاتّخاذ خطوات ملموسة نحو التقسيم.[11] فقد تبيّن أنّ الوضع الراهن مريح جداً، ولا سيّما عند مقارنته بالمخاطر المحتملة المترتّبة عن تسهيل تأسيس دولة فلسطينية. زد على ذلك أنّه كما تنبّأ الخبير في الشؤون السياسية إيان لوستيك، يرى الإسرائيليون أكثر فأكثر الضفّة الغربية المحتلّة، أو يهودا والسامرية كما يسمّونها، على أنها جزء لا يتجزّأ من المجتمع والدولة والهوية الجماعية لهيئتها السياسية.[12] فقلّة يتحدّثون اليوم عن التخلّي عن هذه الأراضي أو عن تقسيم القدس، وهذان شرطان من شروط حلّ الدولتين.

علاوة على ذلك، تخلّت الولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب عن السياسة الأمريكية القائمة منذ زمن حيال وضع الأراضي المحتلة[13] وحلّ الدولتَين.[14] كذلك، يبدو أنّ المسؤولين المُناطين بالسياسة الرئيسية حول هذا الموضوع اعتنقوا الأجندة التي يعتمدها في إسرائيل مؤيّدو قيام دولة إسرائيل الكبرى المنتمون إلى أقصى اليمين،[15]وهؤلاء يطالبون ببسط السيادة الإسرائيلية على كلّ الضفّة الغربية أو جزء منها. وقد اتّخذت الإدارة الأمريكية سلسلة من الخطوات التي تهدف إلى زيادة الضغط على الحكومة الفلسطينية الضعيفة والمُحطّمة.[16]

في المستقبل

تُفاقم هذه التحوّلاتُ السياسية وضعاً متقلّباً أصلاً. ومن أجل أن يصمد الفلسطينيون أمام القوى المتراصفة ضدّهم ويستمرّوا كحركة وطنية، عليهم ترتيب أوضاعهم الداخلية في أسرع ما يمكن. لكن ماذا يعني هذا الكلام بشكل عمليّ، ولا سيّما على ضوء الديناميات المتغيّرة على الأرض وعلى الساحة العالمية؟ وماذا يعني لو أصبح تأسيس دولة فلسطينية غير ممكن في المستقبل؟

ينبغي أن تبدأ الأجوبة بالتخلّص من بعض الالتباس الذي يلفّ التمثيل والمؤسّسات والعلاقات الفلسطينية. بشكل محدّد أكثر، على الفلسطينيين أن يوضّحوا: (1) أدوار مؤسّساتهم ومسؤولياتها بعيداً عن اتفاقيات أوسلو و(2) الأفكار والأفراد الذين يريدون أن تمثّلهم هذه المؤسّساتُ و(3) طبيعة علاقتهم مع إسرائيل. وسيؤمّن التوصّل إلى وضوح أساسيّ في هذه الأركان الثلاثة مجتمعة قاعدةً أفضل لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية ولإعادة وضع نظرة موحّدة للمستقبل ولحشد الشعب الفلسطيني وحلفائه لدعم قضيّتهم.

الركن الأول: الوضوح المؤسّساتي

وضع أدوار ومسؤوليات واضحة للمؤسّسات السياسية الفلسطينية

بداية، على الفلسطينيين السعي لتحقيق الوضوح المؤسّساتي. فلأكثر من ربع قرن، منذ توقيع إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت وتشكيل السلطة الفلسطينية بعد ذلك، أصبحت المؤسّستان الأساسيتان لدى الفلسطينيين، أي منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، مختلطتَين وبات من الصعب التفريق بين دوريهما. وقد عرقل ذلك قدراتهما على العمل بفعالية وعلى خدمة المصالح الوطنية الفلسطينية. وأدّى أيضاً إلى غيابٍ للمساءلة ومركزيةٍ مفرطة في السلطة والتباسٍ حول التمثيل.

وضعُ حدود وأدوار واضحة للمؤسّسات التي تحكم الفلسطينيين وتمثّلهم مسألةٌ غاية في الأهمّية. فبدونها لن يتمكّن الفلسطينيون على الأرجح من اتّخاذ الخطوات اللازمة لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية وإعادة تحديد أهدافهم والانتقال بعيداً عن اتفاقيات أوسلو الفاشلة.

والجهاز الأساسي في حركة التحرير الفلسطينية هو منظّمة التحرير الفلسطينية التي أسّستها الجامعة العربية في العام 1964. وبعد عقد من الزمن، اعترفت الجامعة العربية والأمم المتحدة بأنها “الممثّل الشرعي الوحيد” للشعب الفلسطيني، وهو وصف احتفظت به منذ تلك اللحظة. وتتمحور وظائف منظّمة التحرير الأساسية حول توحيد الفصائل المتباينة في الحركة الوطنية الفلسطينية تحت مظلّة واحدة عبر تأمين تمثيل شامل والعمل على الوصول إلى هدف التحرير الوطني كما حددّتها الهيئة المركزية في منظّمة التحرير الفلسطينية، أي المجلس الوطني الفلسطيني.[17]

وعندما تأسّست السلطة الفلسطينية في العام 1994، بموجب اتفاقيات أوسلو، كان الهدف منها أن تُشكّل كياناً انتقالياً يستمرّ إلى أن يتمّ التفاوض على اتفاقية للوضع النهائي بين الفريقين، أي فترة لا تتعدّى الخمس سنوات. وكانت غاية السلطة الفلسطينية تطبيقَ الاتفاقات الموقّعة بين منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل واستلام سلطة الحكم التي تتخلّى عنها إسرائيل في الأراضي المحتلّة.[18]وكانت السلطة الفلسطينية، بصفتها هيئة مشرفة على التنفيذ، خاضعة لمنظّمة التحرير الفلسطينية وتابعة لها، ذلك أنّ منظّمة التحرير كانت لا تزال الممثّلَ والشريكَ المفاوض مع إسرائيل المعترفَ به دولياً.[19]

في الحقيقة، كانت الفكرة أن تبقى منظّمة التحرير الفلسطينية الممثل الوطني للشعب الفلسطيني أينما كان، فتُناط بقيادة الحركة، إلى أن يصبح حسب الافتراض لا داعي لها مع التوصّل إلى حلّ مع إسرائيل. أما السلطة الفلسطينية فكانت مجرّد جهة إدارية انتقالية ذات حكم ذاتي محدود في الأراضي المحتلّة، إلى أن تفضي المفاوضات إلى نتيجة نهائية. لكن لم يُعر أيّ انتباه إلى ما قد يحصل في حال لم يتّفق الطرفان عند نهاية السنوات الخمسة، ولم يتمّ وضع أيّ آلية للانتقال بعيداً عن إطار العمل الذي تمّ وضعه في غياب الاتفاق. والأهمّ، وربّما بسبب ذلك، لم تتشاطر الجهتان الافتراض الأساسي ذاته حول ما ستفضي إليه العملية.[20]

وسرعان ما تداعت الفروقات بين منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، ومردّ ذلك بشكل أساسي إلى أنّ رئيس منظّمة التحرير ياسر عرفات استلم زمام الأمور أيضاً في السلطة الفلسطينية الناشئة. فتبوّؤ هذين المركزين منح عرفات مرونة أكبر مع انتقاله بين الدورين والسلطتين بحسب ما رآه مناسباً. لكنّ التفريق بين الدورين والسلطتين أمسى صعباً وباتت المساءلة شبه مستحيلة. نتيجة لذلك، كانت المؤسّستان بحدّ ذاتهما قابلتَين للتبادل بشكلٍ متزايد، وغدت المصالح المتمايزة التي هدفتا إلى خدمتها متداخلة.[21] ولم يحترم عرفات البنيتَين والدورَين المنفصلين لهاتين المؤسّستين ولم يعطِ الأولوية للسابقة المؤسّساتية التي كان يضعها. ولسوء الحظ، تابع محمود عباس، خلَف عرفات في منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية كلتيهما، هذا النهج وزاد من سوئه.

ومع مرور الزمن، انقلبت دينامية منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، فغدت الأخيرة أهمّ من منظّمة التحرير على الرغم من طابعها المؤقت المتأصل.[22] فتدفّقت الأموال والموارد إلى السلطة الفلسطينية عوضاً عن منظّمة التحرير الفلسطينية، التي وبشكل متزايد باتت لا تُستخدم سوى لمنح الشرعية لعملية السلام وبناء الدولة المتعثّرَين اللذين بدآ بالتضعضع بحلول أواسط التسعينيات إلى أواخرها.[23] نتيجة لذلك، توقّفت منظّمة التحرير الفلسطينية تدريجياً عن العمل بصفتها المُرادة. وجعل الفشل في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة السلطةَ الفلسطينية، بعد 20 سنة على انتهاء تفويضها، هيئة تعمل من دون هدف أو شرعية واضحين، وغير مقيّدة بالعملية التي أنشأتها.[24]

وأدّى الدمج بين هذين الكيانين إلى جعل تحدّي الاحتلال الإسرائيلي غاية في الصعوبة. فتبعاً لتصميم اتفاقيات أوسلو، تخضع السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف إلى سيطرة إسرائيل وهي رهن نفوذها. لكن لا ينبغي أن تكون منظّمة التحرير الفلسطينية على هذا النحو. بيد أنّه ما دام الكيانان يتشاطران القيادة نفسها ويقعان في المقرّ ذاته، يخضع مسؤولو منظّمة التحرير الفلسطينية للضغط القسري ذاته الذي يخضع له مسؤولو السلطة الفلسطينية. ويعيق هذا الأمر استقلالية صنع القرارات الفلسطينية وفعاليّتها بشكل كبير.

ويتضمّن نقل قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية خطراً حقيقياً بإضعاف العنصر الوطني في الأراضي المحتلّة. ويمكنه أيضاً أن يسمح لإسرائيل أن تستغلّ التشرذم الفلسطيني أكثر، مثلما حاولت أن تفعل قبل أوسلو، وذلك عبر إنشاء قيادة محلية مذعنة فاقدة الوطنية. بيد أنّ إسرائيل سبق أن نجحت إلى حدّ كبير في هذا الخصوص، على الرغم من حضور منظّمة التحرير الفلسطينية، وذلك عبر استمالة أعضاء القيادة الفلسطينية. لهذا، مع أنّ الخطر حقيقي، يبقى الترتيب الراهن أسوأ بكثير.

وفي ظلّ غياب دولة حقيقية، عمل الدمج بين هذين الكيانين الفلسطينيين المنفصلين، أقلّه لقياداته، على التعويض عن الدولة. ويقلّل هذا الأمر من الحافز لدى النخبة السياسية للتخلّي عنه. لكنّ شبه الدولة هذه، التي تفتقر بالكامل إلى السيادة، تُضعف في الواقع الحركة الوطنية الفلسطينية والحوكمة المحلّية على حدّ سواء. فهي تضع المصالح الوطنية في مرتبة أدنى من المصالح الضيّقة وتُبعد المجتمع الفلسطيني الأوسع عن عملية صنع القرارات وتؤدّي إلى حوكمة رديئة على الأرض من خلال حجب الشفافية والمساءلة. وهي تجعل انعدام التوازن بينها وبين إسرائيل غير واضح، إذ غالباً ما يتمّ التعاطي مع الكيان الذي تشكّله منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وكأنّه حكومة دولة مع أنّه يبقى في موقع خضوع شبه كامل ويفاوض من هذا الموقع.[25]

وفيما تمّ التداول بنشاط ولسنوات في مسألة حلّ السلطة الفلسطينية، ما زال لهذه المؤسّسة دور مهم تؤدّيه، أقلّه على المدى القصير. فالسلطة الفلسطينية مسؤولة عن إدارة حياة الفلسطينيين اليومية في الأراضي المحتلة. وحلّ السلطة الفلسطينية بالكامل خطير للغاية لأنّه من غير الأكيد ما إذا كانت إسرائيل ستُعيد الأمور إلى نصابها أو متى ستقوم بذلك وكيف. وحتّى إنهاء التنسيق مع إسرائيل، وهو أمر طالبت اللجنة المركزية لمنظّمة التحرير الفلسطينية الهيئةَ التنفيذية في المنظّمة مراراً بتنفيذه منذ العام 2015 على الأقلّ،[26]مسألةٌ تشوبها الصعوبات والتعقيدات.

وفيما تُعتبر إعادة تقييم العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل غاية في الأهمّية (راجع الركن الثالث: الوضوح العلائقي)، ينبغي أن يكون التركيز في الوقت الراهن على زيادة الوضوح في المؤسّسات السياسية المُنشأة أصلاً. ويبدأ هذا الأمر من خلال فصل منظّمة التحرير الفلسطينية عن السلطة الفلسطينية، بدءاً من قيادتيهما. فينبغي منع المسؤولين ضمن أيّ من المنظّمتَين من تبوّؤ منصب قيادي في المنظّمة الأخرى. وينبغي أن تساعد عملية صنع القرار المنفصلة على توضيح أدوار الهيئتين ومسؤولياتهما. وبشكل مثالي، يجدر بمنظّمة التحرير الفلسطينية أن تتّخذ مقرّاً لها خارج الأراضي المحتلّة، حيث تعجز إسرائيل عن الضغط مباشرة على كبار مسؤوليها أو عن استمالتهم، مع إبقاء مكاتب لها في الأراضي المحتلّة لغايات تنسيقية. كذلك، ينبغي إبراز الأدوار المتمايزة لكلّ هيئة من الهيئتين وتعيين حدودها بوضوح. وينبغي أن تستعيد منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال الدبلوماسية والمشروع الوطني، مع وضع الحدود لحوكمة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة. فعلى الفلسطينيين وشركائهم الدوليين أن يعرفوا ما الواجبات التي على كلّ هيئة القيام بها، ومساءلة المسؤولين لنجاحاتهم وإخفاقاتهم.

الركن الثاني: الوضوح التمثيليّ

إنشاء قيادة موثوقة من خلال المصالحة والانتخابات والإصلاح

علاوة على الوضوح المؤسّساتي، ينبغي على الفلسطينيين أن يحدّدوا من جديد مَن القادر على التحدّث باسمهم، إذ ليس في وسع قيادة فلسطينية ضعيفة ومنقسمة وغير شرعية أن تضع أجندة وطنية أو تحقّق السلام.[27] وحتّى لو كانت قيادة كهذه قادرة على توقيع مستند يقبل باتفاقيةٍ ما، فمن غير المرجّح أن تصمد هذه الاتّفاقية مع مرور الوقت.[28] بالتالي، تصبّ قيادة فلسطينية قوية وموحّدة وشرعية في المصالح الفضلى للفلسطينيين والمجتمع الدولي وحتّى إسرائيل.

بيد أنّ الكيان السياسي الفلسطيني اليوم، على مستوى منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية كلتيهما، معطّل بالكامل تقريباً ويتّصف بالتصدّع والركود والفساد والاختلال الوظيفي. [29]فلم تُجرَ انتخابات للسلطة الفلسطينية منذ العام 2005-2006 مع بقاء المسؤولين في مناصبهم لفترات أطول من مدة تفويضهم. ولم يقسم الانفصال بين السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح وحكومة حماس في غزّة السياسةَ الفلسطينية مادياً ومؤسّساتياً فحسب، بل شلّت النظام بأسره وحالت دون قيام حوكمة خاضعة للمساءلة أيضاً، ولا سيّما من خلال صندوق الاقتراع. وبغياب الانتخابات أصبحت السلطة الفلسطينية وحماس على حدّ سواء قمعيّتين بشكل متزايد، متّكلتَين على أجهزتها الأمنية لتحطيم المعارضة.[30]

ففي الضفّة الغربية، استأثر عبّاس بالسلطة وصنع القرارات عبر تعزيز سيطرته على المؤسّسات وتهميش المعارضين. وفي العام 2018، حلّ عبّاس الهيئة التشريعية في السلطة الفلسطينية التي لم تعد عاملة منذ أكثر من عشرة أعوام لكن التي حازت حماس فيها على أكثرية المقاعد. ودعا أيضاً إلى اجتماع مثير جداً للجدل للمجلس الوطني الفلسطيني، برلمان منظّمة التحرير الفلسطينية، للمرّة الأولى منذ 22 عاماً. واعتُبر الاجتماع، الذي أقيم في رام الله والذي قاطعته الفصائل الفلسطينية المهمة الأخرى،[31] على نطاق واسع، كعمل مسرحيّ سياسيّ لتعزيز مصداقية عبّاس المتراجعة ولاستبدال المعارضين بموالين ولتعزيز السلطة أكثر فأكثر.32 ومؤخراً، في يناير 2019، حلّ عبّاس حكومةَ وحدةٍ وطنية تشكّلت كجزء من اتفاقية مصالحة مع حماس ووكّل مسؤولاً رفيع المستوى في فتح، محمد اشتية، لتأليف حكومة جديدة،[33]متمّماً بذلك عملية التخلّص من كل الأصوات المعارضة من المجال السياسي الرسمي.

ونتيجة لحكم عبّاس غير الديمقراطي، تراجعت شعبيته في الضفّة الغربية وقطاع غزّة بثبات لتصل إلى أواسط الثلاثينيات،[34] بحسب استطلاع جرى مؤخراً، مع اعتقاد قرابة 60 في المئة من الفلسطينيين بأنّ عليه الاستقالة.[35]وتصل تصورّات الفساد في مؤسّسات السلطة الفلسطينية إلى نسبة عالية جداً تبلغ 80 في المئة. وترى نسبة 48 في المئة من الفلسطينيين تقريباً في الأراضي المحتلّة السلطة الفلسطينية عبئاً على الشعب الفلسطيني.[36]

لكن في نهاية المطاف سيصل حكم عبّاس إلى نهايته. فهو يبلغ 83 عاماً من العمر وصحّته رديئة نسبياً.[37]ومن دون خلَف واضح أو عملية انتخابية قيد التطبيق، سيولّد رحيله على الأرجح فراغاً سياسياً مع عواقب مضطربة محتملة. وبغية الحؤول دون وقوع أزمة كهذه وتأمين تمثيل شرعي خاضع للمساءلة، ينبغي على الفلسطينيين العمل على المصالحة السياسية واستعادة العملية الديمقراطية وإصلاح السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير الفلسطينية.

ولا تقتصر المصالحة على رأب الصدع الذي برز بعد فوز حماس في الانتخابات البرلمانية في العام 2006. فكان هذا الموضوع مطروحاً على الأقلّ منذ وفاة عرفات في العام 2004 وتغيُّر الشخصيات الحاكمة في منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. ففي العام 2005 مثلاً، اتّفق 13 فصيلاً سياسياً، من بينها حركتا فتح وحماس، في إعلان القاهرة على العمل للوصول إلى الوحدة الوطنية وحلّ الخلافات بهدوء وضمّ حماس والمجموعات الأخرى إلى منظّمة التحرير الفلسطينية.[38] لكنّ هذه الوعود، على غرار الكثير مثلها، لم تتحقّق.

ومنذ الانفصال في العام 2007، ركّزت جهود المصالحة بشكل أساسيّ على إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة لإدارة المنطقة من جديد. وعلى الرغم من عدّة اتفاقات ومن تشكيل حكومة وحدة وطنية حتّى، تداعت في نهاية الأمر المحاولات المتكرّرة لحلّ مسائل عملية في الحوكمة. ومع أنّ لهذا الفشل أسباباً كثيرة، ففي الأساس، تتمنّع كلتا الجهتين عن التخلّي عما تتمتّع به حالياً من قوّة وسيطرة ثابتتين وعن الانفتاح على المنافسة أو التدخّل من الجهة المقابلة.

ونظراً إلى الغموض المؤسّساتي حيال مستقبل السلطة الفلسطينية السياسي، لا منطق في تصالح الفصائل الفلسطينية المختلفة ضمن إطار اتفاقيات أوسلو. بالتالي، ينبغي أن ترتكز محادثات المصالحة على جعل حماس والفصائل الأخرى توافق على الشروط والتوجيهات الموضوعة للدخول إلى منظّمة التحرير الفلسطينية كجزء من عملية إعادة هيكلة أكبر لهذه المؤسّسة. لذا من شأن السماح لمنظّمة تحرير فلسطينية جامعة أن تحدّد الطريقة التي تريد أن تنظّم فيها الحوكمة المؤسّساتية على الأرض أن يساعد على التخفيف من حدّة نقاط الخلاف الشائكة أكثر من غيرها في ما يخصّ المصالحة.

وينبغي أن تكون الخطوة الثانية إجراء انتخابات في الأراضي المحتلّة في أقرب وقت ممكن. فهذا يعطي شرعية مجدّدة للهيكلية السياسية. وتعمل الانتخابات يداً بيد مع فصْل السلطة الفلسطينية عن منظّمة التحرير الفلسطينية. ويبدأ هذا الأمر عبر إصلاح النظام الانتخابي. فينبغي على الفلسطينيين التخلّي عن نظام التصويت المختلط المعتمد لانتخابات العام 2005-2006 الذي عزّز المناطقية والعشائرية من خلال تصويت أكثري على صعيد الدائرة الانتخابية لنصف المقاعد في البرلمان. إذ ينبغي أن يُحدَّد المجلس التشريعي تبعاً لتصويت نسبيّ على أساس لوائح حزبية وطنية فحسب. بهذه الطريقة، ستضطرّ الأحزاب الفلسطينية إلى بناء تحالفات وتوافقات، من دون هيمنة أيّ حزب على السياسة، كما هو الحال الآن. وينبغي أن تُحترم نتائج الانتخابات وأن تُحمى من التدخّل الخارجي، على عكس ما جرى في العام 2006.

وفيما لا تستطيع هذه الورقة تحديد الهيكلية الدقيقة لسلطة فلسطينية مُصلَحة، ينبغي أن تركّز السلطة الفلسطينية على الحوكمة، فيما ينبغي أن تركّز منظّمة التحرير الفلسطينية على الشؤون الخارجية، فتترأس حملة لتوحيد الفلسطينيين حول العالم وتحثّ على ممارسة حقوقهم السياسية. وبعض المؤسّسات الراهنة في السلطة الفلسطينية، على غرار وزارة الخارجية، لا طائل لها ولم تنصّ اتفاقيات أوسلو على إنشائها حتّى.

علاوة على ذلك، تعاني السلطة الفلسطينية تضخّماً بيروقراطياً كبيراً. فقبل أوسلو، حكمت الإدارة المدنية الإسرائيلية الضفّة الغربية وقطاع غزّة بثُمن عدد الموظفين.[39] وللسلطة الفلسطينية أيضاً قوّة أمنية مشتركة ضخمة مع “واحدة من أعلى نسب الموظفين الأمنيين إلى المدنيين في العالم”،[40]وهي تستهلك من موازنة السلطة أكثر من قطاعات التعليم والصحّة والزراعة مجتمعة.[41] ويجدر بالسلطة الفلسطينية أن تتخلّص قدر الإمكان من هذه القوّة العاملة الفائضة وأن تعيد توجيه الموارد الحيوية إلى أمكنة أخرى وأن تحدّ من الاعتماد على المساعدات الأجنبية ورواتب السلطة الفلسطينية.

وينبغي أن يكون إصلاح منظّمة التحرير الفلسطينية لتكون أكثر تمثيلاً أولوية كبرى. فهذا سيعطي منظّمة التحرير الفلسطينية المزيد من الشرعية ويعيد تنشيط هذه المؤسّسة الراكدة بدخول عناصر جدد فيها، مع الحرص على ألا تأخذ منظّمةُ تحريرٍ فلسطينية غير تمثيلية قرارات تؤثر في مجلس تشريعي فلسطيني تمثيلي، كما جرى في الأيام الأولى لاتفاقيات أوسلو.[42] ومن بين الخيارات للبدء بهذه العملية أن تُعقد جمعية وطنية فلسطينية لتحديد تفاصيل الإصلاح.

وعلى المدى الأطول، يُعدّ تطوير مساحة سياسية ناشطة للفلسطينيين للتعبير عن أفكار جديدة وللالتفاف حولها أمراً ضرورياً جداً. فيمكن تأسيس منصّة على الإنترنت للفلسطينيين حول العالم لإنشاء أحزاب جديدة وبرامج سياسية في موقع مركزي. بهذه الطريقة، في وسع الأحزاب السياسية الجديدة نشر أفكارها علناً وبحرّية، ويمكن قياس العضوية أو الانتساب إلى هذه الأحزاب أو حسابها بدقّة أكبر. وستتمكن مجموعة جديدة من القادة المعروفين من البروز بناء على قوّة أفكارها وليس بسبب قربها من القادة الأصليين لمنظّمة التحرير الفلسطينية. وفيما قد لا تزال الانتخابات المباشرة صعبة، سيكون على الأقلّ النظام النسبي الذي ترتكز عليه منظّمة التحرير الفلسطينية حالياً أدقّ بكثير في حال ارتكز على قاعدة بيانات رقمية.

ومن المفترض أن تكون المصالحة والانتخابات والإصلاح معاً كافية لترميم الكيان السياسي الفلسطيني ولمنحه شرعية وقوّة مجدّدتين.

 الركن الثالث: الوضوح العلائقيّ

إعادة تحديد طبيعة العلاقة مع إسرائيل

من بين أكبر المفارقات النابعة من مقاربة أوسلو التدريجية هو أنّ إسرائيل في الوقت عينه شريكة للفلسطينيين ومحتلّة لهم على حدّ سواء. وكان من الأسهل تبرير هذه الازدواجية الإشكالية وغضّ الطرف عنها في الأيام الأولى لأوسلو عندما اعتقد الكثيرون أنّ إسرائيل تخفّض من احتلالها العسكري. بيد أنّه مع ازدياد الاحتلال وعدم نشأة الدولة الفلسطينية، تحوّلت السلطة الفلسطينية إلى مجرّد أداة للحكم الإسرائيلي تُعفي من خلالها المحتلّ من تكاليفه وموجباته عبر إدارة المراكز السكانية الفلسطينية والإشراف عليها نيابة عنها.

وإن أراد الفلسطينيون العثور على طريقة للخروج من مأزقهم الراهن عليهم البحث في هذه العلاقة وتغييرها.

لا شكّ في أنّ دينامية الشريك-المحتلّ قد أربكت الفلسطينيين العاديين وحلفاءهم والمجتمع الدولي. نتيجة لذلك، لا يعرف معظم الفلسطينيين كيف يتصوّرون حكومتهم الخاصة، وهم محقّون. فغالباً على مدى السنوات الخمسة والعشرين الماضية، وقفت السلطة الفلسطينية أمام المحاولات الشرعية لتحدّي الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الاستعمارية، وجرى ذلك بشكل أساسي عبر عدم السماح بالتجمّعات الشعبية أو المدنية من خارج مبادراتها الخاصة. وتقوم السلطة الفلسطينية بذلك بشكل أساسي لتلبية موجباتها الأمنية تجاه إسرائيل. علاوة على ذلك، ضمن هذه الشراكة، السلطة الفلسطينية غير قادرة حتّى على تأمين الحماية الأساسية لمواطنيها من عنف المستوطنين الإسرائيليين أو على منع توغّلات الجيش الإسرائيلي اليومية لاعتقال الفلسطينيين.[43] وتقوّض هذه القيود بشكل كبير من شرعية السلطة الفلسطينية لدى الفلسطينيين.

وعلى المستوى الدبلوماسي أيضاً، غالباً ما اتّخذت منظّمة التحرير الفلسطينية مواقف بدت معاكسة للمصالح الفلسطينية، وجرى ذلك غالباً تحت ضغط من الولايات المتحدة أو أوروبا لكيلا تستخدم نفوذها المحدود على الساحة العالمية للضغط على إسرائيل، لمصلحة الاستمرار بعملية السلام. مثلاً، عندما نشرت الأمم المتحدة ما عُرف بتقرير غولدستون بعد الحرب على غزّة في العامين 2008 و2009، وفيه اتُّهم الجيش الإسرائيلي والمجموعات المحاربة الفلسطينية بارتكاب جرائم حرب وجرائم محتملة ضدّ الإنسانية،[44] سحبت منظّمة التحرير الفلسطينية طلباً رسمياً بالتصرّف لدى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ففاجأت الفلسطينيين ووّلدت ردود فعل شعبية كبيرة.[45]

ولم تستفد منظّمة التحرير الفلسطينية أيضاً من الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في العام 2004 التي ارتأت أنّ تشييد الجدار الفاصل الإسرائيلي غير شرعي وينبغي نزعه. وأرغم هذا الجمود في نهاية الأمر المجتمع المدني الفلسطيني على استلام زمام المبادرة وإطلاق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في الذكرى السنوية الأولى لصدور حكم محكمة العدل الدولية،[46] ولم تدعم منظّمة التحرير الفلسطينية هذه المبادرة صراحة سوى في العام 2018، أي بعد مرور 13 سنة.[47]

وجعلت العلاقة شبه التعاونية بين المؤسّسات الفلسطينية وإسرائيل الوضع أيضاً غامضاً للمجتمع الدولي، من ضمنه حلفاء الفلسطينيين في العالم العربي. فلم يُنشئ معظم المجتمع الدولي علاقات مع إسرائيل أو يزد من مستواها إلا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، “فزاد عدد الدول التي لها علاقات دبلوماسية معها قرابة الضعفين”.[48]وفيما لم يتبلور السلام وتدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية بشدّة، اكتفى المجتمع الدولي بالتظاهر بتأييد أوسلو وعملية السلام وبتمويل السلطة الفلسطينية، ويُعزى ذلك في جزء كبير منه إلى بقاء الفلسطينيين ملتزمين بمتابعة بناء الدولة من خلال إطار عمل اتفاقيات أوسلو.

لكن مثلما أشارت نورا عريقات في كتابها الجديد: “كجزء من الصفقة الفاوستية التي هي إطار عمل اتفاقيات أوسلو، قبلت السلطة الفلسطينية المنطق الاستعماري القائل إنّ امتثالها وسلوكها الحسن سيكافَآن بالاستقلال”.[49] بعبارة أخرى، عملت القيادة الفلسطينية تبعاً لفرضية أنّه في حال نفّذت موجباتها الكثيرة ستُنهي إسرائيل طوعاً أو قسراً الاحتلال وتعطي الفلسطينيين دولة. وكان هذا بالفعل أسلوب عمل الحكومة التي ترأسها سلام فياض من العام 2007 إلى العام 2013 والتي ربطت بين الامتثال للمطالب الأمريكية والإسرائيلية بعملية فعالة لبناء الدولة على أمل الوصول إلى الأمر الواقع المرغوب. وكما قال روبرت دانين في العام 2011: “تقضي استراتيجية فياض بمنح الفلسطينيين حكومة جيدة وفرصاً اقتصادية والنظام والقانون، والأمن لإسرائيل امتداداً لذلك، فيزيل بذلك أيّ ذرائع قد تبقى للاحتلال الإسرائيلي المستمرّ للأراضي الفلسطينية”.[50]

على الرغم من فشل خطّة فيّاض في النهاية، تمكّنت جهوده من إبراز عيوب كبيرة في المنطق خلف الاستراتيجية الفلسطينية والدولية.[51] مع ذلك، لم يتغيّر الكثير في المقاربة الفلسطينية أو الدولية منذ رحيله، باستثناء أنّ الحوكمة تدهورت بسرعة. وتستمرّ القيادة الفلسطينية بالالتزام بإطار عمل تابع لاتفاقيات أوسلو أكل عليه الزمن وشرب، فيما لا تلتزم إسرائيل بشروط إطار العمل سوى عندما تتماشى مع مصالحها المباشرة.

في الواقع، جزء صغير جداً من الاتفاقيات الستّة التي تمّ توقيعها منذ أكثر من عقدين ما زال قائماً، بما في ذلك الهيئات المشتركة الكثيرة التي أنشئت لتسهيل التعاون.[52] فإسرائيل لم تسحب قواتها أبداً من معظم الأراضي المحتلّة كما اشترطت الاتفاقيات. وهي تخرق بشكل روتيني الشروط الباقية من أوسلو التي بقيت سليمة إسمياً، بما في ذلك الاتفاقية الاقتصادية الأساسية والترتيبات الأمنية، التي ترتكز على مناطق سيطرة تُعرف بالمنطقة أ والمنطقة ب والمنطقة ج. فتبعاً ليوسي بيلين، أحد مهندسي عمليّة أوسلو، تتصرّف إسرائيل على الأرض وكأن لا وجود للاتفاقية.[53]

ففي يوليو 2019 مثلاً، وصل الأمر بإسرائيل أن تدمّر عشرات المنازل في القدس الشرقية الخاضعة لسيطرة الفلسطينيين. وكانت المنازل واقعة في المنطقة أ والمنطقة ب الخاضعتَين لسيطرة السلطة الفلسطينية الإسمية، وكانت العائلات قد نالت تراخيص بناء من السلطة الفلسطينية. بيد أنّ إسرائيل تصرّفت من تلقاء نفسها لتدمير هذه المنازل، بغضّ النظر عن ترتيباتها مع السلطة الفلسطينية.[54]

وفيما أدّت الحادثة إلى ردود فعل من القيادة الفلسطينية التي وعدت بإنهاء تعاونها مع إسرائيل،[55] لم يتمّ الإقرار بأنّ مشروع السلطة الفلسطينية لبناء الدولة يساهم في مشروع إسرائيل الاستيطاني المتنامي. فكما أشارت ناديا حجاب وجيسي روزنفيلد في العام 2010، تطويرُ إسرائيل للطرقات والبنى التحتية ليستعملها المستوطنون الإسرائيليون حصراً، وهذا ما تسمّيه إسرائيل البنية التحتية لـ”نسيج الحياة”،[56]يرغم الفلسطينيين على تشييد شبكة بديلة منفصلة لهم. وبإمكان ذلك أنّ “يسهّل فعلياً توسّع المستوطنات والفصل العنصري والضمّ عبر إبعاد الفلسطينيين عن الشبكة الأساسية” على أراضيهم الخاصة.[57]بالتالي، تسهّل السلطة الفلسطينية عن غير قصد، بمساعدة تمويل الدول المانحة، نزع ملكية أراضيها عبر بناء بنية تحتية موازية على رقعة الأرض ذاتها من دون تحدّي بنية المستوطنات الإسرائيلية المنافِسة.

بشكل جوهري، إنّ تطبيق عملية بناء الدولة، الذي تسيطر عليه إسرائيل سيطرة تامة، يسمح لإسرائيل باستخدام السلطة الفلسطينية وتمويل الدول المانحة لها، للمساعدة على حلّ مفارقة أربكت صانعي السياسات الإسرائيليين لأجيال: كيفية الاحتفاظ بالأراضي التي احتلّتها في العام 1967 من دون تحرير الفلسطينيين القاطنين هناك.[58] وتحقّق إسرائيل ذلك عبر إنشاء واقع مادي جديد في الضفّة الغربية، من خلال تشييد طرقات وجسور وأنفاق جانبية، وعبر تركيب شبكة مكانية فوق الأخرى لكي يتمكّن المجتمعان من احتلال المساحة الجغرافية ذاتها من دون التلاقي أبداً في المساحة الطوبوغرافية ذاتها.[59]

وتستطيع إسرائيل فعل ذلك بسبب الحاجز الذي أنشأته اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والشعب المحتلّ تحت سيطرتها ليس إلّا. وتسهّل السلطة الفلسطينية هذا الحاجز عبر الإشراف على مراكز السكان الفلسطينيين فيما تسيطر إسرائيل بشكل منهجي على الأراضي المحيطة بها، حتّى مع الاندثار الإجمالي لذريعة الشراكة ومعها نشاط المفاوضات.

من أجل إضفاء وضوح ضروري لهذه العلاقة، لم يعد بإمكان السلطة الفلسطينية بعد الآن الالتزام باتفاقيات تتناقض في جوهرها مع الواقع على الأرض ومع مسار الصراع. فاليوم، يبدو من المرجّح أكثر أنّ تبدأ إسرائيل بضمّ رسمياً أقسام من الضفّة الغربية أكثر مما هو مرجّح أن تتخلّى عنها يوماً. ولا يديم تعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل هذه الدينامية المسيطرة فحسب، بل يغذّي الامتعاض ويقوّض شرعيّتها لدى جمهورها أيضاً.

إن أراد الفلسطينيون تغيير علاقتهم مع إسرائيل فتتطلّب الخطوات اللازمة لذلك تخطيطاً واستراتيجية واسعتين. فلا يمكن إنهاء التعاون بين ليلة وضحاها. في الحقيقة، لم يبدأ التعاون مع إنشاء السلطة الفلسطينية، بل ولّده في بعض النواحي واقع حياة من العيش تحت احتلال طويل الأمد. فمنذ العام 1967، اعتمد الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة على دولة إسرائيل التي حكمتهم بواسطة نظام رُخَص شامل. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الاقتصاد الفلسطيني قبل أوسلو وبعدها، الذي كان ويبقى معتمِداً بالكامل على إسرائيل،[60]المسيطرة، مع أنّه اقتصاد مختلف من الناحية الهيكلية.

وفيما تمارس السلطة الفلسطينية بعض أشكال الحكم الذاتي، تقرّر إسرائيل كلّ ناحية من نواحي الحياة. فإذا وُلد طفل في رام الله اليوم، على السلطة الفلسطينية إعلام السلطات الإسرائيلية وينبغي تسجيل الطفل في النظام الإسرائيلي وإلا لا يحصل على شهادة ولادة أو بطاقة هوية أو جواز سفر. بشكل أساسي، إسرائيل هي التي تعطي الطفل هويته الوطنية لا السلطة الفلسطينية. وليس في وسع الشركات الفلسطينية تصدير المنتجات أو استيرادها من دون تسهيل وفرض ضرائب إسرائيليين. وتعمل شركات الاتصالات والمصارف الفلسطينية من خلال الشبكات الإسرائيلية وتستعمل العملة الإسرائيلية. ولا يستطيع الأفراد في الضفّة الغربية التنقّل ضمن البلاد أو الخروج منها من دون عبور نقاط تفتيش أو جمارك حدودية إسرائيلية. وما من وسيلة للالتفاف حول ذلك، فإسرائيل تبسط سيادتها على الأراضي الفلسطينية كلها.

في هذه الظروف، من غير الواضح كيف يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التعاون مع إسرائيل. بيد أنّ نوعاً من عدم التعاون ضروري. فلا يستطيع الفلسطينيون ببساطة الاستمرار بتسهيل عملية تجريدهم من ملكياتهم عبر الامتثال لإطار العمل الراهن ومعاملة إسرائيل كشريكة. من بين الخيارات العمل على تطوير “اقتصاد مقاومة” يهدف إلى “الحدّ من اعتماد الفلسطينيين الاقتصادي على الاقتصاد الإسرائيلي” و”إنشاء قاعدة سياسية متينة لدعم الكفاح الفلسطيني المناهض للاستعمار”.[61]ويشمل ذلك دعم البدائل المحلّية للمنتجات الإسرائيلية، ولا سيّما تعزيز قطاع الزراعة الفلسطيني كقاعدة اقتصادية.

وتبرز طريقة ممكنة أخرى للتحايل على هذا المأزق وتكمن عبر توضيح العلاقة مع إسرائيل من خلال إعادة تحديد طبيعتها. فمنذ العام 1967، اعتبر المجتمع الدولي والقانون الدولي الضفّة الغربية وقطاع غزّة، بما في ذلك القدس الشرقية، أرضاً محتلّة تحت حكم عسكري مؤقّت. وبعد مرور 50 سنة حتّى، لم يتغيّر هذا التحديد، على الرغم من نقل إسرائيل 620 ألفاً من مواطنيها إلى الأراضي المحتلّة في انتهاك لاتفاقيات جنيف التي تنظّم الاحتلال العسكري.[62]

لكن ما هو الأثر التراكمي لسياسة الاستيطان هذه؟ وماذا بشأن البنية القانونية التي أرستها إسرائيل تدريجياً لدمج المستوطنين والمستوطَنات في الدولة؟ وماذا بشأن واقع أنّ حكومة فلسطينية سيادية على الأرجح لن تبصر النور يوماً؟ هل هذه الأمور تغيّر في طبيعة النظام الساري؟

الأمر الأكيد هو أنّ إصرار الفلسطينيين على تحديد كفاحهم على أنّه كفاح ضدّ احتلال عسكري، مع ما يتضمّنه ذلك من دلالة على الزمنية والأمن، يحجب الطبيعة التحوّلية لمشروع إسرائيل الاستيطاني الذي يبلغ عمره نصف قرن. فهذا المشروع لا ينتهك اتفاقيات جنيف فحسب، بل يُمأسس نظاماً ممنهجاً من القمع والطغيان يديم تفوّق مجموعة إثنية على أخرى.[63]

ويفرّق الاحتلال العسكري أيضاً بين الفلسطينيين القاطنين في الأراضي المحتلّة والقاطنين في إسرائيل، على الرغم من 19 سنة فقط من الفصل المادّي. ويتجاهل الاحتلال ما حصل في العام 1948 والتشرذم المستمرّ للفلسطينيين، وهو أمر يصبّ في قلب الصراع. ويقبل طوعاً الحاجة إلى حلّ جزء واحد من الصراع، وهو ذلك الذي بدأ في العام 1967 مع احتلال الضفّة الغربية وقطاع غزّة. أخيراً، يتجاهل الاحتلال العسكري أيضاً نظام السيطرة الفريد التي تَجذَّر في كلّ المناطق الفلسطينية والإسرائيلية على مدى 70 سنة.

حتى أنّ كثيراً من المسؤولين الإسرائيليين اليمنيين وداعميهم في الخارج عادوا إلى الخطاب القائل إنّه ما من احتلال، وهو خطاب ساد في إسرائيل قبل توقيع اتفاقيات أوسلو.[64] لكن إذا لم تعد سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية تُعتبر احتلالاً، فما هي إذاً؟

لعلّ النظام يستحقّ فعلاً تسمية أخرى؛ وهي نظام الأبارتايد أو الفصل العنصري. وليس هذا التمييز مجرّد لفظ، بل هو يترافق باختلافات حقيقية في الطرق التي يتمّ التعامل فيها مع النظام بموجب القانون الدولي والتي قد يعامله المجتمع الدولي بها. والأهمّ أنّه يجعل العلاقة أوضح للفلسطينيين والإسرائيليين وكلّ الباقين، ويرغم الأفرقاء على اختيار جهة من الجهتين.

وقد سبق أن بدأ السجال حول ما إذا كانت صفة الفصل العنصري تنطبق على الحالة الإسرائيلية الفلسطينية. فقد بدأ خبراء قانونيون وأكاديميون حول العالم بالبحث في هذه المسألة منذ عقدٍ على الأقل.[65] وعلى المستوى السياسي، ناقش عدّة رؤساء وزراء وشخصيات سياسية إسرائيليون علناً حتمية أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة فصل عنصري إن لم يتمّ إنشاء دولة فلسطينية منفصلة. وأعطى ديفيد بن غوريون وإسحق رابين حتّى توقّعات مشابهة منذ عدّة عقود.[66] وحذّر وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري من أنّ إسرائيل تخاطر بالتحوّل إلى دولة فصل عنصري في حال فشلت جهوده لإحلال السلام في العام 2014 (مع أنّه تراجع لاحقاً عن استعمال هذا التعبير تحت الضغط)،[67] حتى وأنّ الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر اختار “فلسطين: سلام وليس فصل عنصري” (Palestine: Peace not Apartheid) عنواناً لكتابه الصادر في العام 2016 عن هذا الموضوع. وفي العام 2017، أصبحت الإسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة) أول وكالة تابعة للأمم المتحدة تستعمل عبارة “فصل عنصري” لوصف النظام الإسرائيلي في تقرير رسمي.[68]

ويستعمل الكثير من الفلسطينيين والناشطين المؤيدين لهم هذا التعبير منذ سنوات، فيما امتنع مسؤولون فلسطينيون ومؤسّسات فلسطينية عن استخدامه إلى حدّ كبير. وإن أرادوا بدورهم أن يسلكوا هذه الطريق، ينبغي التفكير فيه بعناية بسبب تداعياته الكثيرة، ولا سيما التخلّي عن المشروع الوطني المستقل طلباً للمساواة في الحقوق في كيان سياسي آخر أكثر تكاملاً. وسيؤثّر هذا بشكل خاص في التحالفات الحالية والمستقبلية مع ابتعاد الفلسطينيين عن التوافق الدولي على حلّ الدولتَين.

في أي حال، تستحقّ العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية إعادة تقييم وتحديد في هذه المرحلة الحاسمة. ويبدأ ذلك عبر المباشرة بعملية الامتناع عن التعاون مع الاحتلال. ويمكن أن تتبعها إعادة تقييم لطبيعة العلاقة بين الفلسطينيين ودولة إسرائيل. لكن طالما بقيت الأمور على حالها، تلفّها علاقة مربكة بين شريك ومحتلّ، ستواجه القيادة الفلسطينية صعوبة في حشد شعبها وحلفائها لتحقيق أهدافها.

الخاتمة

تواجه الحركة الوطنية الفلسطينية مجموعة متنامية ومتضافرة من التحديات، بما فيها الإقرار بأنّ قيام دولة فلسطينية سيادية مستقلّة ربّما بعيد المنال. لكن نتيجة ضعف وانقسام وركود وخلل وظيفي داخلي، الجهة السياسية من الحركة الوطنية تبقى عاجزة عن مواجهة هذه التهديدات أو عن البحث عن طرق جديدة للسير قدماً مع دعم شعبها وقوّته الكامليَن.

ومنذ إنشاء السلطة الفلسطينية كجزء من اتفاقيات أوسلو، عانت السياسة الفلسطينية نظاماً مؤسّساتياً متشعّباً التحم تدريجياً بعّدة طرق إشكالية ذات صلة. وكان انقلاب الديناميات بين السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير الفلسطينية واندماجهما كارثياً للفلسطينيين، إذّ ولّد التباساً حول الأدوار والأوضاع أعطى الأولوية للمصالح الضيّقة قبل المصالح الوطنية وأبعد المجتمع الفلسطيني الأوسع عن عملية صنع القرارات وأدّى إلى حوكمة رديئة على الأرض عبر حجب الشفافية والمساءلة.

لذا من الضروري وضع حدود وأدوار واضحة للمؤسّسات التي تحكم الفلسطينيين وتمثّلهم. ويمكن القيام بذلك عبر فصل السلطة الفلسطينية عن منظّمة التحرير الفلسطينية ومنع المسؤولين من تبوّؤ منصب قيادي في كلا الكيانَين. وينبغي أن تساعد عملية صنع القرار المنفصلة على توضيح مصالح المنظّمتين المتمايزة. وبشكل مثالي، يجدر بمنظّمة التحرير الفلسطينية أن تتّخذ مقراً لها خارج الأراضي المحتلة، حيث تعجز إسرائيل عن الضغط مباشرة عليها وحيث يستطيع الشعب الفلسطيني الأوسع الوصول إليها، مع إبقاء مكاتب لها في الأراضي المحتلّة لغايات تنسيقية.

وينبغي إبراز الأدوار المتمايزة لكلّ هيئة من الهيئتين وتعيين حدودها بوضوح. وينبغي أن تستعيد منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال الدبلوماسية والمشروع الوطني، مع وضع الحدود لحوكمة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة.

وعلى الفلسطينيين أيضاً إصلاح هاتين المؤسّستين لجعلهما أكثر تمثيلاً من خلال الانتخابات أو، في حالة منظّمة التحرير الفلسطينية، من خلال عملية أخرى لتأسيس قيادة شرعية تمثيلية. معاً ينبغي أن تكون هاتان الخطوتان كافيتين لترميم الكيان السياسي الفلسطيني ولمنحه شرعية وقوّة متجدّدتين.

كذلك، يجدر بالفلسطينيين إعادة تقييم علاقتهم بإسرائيل نظراً إلى فشل اتفاقيات أوسلو وتحصين الاحتلال العسكري الإسرائيلي وعزمه على الاستمرار باستيطان الضفّة الغربية وتغيير وضع القدس ومحاصرة قطاع غزّة. وقد أربكت دينامية الشريك-المحتلّ التي نتجت عن أوسلو الشعب الفلسطيني وحلفاءه في المجتمع الدولي.

وينبغي على الفلسطينيين العثور على سبل لعدم التعاون، ولا سيّما من خلال الحدّ من الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل. ويمكنهم إعادة تقييم طبيعة النظام الإسرائيلي ومكانهم فيه وربّما إعادة تحديده ليتغيّر من احتلال عسكريّ إلى دولة فصل عنصريّ. ويجدر أن يترافق ذلك بمداولات جدّية مع استراتيجية واضحة لطريقة مواجهة النظام على الأرض وفي المسرح الدولي.

عندما تفشل أيّ حركة في تحقيق أهدافها الأساسية، عليها أن تسأل نفسها أسئلة عميقة حول الخطوات التالية التي عليها اتّخاذها. ولكي يتسنّى للفلسطينيين طرح هذه الأسئلة حتّى، عليهم أوّلاً ترتيب أمورهم الداخلية والتخلّص من الالتباس المتراكم حول مؤسّساتهم وحول تمثيلهم وحول علاقاتهم. عبر توضيح هذه الأركان الثلاثة، سيصبحون في وضع أفضل بكثير لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية ومواجهة التحديات والعمل على تحقيق أهدافهم للمستقبل.

دراسة نشرها معهد بروكينغز