أي خيارات للسلطة الفلسطينية في ظل الاستعصاء القائم؟
تاريخ النشر : 2013-10-28 23:08

بعد عشرين عاما من توقيع اتفاق أوسلو، يمكن الاستنتاج والاستدلال ببساطة، أن أوسلو اسرائيليا، ومنذ البداية؛ أريد له أن يختلف اختلافا جذريا عن أوسلو كما توارد في الذهن الفلسطيني، أو هكذا أراده الإسرائيليون بتوجه واع ومخطط له من قبلهم، أن يكون؛ فأوسلو الإسرائيلي استمرار لما كان قبلا من مشروع آلون إلى روابط القرى إلى الإدارة المدنية، وصولا إلى استنتاجات لا تسووية ما زالت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتمسك بها، وبكل ما يناقض المشروع التسووي الفلسطيني. حتى إن أوسلو فلسطينيا لم يعد يجد شريكا في الجانب الرسمي الإسرائيلي؛ يؤمن بحل الدولتين فعليا وعمليا، أو بتسوية ضمن حدود العام 1967، في ظل استشراء الاستيطان في أراض يفترض أنها تقع في نطاق الدولة الفلسطينية المفترضة، وفي ظل تمسك بمناطق الأغوار المحاذية للأردن، إلى حد طرد سكانها الفلسطينيين منها بحجة وذرائع استخدام أراضيهم كمعسكرات للتدريب.

وعلى رغم التجربة العشرينية المريرة، ما زالت المفاوضات تستأنف بين الحين والآخر، من دون الوصول إلى ما يناقض الأساسات التي رست عليها اتفاقات أوسلو التي أضحت في العرف الإسرائيلي، مجرد سياسة يمكن نقضها في كل حين، طالما هي تتعارض ومفاهيم الأمن والتطلعات الصهيونية القائمة على وجود إسرائيلي دائم في أرض فلسطين التاريخية. ونظام من السيطرة استقر عند حدود عليا من الهيمنة السياسية والعسكرية وأخيرا الاقتصادية حتى.

إن استمرار الوضع الوطني الفلسطيني ومراوحته عند عتبة أوسلو، في ظل مراوحة تفاوضية، لم تستطع أن تتخطى أو تخترق أي سقف أو حد تسووي ممكن، وفي ظل شروط عجز الوضع الفلسطيني والعربي وحتى الدولي، من أن يساهم أو يساعد على مثل هذا الإختراق، أقعد القيادة الفلسطينية وحولها إلى مجرد سلطة لحكم ذاتي، جعلها تنتقل قسريا نحو اتجاهات تتناقض ومنطق التحرر الوطني، وحصر مطالبها وأهدافها الراهنة في إتمام عملية تسووية، ليس شرطا أن يكون مآلها الحتمي الوصول إلى دولة فلسطينية على حدود العام 1967، مستقلة حقا بعيدا من الاستيطان والمستوطنين، وبعيدا من استبعاد تواصلها مع محيطها العربي، من قبيل محاولات استمرار السيطرة على مناطق الأغوار على الحدود مع الأردن. ولهذا جرى طرح موضوعة "تبادل الأراضي" كنوع من استمرار المماطلة والتمحك الإسرائيلي، غير القابل للتغيير أو التعديل، لا سيما في ظل حكومات إسرائيلية تزداد تطرفا ويمينية مع الزمن الضائع من عمر أوسلو منذ عشرين عاما، لم تشهد تقدما يُذكر في الفكر السياسي الإسرائيلي الذي يسيطر عليه هاجس الأمن بشكل رئيس.

وبعيدا من أوهام إمكانية تحقق تسوية ممكنة جراء المفاوضات العبثية الراهنة، أو حتى بعد عشرين عاما من الآن، فقد أثبتت تجربة الواقع المرير، أن ليس لدى المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، أي ذرة من استعداد للتخلي عن نهج فرض الأمر الواقع الاحتلالي بالقوة، فليس لديهم شبيه بديغول، ولا الإسرائيليين أنفسهم يمكنهم في ظل الوضع الحالي المريح لهم، أن يتحولوا ويحولوا مزاجهم نحو تسوية ممكنة، أضحت تتلاشى وتضمحل رويدا رويدا، لا سيما في ظل وضع إقليمي ودولي متهاون ومنشغل بقضايا أخرى؛ بعيدا من هموم الفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

بين طيات هذا الوضع الأليم، يبقى السؤال الأهم ماذا تبقى من أوسلو بعد كل هذه السنين؟

ما عول عليه الإسرائيليون ويعولون عليه، أن تبقى لهم السيطرة الفعلية الأمنية والإقتصادية على كل الأرض التي يزعمون أن "الإله وعدهم بها"، ولهذا فإن تلك السيطرة هي "التجسيد البشري" لذاك الوعد الاستعماري الكولونيالي، بعيد المدى، كونه استند ويستند إلى "مقدس" مزعوم وموهوم؛ وهو لن يحول أو يزول، طالما بقي الطرف المقابل (الفلسطيني)، يبني على أساسات أوسلو، ما يتطلع أو يحلم أن يحقق له مشروع دولته المستقلة، كحد أدنى لتحقق مشروعه الوطني القائم على ثوابت قيامة دولة علمانية ديمقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية، ككيان سيادي غير متنازع عليه.

لم يبق من أوسلو، ذاك الأمل بانسحاب الاحتلال إلى حدود العام 1967، حتى يتاح فعليا وعمليا قيام الدولة الفلسطينية، تجسيدا لحل الدولتين، فهذا ما لم يتضمنه الاتفاق أصلا، وإن جرى تبني ذلك لفظيا من قبل نتانياهو أو وزراء في ائتلافه الحاكم. وكل ما تبقى ليس أكثر من كوابيس أو أضغاث أحلام، عولت وتعول على مسيرة مجهضة من المفاوضات، ومسار إنتقالي لم ينتقل قيد أنملة طوال كل تلك السنين التي استغرقتها مسيرة أوسلو، من دون أن يتضح أو يتبين للطرف الفلسطيني أن مشروعه الوحيد أو الأوحد للتسوية المؤقتة أو "التاريخية" يتحقق، أو هو في سبيله للتحقق، أو يمكن تحقيقه في وقت من الأوقات العصيبة التي عملت وتعمل إسرائيل من جهتها على إجهاضه، أو الإبقاء على مراوحته الدائمة، من دون السماح له بأن يتقدم ولو بخطى سلحفائية بطيئة.

على العكس من ذلك، حققت حكومات الاحتلال أغلب مصالح وتطلعات الإسرائيليين، والمستوطنين منهم بالتحديد، في ظل ترسيخ الجدار وتثبيت المستوطنات ومحاولة استكمال تهويد القدس. في حين لم يتحقق للمشروع الوطني الفلسطيني سوى المزيد من التراجعات والخسائر التي حاقت به كمشروع للتحرر الوطني، لا كمشروع لإدارة أزمة أو على الأرجح لإدارة دولة موهومة، تقبع تحت الاحتلال، وتخضع لإملاءاته ولإملاءات المانحين الغربيين وغيرهم، ما حدّ من مساعي رفع السقف الوطني للمطالبة بدولة فعلية على أرض سيادية فعلية، بلا احتلال أو استيطان ومستوطنين.

لهذا تحديدا، بات ملحا ومن أبرز مهمات الواجب الوطني، الذي يجب التصدي لها، من قبل الوضع الفلسطيني بمجمله، صياغة استراتيجية كفاحية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار أن أوسلو، وقد تقادم عليه الزمن، وبانت وانكشفت كل مثالبه، في ظل وقائع استيطانية واحتلالية تناقض روح وجوهر الاتفاق، وصولا حتى روح وجوهر ما رست عليه تلك الجولات التفاوضية العبثية الماراثونية الطويلة، من دون أن تسفر حتى عن "شروى نقير" يمكن التعويل عليه مستقبلا.

إن تجديد المشروع الوطني الفلسطيني، يحتم العودة إلى تجديد المنطلقات الكفاحية، وتحديدها مجددا، وفق واقع ووقائع ما رست عليه سرديات المشهد الوطني الفلسطيني، وآليات ومعايير الوعي الوطني، ومحددات الهوية الوطنية المضادة والمعادية لمعادلة نفي الهوية الفلسطينية عن الأرض والشعب تاريخا وجغرافية وديمغرافية؛ تحاول إسرائيل قلب معادلاتها لصالح مستوطنيها في القدس والضفة الغربية، وفي الأغوار، وفي كل مكان من فلسطين التاريخية؛ المهم أن يبقى الفلسطيني شريدا في معادلة الاحتلال، والمستوطن اليهودي مواطنا "أصيلا" أو "أصلانيا" في كيان الاحتلال الكولونيالي.

المهمة الراهنة والملحة بعد عشرين عاما من أوسلو وتداعياته الكارثية: الدفع نحو استنهاض شعبي فلسطيني معادل لربيع عربي يثور على أنظمة الاستبداد، من دون أن يسلم راياته لقوى متخلفة، هي بالأصل قوى معادية للتقدم والحداثة والمعاصرة والتنوير، ترث أنظمة استبداد سياسي هي في استبداديتها الدينية أفظع وأكثر فاشية. وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، تتطلب تلك الاستعادة والتجديد للمشروع الوطني، وانتزاعه انتزاعا من أيدي قوى المحاصصات الفئوية، وحتى لا يبقى رهنا لقوى المصالح الزبائنية السلطوية والوظائفية، والمحسوبيات التي ترى في استمرار الستاتيك الراهن والاستعصاء الراهن، قمة تحقق المصالح الأنانية والنرجسية، لفئات طبقية آلت وتؤول على نفسها أن تبقى ما بقي أوسلو، والمفاوضات والتنسيق الأمني، رهين التعاطي مع الاحتلال، على حساب الضرورات الوطنية التاريخية التي تجسدها القضية الوطنية، والمشروع الوطني، ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ ككيان وطني جامع لكامل القوى الوطنية الفلسطينية.

في كل الأحوال، ينبغي أن تبقى السلطة الفلسطينية رهينة منظمة التحرير وليس العكس، ولكي تبقى كذلك، المطلوب الخروج من حال الاستعصاء التفاوضي الراهن، نحو انفتاح آفاق جديدة لكفاح وطني يجدد المشروع الوطني ولا يميته بالتقادم، ويضيف إليه، ولا ينتقص منه ومن أساساته، حيث قضمت أوسلو بعض تلك الأساسات، وستبقى تقوم بمثل هذا القضم؛ طالما استمر الوضع الوطني الفلسطيني في سلسلة تراجعاته، وفي مقدمته ذاك الانقسام الذي شكل وما يزال عنصر الاختراق، كلاعب رئيس إلى جانب تداعيات أوسلو، في فرض مسار تراجعي ماض في انحداره، نحو ما يناقض أهداف التحرر الوطني الذي وسم المشروع الوطني بميسمه، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.