الحقيقة المقلوبة
تاريخ النشر : 2013-10-29 11:53

 من ابداعات المرحلة تحويل الهزائم إلى انتصارات ، ليصبح الضجيج مطلوب في هذا التوقيت الدقيق وتختلط الحقائق مع التدليس ، لكن لكل قصدّ غاية ، وغاية قلب هزيمة 1973 م إلى انتصار تحتاج إلى اضداد بحجم الآلة العاملة في اظهار ما لم يكن ، أنه قد كان ، حكايتها حكاية ، حيث جاءت مكملة من الجانب الإسرائيلي بل متممة لهزيمة 1967 م ضمن تغاضي محمول بثقافة اشعاعية ، تُبِث في الذهنية المصرية أولاً يليها العربية ثانياً بعد أن لاقت نخبة منتقية من الأبواق ، ساعدت وتساعد ضمن سياقاتها على مدار العقود التى تلت في ترسيخ العبور كأنه ، معركة المعارك الأخيرة ، الذي أحرز ما يتوجب احرازه من انتصار يُنهي بذلك الصراع العربي الإسرائيلي ، فعلاً كان لإسرائيل ذلك .

قد تكون مفارقة المفارقات تكّمن في ما بعد العبور ، حيث حقق الجيش المصري في الساعات الأولى الست اختراق لخط حاييم بارليف بعد أن سدّت القوات الأنابيب التى تصب في قناة السويس ، تمهيداً للعبور ، وكانت في الحقيقة العسكرية عملية غائبة بالحسبان عند الإسرائيلي ، كون فكرة الخط ، امتددت ، بل بالأحرى استنسخت من خط ماجينو الفرنسي في حرب العالمية الأولى التى اعتمدته فرنسا كإستراتيجية دفاعية عندما قررت انشائه ، لصد أي هجوم ألماني في المستقبل ، لكن الألمان تمكنوا وضع خطة بديلة معاكسة للعقلية الفرنسية ، حيث تركوا قوة شكلية مقابل الخط ، فيما اندفعت القوات ألمانية عبر البلدان الواطئة كهولندا وبلجيكيا متجنبين خط ماجينو وبذلك نجحوا في اللولوج إلى باريس ، وهذا ما ترسخ في العقيلة الإسرائيلية ، استحالت مغامرة المصريين بالتقدم نحو بارليف ، بالرغم ، أن القوات المصرية أخذت من التحرك والتفاعل على الضفة المقابلة نهجاً تكتيكياً ، أوهمت الإسرائيلي بأنه روتيني ليتضح بأن الروتيني أصبح استراتيجي هجومي حقق في الساعات الست ما لا يخطر على بال العسكرية الحديثة ، حيث تحطم خط حاييم بارليف ، الذي جعل الانتصار ممكناً وفُضِحتّ المقولة الخرقاء التى ترى بأن الهزيمة قدراً للعرب ، حيث باتت من تأويلات الماضي الصقيع في وقت أشعلت القوات المسلحة المصرية فواهات النار على عرض الخط ، لتغسل فيها المهانة العسكرية التى اُلّصقت بها عام 1967 م ، لكنها انتهت غير كاملة ، كأنها تحولت مطاردة لقطة سوداء في صحراء مظلمة ، أفقدتها التوازن والتفوق ، وأوقفت اطلاق النار عند حد العبور ليتجمد الانتصار .

تُظهر ساحات القتال بأن الإعّداد الجيد وإبقاء حالة التأهب المصحوبة بالتأهيل المستمر يؤتي ثماره ، رغم أن ما حدث بعد 1973 م ، فرض تغييرات على سياسة الجيش كلياً من حيث الشكل والمضمون ، ابتدأت مرحلة مغايرة تماماً عن ما سبقها من عقيدة كانت قد حددت البوصلة ، ومن هنا لا بد أن يسجل التاريخ مرحلتين ، يعاد النظر بهما لفهم ما نتج عن كل منهما ، حيث تحمل عبد الناصر كامل المسؤولية وتبعات الهزيمة بما فيها ضياع القدس والأقصى ، الأمر الذي دفعه إلى إعادة تصحيح الخطأ قبل أن يتحول إلى خطيئة ، فكان ، استعادة الأراضي التى احتلت الهم الأول وليس الأخير ، هدف ضروري تحقيقه ، لكنه يبقى خطوة ضمن خطوات متكاملة لدى الرجل ، تماماً ، عكس ما كان يحمل السادات من نوايا مبيتة الذي ارتأى بأن المسألة تنحصر بين الجانبين الإسرائيلي وسادات ، وبهما ينتهي الصراع ، وهذا ما حصل عندما حققت القوات المسلحة اختراق خط بارليف وتمركزت عند الضفة الأخرى من القناة ، التى سارعها تحرك اسرائيلي مباغت انتجت ثغرة الدفرسوار ، كأن التلكؤ المصري بين الاستمرار نحو التوغل والتوقف خوفاً من العواقب ، أتاح لاحقاً للإسرائيلي استحضار من التاريخ العسكري الألماني عندما التفت قواتها تاركةً خط ماجينو الفرنسي ، لتنهي حرب العبور بفترة زمنية قياسية لا غالب ولا مغلوب ، مما أبقت سيناء مرهونة للتفاوض القادم ، وأُدخل الجانب المصري بنفق وقف اطلاق النار ومن ثم تنفيذ لما حُضر مسبقاً من مخطط لعملية سلمية ناقصة تُشّبه في القياس الحرب الناقصة ، لكن في الواقع ، سادة السطحية من خلال آلة تربيعية تعددت فئاتها في الوقوف خلف المؤسسة العسكرية ، مهمتها ترويج الترتيبات التى جرت والجارية ، بأنه الحد الأعلى لما يمكن أن يحصل عليه المصري والعربي عموماً ، لِيُفاجأ المصري قبل غيره بأن سيناء مازالت حبيسة القرار الاسرائيلي ، لكن بصيغة حكم ذاتي مصري ، محكومة بقوانين خاصة ، صاغتها المفاوضات الثنائية أدت إلى عزلها كلياً عن الحكم المركزي في القاهرة ، حيث اُحيلت إدارة شؤونها على وجه الخصوص لإدارة الاستخبارات العسكرية في الجيش المصري ، الجهة الوحيدة المكلفة بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي فجعلت سيناء منطقة سياحية للإسرائيليين بامتياز ضمن برنامج تدريجي تعاوني يختص في بناء منتجعات يملكها رجال أعمال من الطرفين ، فيما تحولت القلة من السكان إلى أداة خدامات مقابل أغلبية يشتغلون بالتهريب وتبعاته دون أن تسجل الحكومة أي نوع من الاهتمام للبنية التحتية والفوقية على الإطلاق ، باستثناء ، طبعاً ، التجمعات السياحية وحولها والّوصول إليها ، التى جعلها منطقة فاقدة الهوية والانتماء مما سهل للجماعات اختراق أهلها لما يشعرون بالغبن والتجاهل عبر العقود الماضية .

الساعة دقت ، إذاً ، مناقشة هذه الجوانب ، الآن ، وعدم تأجيلها يساعد بوقف النزيف والابتزاز الفكري ، حيث وُضِعَ عبد الناصر ضمن اطار الاختزالية ، موجعة ، تتضمن فقط صراعه على السلطة مع الاخوان المسلمين ، مقابل ، حُذفت أصل الفكرة التى اجتهد الرجل في ترسيخها ومن ثم انجازها ، وذلك ، ببساطة يُترجم ما يجري منذ أن فوض الجيش حكومة ببلاوي إدارة الجمهورية ، لم يتغير حال الاقتصاد بل الخدمات العامة إلى الوراء والبطالة بازدياد والقمع نهج ممنهج بعد ما قرر الشعب في 30 يونيو/حزيران أن يقدم من الميدان استقالته في ذروة الغضب ، أعاد بها ارادته المنتزعة في 25 يناير ليضعها بين أيدي الجيش ( أبو المكانة المفقودة ) مع كامل الصلاحيات دون مسائلة ولا محاسبة لحد السلب ، التى جعلت من الأمن الاجتماعي مهدد بل أضيف له معارك مسلحة لم تقتصر على سيناء فقط ، توسعت في الآونة الأخيرة وبدأت تطل برأسها إلى القاهرة ومدن اخرى تتسلل إلى عقر الديار الأمنية ، بالإضافة إلى تراجع سلوك الخارجية المصرية كأنها في عهد مبارك ، مخطوفة ، لدرجة باتت مصر معزولة عن الشأن العربي والمجال الأفريقي وحصرّت نفسها بين التراشق الاعلامي المتبادل المتدني من خلال بعض الإعلاميين المهووسين ، رغم المساعدات الهائلة التى تدفقت في الأيام الأخيرة ، تماماً كما خيم الصمت المقصود بعد ما شهدت تصريحات تصاعدت حدت نقاشاتها حول التحركات الأثيوبية لبناء سد النهضة التى تواصل أديس باب استكماله ، حيث اتضحت أن الأصوات التى لامت حكومة قنديل على عجزها في تقديم أي اصلاحات جذرية تلبي طموحات الشعب وتحويل آماله لواقع ، كانت تصب في مصلحة استرجاع قيادة الجيش للحكم المطلق ، تماماً كما استطاع المجلس العسكري من قبل ، تحريف مسار الثورة كي يتدفق ما اُنجز من خلال الميادين إلى مصالحه الضيقة ويتخلص من عبء التوريث ، الذي دفعه أن يتحمل مرحلة مرسي ، ثقيلة الوطأة من خلال وضع عراقيل ، وأوّهم الإخوان والرئاسة بأنه منحاز معهما إلى أخر رمق ، فكانت النتيجة بأن طرفيّ المعارضة خرجوا بخفي حنين ، لا جاؤوا بديمقراطية ولا إعادة بناء .

منذ الإطاحة بمرسي ، تعهدت قيادة الجيش المصري باستئصال الإرهاب من سيناء في غضون مدة زمنية محددة غير مفتوحة ، إلا أن العمليات تتمدد طولاً وعرض البلاد ، قتل وتفجيرات وتفخيخات للأفراد والمركبات الجيش ، وذلك يعود إلى تراجع العقيدة القتالية لدى أفراد الجيش بل يتضح يوم بعد الأخر ، الانهاك والتذمر ، كأنه يقول بأن البوصلة انحرفت ، وتتحول تدريجياً إلى حرب سياسية مسلحة تُزّهِق أرواح أولاد البلد الواحد ، تُشابه حقبة الثمانينيات التى تسلحت بفرض قانون الطوارئ وتفردت أيدي القمعيين بمعزل عن القانون والقضاء بالمحاسبة والقهر دون تمييز بين فئات ومكونات الشعب ، ليختلط الصالح بالطالح ، لكن ما يغيب عن ذهن قيادة الجيش بأن الخصوم لم يتغيروا ، وإنما ، الذي تغيير حجم وإمكانيات الخصم والبعد اللوجستي الذي بات يتمتع به من جغرافيا واستقطاب لأفراد وإمدادات وقوة تخطيط وتدريبات نوعية وصلابة عقيدة قتالية مرتبطة جميعها بالبوصلة التى على اساسها تشحن وتُنظم وتستمد قواها ، بعد أن تخلت معظم الجيوش العربية عنها وباتَّ الواقع الذي يكره الفراغ قابل على أن يستوعب مجموعات من هذا النوع ما دامت الأخرى شاخت حد الصدأ .

التاريخ يوثق بأن المشهد المصري وقع بين الانخداع والخداع المستمر ، عامداً ، فكل التضحيات التى قُدمت من أجل استرجاع الكرامة الإنسان ونيل حريته من خلال تأهيل نظام ديمقراطي يخضع لمسائلة القضاء والبرلمان تبخر وكأن لم يحدث ثورة أو حتى حراك متواضع ، فليس ثمة مشكلة بأن يكون الرئيس من أركان الجيش ، لكن المسألة أن تخوض الدولة انتخابات حقيقية ، تتمثل بها مكونات الشعب دون اقصاء ولا عمليات تمشيط تؤدي إلى اقتلاع الخصوم من الساحات السياسية والمعارضة ، كي تتيح للقادم سهولة الإجهاز على مكونات الدولة برمتها ، ليعاد الاستبداد هذه المرة بطلب جماهيري ، حيث استبدَّ بهم الحال لدرجة لم يعودوا قادرين على التمييز بين الافكار والحقائق ، ووقعوا بين استبداد العسكر وتخوفهم من دمرقطة تأتي بنظام ثيوقراطي يؤسس مرحلة أشد تجذراً بالسلطة عما سبقها من مراحل .

لم تكن الكلمة أبداً يوماً بمعزل عن القياس ، لأنها باختصار خاضعة للأفعال ومحكومة بالنتائج وبالتالي لا تصلح لإنقاذ صانعها مادامت لم تخض أي احتكاك ، فللانتصار انعكاسات واضحة لا لبس فيها ولا تحتاج لإثباتات وقرائن من نوع فذ ، بل هي مؤشرات اقتصادية متنامية يحيطها قوة عسكرية مستقلة ، قادرة على وضع إنتاجية قوتها في خانة التوازن المضاد التى تجد حلول لتداّفع الأجيال وتلجم مطامع الطامعين وتُحقق غايات الأمة ، مغايراً لما هو سائد من مغلوط مقصود يعتاش من خلاله المتسولين عندما حرفوا المعركة إلى أم المعارك وحولوا الهزيمة التى بدأت بسيناء حتى وصلت إلى اختطاف قرار السياسي بالقاهرة ومن ثم تقليم اطراف الأمن القومي للجغرافيا ، فمن يريد السير على خُطى عبد الناصر ، قياسه ما سلف .

والسلام

كاتب عربي