بيروت وبغداد تخلعان عباءات الطوائف
تاريخ النشر : 2019-10-21 22:38

تفاجئنا بيروت مثلما فاجأتنا بغداد بخروج جماعي للناس احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية وضعف الخدمات أو انعدامها، وتعبيراً عن رفض المشاركين للطبقة السياسية ومرجعياتها الطائفية، وهذا هو التحول الأكبر والأخطر والأهم في وعي الجموع التي خدعها من حشروها في مربعات الطوائف وخنادقها السياسية الفاسدة.

لا مصادفة في التشابه بين الحراكين العراقي واللبناني، فكلاهما يعبر عن وعي مجتمعي جديد يقدم الوطن على الطائفة، ويقدم الولاء للدولة على الولاء للحزب.

في بيروت كما في بغداد يكتشف الناس كذب النخب الحزبية المتكئة على العصبيات الطائفية، ويؤكد اللبنانيون في حراكهم الحضاري أن الوطن أكبر من الطائفة وأن رغيف الخبز أكثر قداسة وإشباعاً من وجبات التعبئة العقائدية لأحزاب مؤسسة أصلاً على فكرة التقسيم وفرز الناس بين سني وشيعي وماروني ودرزي.

لم يستطع الحاكمون بأمر مصالحهم الاستمرار في خداع الناس تحت يافطات الأحزاب الطائفية والعرف البائس في اعتماد الانتماء الطائفي بدلاً من الكفاءة المطلوبة لإدارة الدولة وحمايتها، وقد انكشف عجزهم قبل أن تنكشف أرصدتهم الخيالية في المصارف، ولم يعد ممكناً للميلشيات أن تحكم الناس بالسلاح وبالتخويف من القادم، مثلما لم يعد مقبولاً سطو هذه الميلشيات على إرث الأنبياء والصحابة.

خريف الغضب يجتاح بيروت، وقد سبقه صيف حارق في بغداد. وفي الحالتين خلعت الجموع عباءاتها الطائفية وتمردت على التقسيم البائس الذي يحدد مسبقاً الانتماء العرقي والطائفي لرئيس الجمهورية ورئيسي الحكومة والبرلمان.

بالطبع لم يحقق الحراك العراقي أهدافه حتى الآن، لكنه لم ينته أيضاً، بل ينطلق في موجات متعاقبه بدأت في الجنوب ووصلت إلى عاصمة الحكم غير الرشيد. وربما لا تستطيع موجة الحراك الشعبي اللبناني الحالي أن تصل إلى مبتغاها في الإطاحة بشراكة حكم زعماء الأحزاب الطائفية، لكن انفجار الحراك بهذه القوة وبهذه الأعداد يؤكد أنه حراك مستمر ودائم ومتجدد.

يرفض العراقيون واللبنانيون الاستمرار في لعبة التقسيم الطائفي للبلاد والعباد، ويريدون الخلاص من هذا العرف البائس، والفكاك من التوافقات الحزبية التي تتم على حساب أهل البلاد الذين يعيشون فيها ويموتون لأجلها بلا رهانات على مرجعيات طائفية وسياسية في عواصم الحلفاء القريبين أو البعيدين.

بداية التغيير أطلق العراقيون واللبنانيون شرارتها في انتفاضات عابرة للطوائف ورافضة للطبقة السياسية وتعبيراتها الحزبية الجاثمة على صدور الناس، وهي بداية نلمح تطابقها في المشهدين العراقي واللبناني اللذين يتطابقان أيضاً في تفاصيل الفساد وخداع الناس والعبث في حاضرهم ومصادرة مستقبلهم وسرقة أحلامهم.

لكن هناك اختلافاً في مواقف المرجعيات وانحيازاتها، حتى في الطائفة الواحدة، لأن موقف مقتدى الصدر المؤيد للحراك والرافض لأداء الحكومة التوافقية الطائفية في العراق يختلف كثيراً عن موقف حسن نصر الله الرافض لإقالة الحكومة التوافقية الطائفية العاجزة في لبنان.

رغم ذلك فإن الشارع الذي يبدو أنه تحرر من المسارات الطائفية الإجبارية في العراق وثار حتى على ممثليه الطائفيين لا ينتظر تأييد المرجعيات وإن كان يحترم انحياز بعضها للحراك، وكذلك فإن الشارع الذي يبدو أنه تسامى على الفرز الطائفي وأصر على لبننة موقفه بشكل كامل، لا ينتظر تأييداً أو رفضاً من رموز الطوائف في المعسكرين السياسيين الإسلامي والمسيحي، ولا تهمه مواقف القافزين من "التايتانك" قبل غرقها بدقائق.

باختصار ما جرى وسيجري في العراق، وما يجري في لبنان الآن انتفاضات شعبية تؤسس لثورات تغيير حقيقي تعيد الاعتبار للوطن كقيمة سامية عليا لا قيمة أخرى تضاهيها في قدسيتها. وإن كان للصدفة السعيدة مكان في المشهدين فإن اسمي عاصمتي الانتفاض، بيروت وبغداد، يبدءان بحرف الباء، وهو الحرف الذي تبدأ به أيضا كلمة "بداية".