الإردوغانية صوب هاوية "الممانعة"
تاريخ النشر : 2019-07-16 14:31

 يمكن اعتبار الإردوغانية إحدى الموجات السياسية العابرة والمفتعلة التي تتجاوز الحالة التركية وشخص وتجربة رجب طيب إردوغان، لتستقر في تداولها بين أنصار الإسلام السياسي كمعادل لتصدير ثورة الملالي، والانتقال من حالة السلم المجتمعي داخل المجتمعات العربية والإسلامية إلى فكرة تقويضية لاستقرار الدولة ومنطقها، وأحد مشروعات بناء دولة داخل الدولة على غرار الكيانات المستنبتة للإسلام الشيعي السياسي الثوري، كما هو الحال مع «حزب الله»، ومؤخراً الحوثي، لكن بفروقات كبيرة على مستوى التموضع والتمويل الذاتي والخطاب السياسي الأقل تجذراً وتفاعلاً داخل المجتمعات العربية الإسلامية، وتلك حكاية أخرى يجب أن تروى لاحقاً.

سقط الإسلام السياسي ما بعد «الربيع العربي»، المكوّن الأساسي لهوية الموجة الإردوغانية، التي تتبناها دول وأحزاب وشخصيات فاعلة من قطر وأذرعها الإعلامية وصولاً إلى الأحزاب السياسية التابعة لـ«الإخوان»، سواء التي لا تزال تلعب أدواراً سياسية في دول كالمغرب وتونس وليبيا، مع فارق الانخراط والتحالف مع التنظيمات الإرهابية علناً، أو على سبيل التبني والرعاية أو البقاء ضمن قواعد اللعبة السياسية بخطاب مزدوج ومقنّع، كما هو الحال مع حزب «النهضة» في تونس، وكان سقوطه سبباً في سقوط الإردوغانية ذاتها وانكشافها، وبشكل مدو وسريع، لأنها قامت على هويّة سياسية مفتعلة وبراغماتية، فإردوغان وقطر وبقية الجوقة استخدموا الإسلام السياسي لتمرير مشروعهم «إرادة الهيمنة» أكثر من إيمانهم بخطاب الإسلام السياسي، على عكس ملالي طهران؛ المشروع العقائدي الثوري، وإن اتفقوا في الهدف النهائي، وهو الانقضاض على مفهوم الدولة ومنطقها في دول الخليج والعالم العربي، واستخدموا الوسائل ذاتها، وأبرزها الانشغال بشعارات الاستعداء للغرب ودول الرفاه واستقطاب المعارضات السياسية وتيارات الممانعة من اليسار والقوميين الذين يمكن أن يتحالفوا مع الفراغ في سبيل استهداف أميركا وشيطنة الغرب والمجتمع الدولي بعد سقوط محور اليسار، وإن كانوا تراجعوا خطوة للوراء بعد عودة روسيا بوتين المفارقة للمعسكر اليساري التقليدي، كما هو الحال مع الصين التي ربما كانت الملاذ الأخير للمقامرين بورقة الممانعة حتى آخر رمق.

والحال أن سلوك الإردوغانية اليوم، خصوصاً بعد الاستراتيجية الجديدة لحزب «العدالة» التركي، بعد خسائره الفادحة والمرشحة للصعود، تقوده إلى الارتماء في هويّة بديلة للإسلام السياسي، وهو الانضمام إلى خطاب الممانعة واللعب على تناقضات التوترات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا بوتين والصين، وكان آخرها قضية منظومة الصواريخ الروسية التي لا شك أنها ستزيد من حالة التعقيد في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما بعد الرضوخ لمنطق روسيا في سوريا الأسد، والتخلي عن السوريين حتى على مستوى الجانب الإنساني والإغاثي، والانتقال إلى مربع إشعال الفوضى في مناطق أخرى يستثمر فيها «تيار الإردوغانية» وذراعه الإعلامية قطر - «الجزيرة» بمحاولات حثيثة لاستعادة هويّته المصطنعة الإسلام السياسي و«الربيع العربي»، كما نرى في السودان وليبيا والجزائر، والإصرار على استهداف الخليج والسعودية بوتيرة أكثر تصعيداً.

هاوية الممانعة وشعاراتها التي لا تتصل بالسياسة أكثر من مداعبة عواطف الجماهير والإعلام الاستهلاكي الأكثر صخباً ودوياً، حيث بات الإعلام اليوم لا علاقة له بالخبر، بل بصناعة الخبر، هي خيار الإردوغانية في السقوط والتلاشي، وهو ما سينعكس أولاً على تركيا الدولة قبل غيرها، لا سيما بعد التغييرات الهائلة في الداخل التركي الذي يحتاج إلى سنوات لاستعادة عافيته واسترجاع ما بناه أتاتورك، فتركيا إردوغان لم تعبث بالحالة السياسية خارج الحدود، بل ساهمت في تجريف التركيبة السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع التركي، بشكل يمس هوية الدولة المستقرة.

التشبه بسلوك ملالي إيران بات خيار موجة الإردوغانية عبر استعداء الجميع، ومحاولة خلق خطاب واقتصاد الأزمات والعيش عليها، ورغم الفروقات الكبيرة بينها وبين إيران، ووضعها الداخلي الهش، فتركيا تواجه انهياراً اقتصادياً في حال مضيها نحو فخ الممانعة ومعاندة الولايات المتحدة، ولو بشكل مصطنع وإعلامي، فلديها عبء من الدين الخارجي يفوق نصف مليار دولار، كما أنها تستورد من الغرب الذي تستعديه خمسة أضعاف ما تستورده طهران.

الأوضاع الاقتصادية كانت سلاح إردوغان وكارت مقامراته السياسية، لكنه اليوم يفقد أهم أسلحته في وقت يعيش العالم تحديات اقتصادية هائلة، ومن المرجح أن تقع تركيا في مأزق تلك التحديات مع زيادة تراجع العملة إلى تقلص الاستثمارات الأجنبية، على خلفية خطاب الاستعداء والمواجهة لأوروبا، وتراجع العلاقات مع الولايات المتحدة، الحليف الذي قرر فرض عقوبات على تركيا، بينما لا يملك إردوغان ومن وراءه تيار الإردوغانية سوى الارتماء في هاوية الممانعة وشعاراتها التي ما عادت تقنع لا الأتراك، كما هو الحال مع الإيرانيين الذين صاحوا في الملالي ذات مرة: «التضخم هو الشيطان الأكبر».

عن الشرق الأوسط اللندنية