موعد مع الصهيل
تاريخ النشر : 2019-10-25 00:08

على أوتار الهواء ، من بين أوراق الورد و نبتة ‍الزهر، تتسلل فراشة، تغالب بأجنحتها  الرقيقة زحمة قطرات الندى وهي تصنع أكاليل الفرح على جبين صباح مشرق، اغتسل من عَتَمةِ الليل، وتسربل بوشاح من النور الواعد يقطف الأمنيات... ينتفض الجناحان الرقيقان...

تنتقي الفراشة مستقرها، تحرك رأسها ‍الصغير إيحاءً بطيب المقام... أو هكذا خُيل إليه!

يتأملها "الطاهر" الجالس في رحاب العشب الأخضر ... ينتشي بسحر هذا الكائن العجيب ... يا ألله ... ألوان زاهية، هندسة بديعة، تتدرج على جسم دقيق، تسكنه روح هائمة بعشق الرحيق

... يقلب الطرف في الفضاء الجميل، يتذوق نعمة الهدوء في أزمنة الصخب المهرق على يومياته ... يرفع عينيه إلى السماء، يتنسم صفاء الأديم، قبل أن يستأصل الأسى خلايا الفرح من قلوب الخلائق ... يعيد النظر إلى الفراشة، يذوب في ألوانها اللامعة وقد كف رأسها الصغير عن الحركة، وكأنها انشغلت بترتيب يومها كما ي‍حلو لها ... تدفقت الغبطة على

ملامحه، تحسس العشب بإحدى يديه، وقعت أصابعه على حلزون متجول، يتهادى في زحفه، يخرج رأسه تارة، وتارة أخرى يخبئه وكأنه يحتمي بقوقعته مما يكدر تجواله ... ظل ينظر إليه متابعًا مسيرته المتأنية، يظهر مرة ويختفي مرة، إلى أن غاب وسط كثاف‍ة عشبية ندية في رحلة مجهولة، قد يعود منها وقد لا يعود ... "الطاهر" بستاني شاب ... قضى عديد السنوات في محضن الطبيعة، يخدم الأرض فيحولها إلى جنة مترامية، تغازلها الظلال وتسامرها النجوم، ويحبك حواشيها نسيم يتغلغل في الصدور، فإذا بالوالج إليها يفترش الأحلام ‍لحافًا، ويلتمس القمر غطاءً، ويخال صدح العصافير نايًا ينقِّي لحنه رواسب هموم حفرت خندقها في الروح، فأقصت معالم الفرح واستقدمت معاول النكد ... أحب "الطاهر" شغل البستنة فأتقنه ... ونال إعجاب وثقة صاحب البستان، فأمَّن له المسكن والقوت والعلاج، وزوجه من فتاة يت‍يمة كان "الحاج إبراهيم" قد وجدها بجانب المسجد بعد تأديته لصلاة الفجر، وهي الرضيعة في لفافتها الوردية وفي عنقها قلادة نُقش عليها حرفان ... أشهد الإمام والمصلين على ما وجد ... ثم أخذها إلى بيته، ورعاها حتى اشتد عودها وظهر نضجها، فأخبرها بقصتها واستأذنها في ا‍لبحث عن عائلتها، غير أنها أبت وفضلت إغلاق هذا الملف إلى الأبد ... سعدت بزواجها من "الطاهر"، وأكبرت فيه تلك

الشهامة والرجولة الحقة التي تبحث عنها كل فتاة عاقلة ... تستمر الحياة كريمة معهما في كنف "الحاج إبراهيم" إلى أن حان أجله، واقتسم ورثته رزقه ... منهم من باع حصته وانتقل إلى المدينة، ومنهم من استغل حصته في مشروع يناسبه وارتأى فيه خيرًا لأولاده، ومنهم من حقق حلمه؛ إذ بمجرد تصفية الميراث حزم حقائبه ولوح بجواز سفره ... وكأن الراحل كان هو العائق!

  الشيء الوحيد الذي أجمعوا عليه هو تطبيق وصية الراحل: أن يترك‍وا السكن الصغير للطاهر وزوجته ما دام لا يملك سقفًا يُؤويه، وأن يمنحوه مبلغًا ماليًّا يدبر به بعضًا من شؤون عيشه؛ ريثما يجد شغلًا جديدًا يضمن بواسطته تحمل أعباء الحياة خاصة عبء علاج آلام الظهر، التي غدت هاجسًا يؤرقه وينغص صفوه، رغم تظاهره بعدم الاكتراث.

ي‍بدأ "الطاهر" رحلة البحث عن عمل جديد ... تمر سنة كاملة على وفاة "الحاج إبراهيم"، دون أن يعثر على ما يريد ... تضيق عليه الأرض، يغرق في كرب كبير ... تقترح عليه زوجته أن يقصد أحد أصدقاء الراحل في البلدة المجاورة، يتردد ثم يذعن.

من الكرب إلى التيه!

يمتلك "جلو‍ل الزيتوني" مصنعًا قديمًا لعصر الزيتون، ورثه عن والده الذي لم ينجب سواه ...

ومع المصنع ورث لقب "الزيتوني"، الذي أطلقه سكان المنطقة وما جاورها على هذه العائلة

المختصة في تجارة الزيتون والزيوت ... يشغل المصنع عددًا معتبرًا من العمال والعاملات،

يشرف على متابع‍تهم منذ مدة كبير أصهار "جلول الزيتوني" الذي أنجب البنات فقط، سَعَدَ

"الطاهر" بقبوله في المصنع رغم امتعاضه من المهمة التي كُلف بها ... حارس ليلي مع مجموعة حراس بنظام التناوب مع فريق آخر ... وكم تمنى أن يقوم بعمل غير الحراسة الليلية

! لكن ... ليس هذا ظرف الاخ‍تيار ... يكفيه أن صاحب المصنع لم يتنكر لصحبة المرحوم ... رحب به ووعده بمباشرة العمل مع بداية الأسبوع.

فريقه: ثلاثة حراس هو رابعهم ... خطبوا وده منذ الليلة الأولى، ضيَّفوه كؤوسًا من الشاي وبعض الحلويات التقليدية، واقتسموا معه ما أتوا به من بيوتهم: أرغفة، ‍جبن، فلافل وغيره مما تيسر لدى زوجاتهم ... بعدها وضحوا له طبيعة العمل، وناولوه الزي الموحد الذي تجلبه إدارة المصنع لكل حارس، كما أطلعوه على أروقة النجدة، وزوايا المولدات الكهربائية وكيفية تشغيل صفارة الإنذار عند الملمات ... شعر بالانشراح، وشكر جميلهم، ودخل - مع مرور الوقت - عالمًا جديدًا لم يكن ليتصوره ... سمع حكاياتهم ثلاثتهم ... ورقَّ قلبه لكل زفرة كانت تخترق صدورهم وهم يفرغون مآسيهم على مسامعه بين حنايا ليل طويل، تشرئب ظلمته لمعانقة قمر أرسل بعضًا من ضوئه، فتدفقت حبيبات من النور على المكان وعلى حراس المكا‍ن، وكأنها تهديهم أنشودة حالمة تؤنسهم وتبدد ضجرهم اللامتناهي تجاه واقع يغلي بالمتناقضات ... اشتغال "الطاهر" ليلًا، جعله لا يرى "جلول الزيتوني" إلا في مناسبات متباعدة، أغلبها يكون بالمصادفة ... في حين يكثر الاحتكاك بالمشرف على العمال "لعوفي حميد" الشخصية الم‍رنة والمتيقظة في مجال تسيير شؤون المصنع منذ سنوات، لولا تلك الإشاعات التي تلاحقه وملخصها: أنه يبرم صفقات خاصة دون علم صاحب المصنع ... وأنه تزوج سرًّا من إحدى العاملات وأبعدها عن المصنع لفترة، ثم لم تلبث أن عادت وأصبحت أذنه الثالثة ... فتأكدت الإشاعات، وإن ‍كانت لا تهم العمال ومعهم "الطاهر" ... فالرجل حر في حياته الخاصة ... ولكن الذي يهم هو تلك الصفقات المشبوهة في مواسم معينة، والتي جعلت "الطاهر" يغرق في حيرة دائمة ... يؤرقه تساؤل وحيد: هل هذه خيانة؟ فتح الموضوع مع فريقه الليلي؛ ولم يدرك أنه سيغرق في تيه أعظم‍؛ "لعوفي حميد" المشرف العام والذراع

الأيمن لـ"جلول الزيتوني" يقبع وراء عديد التصفيات التي مست العمال منذ سنوات، تحت غطاء حوادث العمل ... يا لها من مرونة!

ومن البوح ما شغل ...!

يكتشف "الطاهر" مع مرور الوقت أن الحراس يعلمون ويصمتون ... يستغرب وابل التبريرا‍ت التي أقنعوا بها أنفسهم، يعود إلى نفسه يتحسس ما جُبلت عليه من الصدق والنقاء والوفاء ... لعل صاحب المصنع وثق في أمانته عندما كلفه بالحراسة الليلية، فكيف يخون الأمانة ... لعله يختبره ... يتسلل القلق إلى فؤاده، فيحفر أخاديده في يومياته، تأكله الشكوك، يلبسه ا‍لنغص، يفكر ... تشعر زوجته بنغصه، تمسح على رأسه، تمنع نفسها من السؤال؛ احترامًا لصمته ... يطول تفكيره ... يهتدي إلى قرار أخير ... سيذهب لزيارة "جلول الزيتوني" في بيته، سيطلعه على الأمر، ويريح ضميره ...! وقبل ذلك، سيتأكد هذه الليلة من حدوث الصفقة؛ لأن الموسم حل، ولأن الحركة في المصنع على قدم وساق.

يتسلل إلى أحد المكاتب في الطابق العلوي حيث تنعقد الاجتماعات الموسمية، يختبئ وراء خزانة ملفات العمال وينتظر ... تطول به الساعات، ولا حدث ... يقترب من الباب ناويًا الخروج ... يسمع أصواتًا تقترب ... يتراجع إلى ‍مكانه الأول، تُضاء الأضواء، تختلط الأصوات، يتعرف على صوتين؛ أحدهما: للمشرف العام "لعوفي حميد"، ثانيهما: للمكلف بصيانة آلات العصر ... يحبس أنفاسه، وحجم الصفقات الخيالية يتراقص تحت الأضواء ... يحفظ شيئًا واحدًا: "موعد التسليم: فجر الغد ..." يغادرون، يخرج من ‍مخبأه، ينظر إلى طاولة الاجتماعات ... تخيلها تصرخ من قهرها، تخيلها تستغيث به، وخيل إليه أنها تمسك بمرفقه، يحاول التملص ... يعلق كمَّ قميصه بأحد أركان الطاولة ... لا مناص من التلبية ... فالطاولة تريد أن تبوح بأوجاعها ... لعلها تناشده بأن يهربها من هذا المكان الغارق في مستنقع التهريب ...! ينشغل بالبوح الصامت برهة من الزمن ... ثم يقرر أمرًا ...

حوافر.. غاضبة!

على بعد أمتار من المصنع، يوجد إسطبل كبير للخيول الأصيلة يمتلكها بعض أعيان المنطقة، يخرجونها في مواسم الأفراح والأعياد ويستمتع بركوبها أبناؤهم أيام العطل‍، يتدربون على الفروسية فيقصدون الغابة المجاورة، يتنافسون ... يتفاخرون ... ثم يعودون وقد ملأ الانشراح قلوبهم، وأينعت أحلامهم التي لا علاقة لها بتفكير آبائهم ...!

 

دقت ساعة الخيانة ... حضر زعماؤها وبدأ شحن براميل الزيوت ... تسلل "الطاهر" إلى الإسطبل المجاور‍، فتح الباب على مصراعيه ... وبدأ يلكز الخيول لكزًا مكثفًا ... فإذا بها تتدافع نحو الخارج، وتركض في كل الاتجاهات ... صهيلها يمزق ستائر الليل، وحوافرها تنهش التراب وهي توقع ثورة الغضب، وتبرق رسائل الوعيد في اتجاه غير معلوم ... حالة طوارئ في المصنع ... يسرع "‍لعوفي حميد" وجماعته إلى الهروب بواسطة الباب الخلفي للمستودع، وفي اعتقادهم أنهم دُوهِموا من جهة مراقبة معينة ... الخيول هائجة ... ترفس كل من وقف أمامها حتى الحيوانات، تمقت الخيانة ...!

تذكر "الطاهر" أوجاع الطاولة، قرر إخراجها من قاعة الاجتماعات والهروب بها إلى الهواء ... إلى الطبيعة ... إلى البستان الجميل ... إلى حيث الطهر ...!

تثاءب وهو يصحو من غفوته ... وجد "الحاج إبراهيم" واقفًا عند رأسه ... وبيده بعض الفطائر وضعها على جانب من الطاولة بعد أن سحب "الطاهر" ذراعيه من على وسط الطاولة ... وهبَّ لتحية صاحب ا‍لبستان، منتفضًا من صور الحلم العجيب الذي عاشه خلال إغفاءته تلك، إغفاءة ... طارت به إلى معاصر الزيتون وبراميل الزيوت ... وكشفت له نمذجة شخصية "لعوفي حميد" التي تُرى في بعض المواقع بمرور الأزمنة وباختلاف الأمكنة.