ترامب ولعبة التراجعات
تاريخ النشر : 2019-07-07 19:47

في أقل من أسبوعين، تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عدد من الملفات الرئيسة، وبشكل مخالف لارتفاع الضجيج الذي أثاره في هذه الملفات قبل ذلك بشكل مبالغ فيه. ويمكن رصد هذه الظاهرة بشكل خاص في ثلاثة ملفات رئيسة تكاد تكون من أهم مكونات وعناصر سياسته الخارجية منذ حملته الانتخابية وحتى الآن، وهي: الملف الإيراني، والكوري الشمالي، والأهم ملف العلاقات الاقتصادية مع الصين، وكل تراجع حصل لأسباب مختلفة، ولكن تزامنها تقريباً يحتاج إلى وقفة.

كما هو معروف، صعّد ترامب هجومه وحملته ضد إيران في الأسابيع الأخيرة، ونشر مزيداً من القوات الأميركية في الخليج العربي، وفي قواعده المنتشرة في المنطقة، وفرض مزيداً من العقوبات الاقتصادية على طهران والأطراف المتعاملة معها، ثم جاءت واقعة الطائرة الأميركية المسيرة التي أسقطتها إيران معللة ذلك بانتهاكها للأجواء الإيرانية، وهو ما نفاه ترامب في البداية، وأمر بتوجيه ضربة انتقامية وتأهبت قواته، ثم أصدر أوامره في اللحظات الأخيرة بإلغاء الضربة، معلناً أن أسباب ذلك أنها كانت ستطيح بحياة أكثر من 150 إيرانياً، وإن كان لم يوضح ما إذا كان هؤلاء من المدنيين أو العسكريين. من ناحية أخرى حذرت روسيا من هذه الخطوة، مؤكدة أن الجانب الأميركي هو الذي انتهك الأجواء الإيرانية. وأشارت الشواهد آنذاك إلى أنه إذا كان غرض ترامب من هذا التصعيد الضغط من أجل تحقيق نتائج أفضل في المفاوضات التي كرر الدعوة إليها، وأصدر بعدها أكثر من دعوة مبطنة للتفاوض، فإن حدة التصعيد في الوقت ذاته، شكلت عقبة أمام بدء التفاوض، وكانت ستعني من وجهة نظر الجانب الإيراني التسليم بأن الضغوط الأميركية أسفرت عن بدء تغير السياسات الإيرانية، وهو أمر من الصعب تصوره من أي نظام أيديولوجي يقوم على التعبئة الجماهيرية والحشد الشعبي، والحاجة إلى مواجهات خارجية لتعميق الولاء والسيطرة الشعبية في مواجهة قمع المواطنين سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو يعرف، أي هذا النظام، أنه استفاد من الحرب ضد العراق، ومن المواجهة ضد كل من إسرائيل والولايات المتحدة لتبرير استمراره، مثلما تستفيد كل من واشنطن وتل أبيب مما تمثله إيران من تهديد لتعميق نفوذهما الإقليمي وتمدده.

كما أن النظام الإيراني يردد دوماً أن الجانب الأميركي هو الذي تراجع أولاً عن الاتفاق النووي، وكذلك تردد طهران أن واشنطن تسعى إلى إسقاط "نظام الملالي"، وأن سياستها تتجاوز البرنامج النووي لأهداف أميركية أخرى.

تراجع ترامب عن الضربة العسكرية، كان قراراً محسوباً من أنها قد تقود إلى سلسلة مواجهات عسكرية وشبه عسكرية من حلفاء طهران من الميليشيات، ربما تصبح معها الحرب المتسعة النطاق غير قابلة للتحكم، وتحتاج إلى حشد عسكري أكبر بكثير من الحشد الراهن وفقاً لتقاليد العسكرية الأميركية التي تحرص على تقليل الخسائر البشرية قدر الممكن. كما أن مثل هذا يحتاج إلى قرار بالحرب يصعب تصور قبول الهيئة التشريعية الأميركية به في ظل المعلومات غير المؤكدة عن موضع الطائرة عند استهداف إيران لها، ويضاف إلى كل ذلك أنه لم يكن في واشنطن وزيراً للدفاع في تلك اللحظة، وهو ما تداركه ترامب بعد ذلك.

النموذج الثاني، هو حالة كوريا الشمالية التي شهدت تصعيدا حاداً منذ أكثر من عام، كنا نراه منذ البداية بهدف التفاوض، ومحاولة تحقيق أهداف أميركية، ثم أعقب ذلك عقد لقاءين بين الرئيسين الأميركي والكوري الشمالي في 2018، ثم في شباط (فبراير) الماضي في العاصمة الفيتنامية هانوي، فضلاً عن لقاءات عدة بين مفاوضي البلدين، كلها مبنية على الفرضية "الترامبية" نفسها وهي المصالح الاقتصادية مقابل التنازل عن الترسانة النووية، أو لنقل الاقتصاد في مقابل المصالح السياسية والعسكرية. ولكن لم تتجاوب كوريا الشمالية، فهي منذ البداية تشير إلى أطراف عربية تخلت عن أسلحة الدمار الشامل، وأكملت الولايات المتحدة القضاء على نظمها السياسية وحتى استقلالها السياسي الكامل. وأثبت الطرف الكوري الشمالي أنه أيضا مفاوض شرس يتحكم في أعصابه، ولديه رصيد طويل من التقشف ومواجهة الحصار والعقوبات، ولا يمانع في مزيد من استمرار هذه المعاناة قبل تحقيق صفقة تفاوضية أفضل من وجهة نظر حسابات نظامه السياسي.

وجاءت تطورات ما بعد "قمة العشرين" في اليابان لتمهد لتراجع أميركي واضح، في لقاء ثالث بين ترامب وكيم تميّز برمزية سياسية لافتة للانتباه يزور فيها الرئيس الأميركي المنطقة الكورية المحايدة منزوعة السلاح، ويعبر منها في مشهد تمثيلي قصير إلى أراضي كوريا الشمالية للمرة الأولى في تاريخ الرؤساء الأميركيين. لم يحقق الاجتماع شيئاً ملموساً، ولكن بدأ يتردد كلام حول صفقة جديدة تتضمن تجميد السلاح النووي الكوري الشمالي، وهو ما سيمثل نصراً استراتيجياً واعترافاً بكوريا الشمالية في النادي النووي للكبار، ويحقق لها مكاسب سياسية عسكرية وليس فقط اقتصادية. وهذا ما يستحق وقفة خاصة. ولكنه في النهاية يمثل تراجعاً مهماً ثانياً لإدارة ترامب.

أما النموذج الثالث، فهو الحرب التجارية ضد الصين، التي تناولناها في هذا المكان منذ أسابيع قليلة، وناقشنا مدى إمكان نجاح واشنطن في عرقلة صعود الصين، وتوقعنا صعوبة ذلك، بل خلصنا إلى أن تكثيف الضغوط الأميركية قد يؤدي على العكس إلى احتمالية تسريع هذا الصعود. وفي الواقع، إن التنازلات الأميركية التي تمت على هامش "قمة العشرين" بالغة الدلالة، إذ أعلن ترامب العودة للتفاوض، وأنه لن يفرض عقوبات اقتصادية أو جمارك إضافية، كما بدأ الحديث عن التراجع عن حظر شركة "هواوي" الصينية، وهو ما سيتأكد في المرحلة المقبلة.

مهم أن نشير هنا إلى تواتر بعض التقارير الغربية والأميركية عن أن فاتورة زيادة الجمارك على السلع الصينية، يدفع جانباً منها المواطن الأميركي أو الشركات الأميركية، وأنه على رغم أن هذه الإجراءات الجمركية أدت إلى توفير أعداد من الوظائف للمواطنين الأميركيين، لكنها أدت أيضاً إلى زيادة كلفة معيشة المواطن الأميركي، كما يجب تذكر أيضاً مسألة الاعتماد المتبادل بين البلدين والتي راهنا عليها في مقالنا السابق، وهو ما يعني وجود استثمارات مشتركة بينهما، من المؤكد أنها تشارك في تحمل الخسائر عن هذه الحرب التجارية، كما أنها تخلق مناخاً من عدم الثقة وعدم الاستقرار الاقتصادي، ما قد يولد أنشطة ضغط مضادة في مجتمع معتاد على جماعات الضغط الاقتصادية التي تشكل مكوناً رئيساً في الثقافة السياسية الأميركية.

خلاصة هذه الملفات الثلاث، أن الإدارة الأميركية تتراجع في ثلاثة مواضيع من أهم مواضيع السياسة الخارجية بالنسبة إليها. وربما يعود ذلك إلى إدراكها المتزايد أن هذا التصعيد وسياسات حافة الهاوية لم يحققا أهدافهما بل يسببا إحراجاً للبيت الأبيض، الذي يجب أن يستعد للانتخابات بعد عام. كما ان هذه التراجعات تشكل إضافة إلى مظاهر تآكل هذه الدولة وهيمنتها، وهي جزء من مشهد تحولات المجتمع الدولي الراهنة.

عن الحياة اللندنية