مجزرة الحرم الإبراهيمي
تاريخ النشر : 2019-02-23 22:28

إمعاناً في ممارسة الإرهاب المتواصل بحق الشعب الفلسطيني وتطوير الأدوات والوسائل الصهيونية لاقتلاع هذا الشعب من أرضه وتهجيره كما أشرت مراراً وتكراراً في دراسات ومقالات سابقة لي، وتمشياً مع العقيدة الصهيونية الحاقدة والمتعطشة دائماً للدماء وإزهاق أرواح الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ ومدنيي فلسطين العزل، مارست العصابات الإرهابية الصهيونية أبشع صور القتل والفتك والتنكيل بحق الفلسطينيين، ودأبت على اقتحام القرى والبلدات الفلسطينية وسفك دماء أهلها بدم بارد لإجبارهم على مغادرتها والنزوح عنها، وارتكبت أبشع المجازر والمذابح في شتى الأماكن، بما في ذلك بيوت العبادة. كما قامت بنسف العديد من الدوائر العامة والحافلات والأسواق على مدار فترة اغتصاب فلسطين المتواصلة.

وكان لكل مجرم صهيوني تولّى السلطة في كيان الاغتصاب نصيبه من المجازر والمذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين والعرب عامة. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان "آرئيل شارون" صاحب مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان "مناحيم بجن" صاحب مجزرتي دير ياسين وكفر قاسم، وكان "اسحق شامير" صاحب مذبحة فندق الملك داود بمدينة القدس، وكان "شيمون بيريز" صاحب مذبحة قانا، أي أنه كان لكل مجرم صهيوني تولى السلطة في تل أبيب حصته من دم الفلسطينيين والعرب بشكل عام. وفي أحيان كثيرة كانت المجازر والمذابح ترتكب بشكل فردي فيقوم بها صهيوني مسعور بشكل فردي، ولكن بالقطع بمباركة أسياده في سلطة تل أبيب، مثلما حصل في مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف.

وبنتيجة احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية الفلسطينية من ضمن الأراضي العربية التي احتلتها إثر الحرب العدوانية التي شنتها ضد ثلاثة من الأقطار العربية هي مصر وسوريه والأردن في 5 حزيران/يونيو عام 1967، تحول الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل من مجرد مسجد عادي للعبادة كبقية المساجد المنتشرة فوق تراب فلسطين من البحر للنهر إلى بؤرة صراع عقدي وسياسي مثله مثل المسجد الأقصى المبارك في الشطر الشرقي لمدينة القدس. 

وبالاتكاء إلى المزاعم والأضاليل التلمودية والتوراتية الباطلة والمفبركة اعتاد الصهاينة الأنذال على الكذب والادعاء زوراً وبهتاناً بأن الحرم الابراهيمي الشريف "كان كنيساً يهودياً"، وفعلوا كل شيء من أجل إبعاد الفلسطينيين عنه بشكل نهائي، تماماً كما اعتادوا على الكذب والادعاء بأن المسجد الأقصى المبارك "أقيم على أنقاض هيكل سليمان"، وتمادوا كثيراً في حفرياتهم تحته وعاثوا فساداً وجوراً وبهتاناً فوقه، بانتظار اللحظة التي تمكنهم من هدمه وتحقيق حلمهم المزعوم!!

فمنذ أن سيطرت "إسرائيل" على مدينة الخليل في الضفة الغربية، دأب الجنود والمستوطنون الصهاينة على اقتحام الحرم الإبراهيمي وتدنيسه وممارسة جميع أساليب القذارة والسفالة حوله وداخل أروقته، حيث أقاموا فيه حفلات الرقص والمجون والزواج والختان دون مراعاة لحرمته. ورويداً رويداً تطور الأمر إلى درجة أنهم تجاسروا وأدوا فيه صلواتهم التلمودية وأدخلوا إليه مقاعد وطاولات ونسخاً من التوراة ومارسوا طقوسهم الدينية وألقوا العظات والمحاضرات الدينية، وحولوا أجزاء هامة منه، وخاصة الساحات الإسحاقية واليعقوبية والإبراهيمية، إلى مدرسة دينية وكنيس يهودي.

ولعل التطور الأخطر الذي حل بالمسجد الإبراهيمي كان في 25 شباط/فبراير من عام 1994، الموافق 15 رمضان من عام 1414 هجري، عندما نفذ المستوطن الصهيوني الحاقد "باروخ غولدشتاين" مجزرته الشهيرة والخطيرة التي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى من المصلين الفلسطينيين، والتي على إثرها شكلت حكومة الاحتلال لجنة تحقيق صهيونية أطلق عليها "لجنة شمغار" قضت ظلما وزورا بتقسيم المسجد إلى قسم يهودي وآخر إسلامي وأمرت بإقامة حواجز حديدية فاصلة بين القسمين، في الوقت الذي منع فيه المصلون المسلمون بتاتا من دخول القسم المدعى أنه يهودي، بينما دأب الجنود والمستوطنون من وقت لآخر على اقتحام القسم الذي يصلي فيه المسلمون، ووصلت قذارتهم حد منع هؤلاء من دخول هذا القسم وتأدية صلواتهم فيه أثناء الأعياد اليهودية التلمودية!!

وهكذا حولت سلطة الاحتلال "الإسرائيلية" الحرم الإبراهيمي الشريف إلى ثكنة عسكرية، ونصبت على أبوابه الحواجز الحديدية والخشبية والبوابات الإلكترونية التي حولتها في ما بعد إلى حواجز اسمنتية، وسيطرت على عشرات المباني والأسطح والحوانيت القريبة من المكان بذريعة "الدواعي الأمنية"، وتحولت المنطقة بأكملها الى مربع أمني حُظر على الفلسطينيين دخوله. 

ولما كانت غاية سلطة الاحتلال من وراء تلك الإجراءات التعسفية منع الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد لأداء صلواتهم، اغتال الجنود والمستوطنون الصهاينة الحاقدون عشرات الشبان الفلسطينيين والشابات الفلسطينيات عند تلك الحواجز والبوابات بدعوى "قيامهم بمحاولات طعن بالسكاكين والآلات الحادة". وحتى اليوم تخضع إجراءات الدخول والخروج إلى ومن المسجد لمتغيرات كثيرة بين لحظة وأخرى، وتكون الذريعة دائماً "لدواعٍ أمنية" !!

كانت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف، التي شهدتها مدينة الخليل في الضفة الغربية الفلسطينية والتي يُحيي الفلسطينيون ذكراها في كل شهر شباط/فبراير من كل عام، واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها العصابات الإرهابية الصهيونية منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897 وحتى اللحظة الراهنة. فبينما كان المصلون في الحرم الإبراهيمي ركعاً سجداً بين يدي الله تعالى مولين وجوههم شطر بيت الله الحرام لتأدية فرض صلاة فجر يوم الجمعة الموافق 25 شباط/فبراير 1994، الموافق 15 رمضان من عام 1414 هجري، وقبل أن ينتهوا من السجود، انهمرت عليهم زخات من الرصاص الصهيوني الغادر من كل حدب وصوب لتوقع أكثر من 350 إصابة بين شهيد وجريح. وهنا بدأ الفصل الثاني من تلك المذبحة الإرهابية على يد المستوطن الإرهابي الصهيوني "باروخ جولدشتاين" الذي رضع حليب الحقد والكراهية من ثدي أمه حيث ولد وترعرع في أزقّة وشوارع بروكلين الأمريكية. 

أما الفصل الأول من تلك المجزرة، فقد بدأ مساء اليوم الذي سبق حدوثها، عندما قام الجنود والمستوطنون الصهاينة بمنع المصلين الفلسطينيين من دخول الحرم لأداء صلاة العشاء، بدعوى أن ذلك اليوم كان يوم عيد "البوريم" الخاص باليهود. وقتها تجمع المستوطنون الإرهابيون في ساحات الحرم الخارجية، وبدأوا بإطلاق الأسهم والألعاب النارية باتجاه المصلين، وبعد فترة قصيرة سمحت لهم قوات الاحتلال باقتحام الحرم الشريف من الداخل على شكل مجموعات متتالية. وعند الساعة العاشرة من ذلك المساء طلبت قوات الاحتلال من المصلين مغادرة الحرم، ولم تمهلهم إلا دقائق قليلة قبل أن تشرع بالاعتداء عليهم وهم يهمون بمغادرة باحة الحرم.

لقد أثارت مجزرة الحرم الإبراهيمي البشعة في حينه الرأي العام العالمي الذي أدانها بشدة، مما اضطر "إسرائيل" إلى المبادرة بالاعتذار عن ما أسمته "الحادثة التي تسبب فيها رجل مختل عقلياً"، بحسب تصريحات المسؤولين في تل أبيب. وقد ترافق الاعتذار مع قيام "إسرائيل" بتقديم تعويضات لأهالي الضحايا، كما ترافق مع اتخاذها خطوات وإجراءات سياسية إستثنائية اعتادت على اتخاذها في مثل هذه الحالة. كما ونجحت بدهاء إعلامي في طي صفحة المجزرة، مستغلة مقتل الإرهابي "باروخ جولدشتاين" على أيدي المصلين الفلسطينيين. 

صحيح أن "إسرائيل" اعتذرت للشعب الفلسطيني والعالم، إلا أن ذلك الاعتذار كان من قبيل رفع العتب ليس أكثر، بعدما فشلت في فبركة المبررات والذرائع المنطقية والمقبولة لتلك الجريمة. وما دعا للحزن والأسى أن العرب تعاملوا مع المجزرة في حينه بشكل أضاف نقطة أخرى إلى سجل ضعفهم في التعامل مع الإعلام العالمي وإمكانية استثماره لصالح القضية الفلسطينية ومجمل القضايا الوطنية والقومية العربية.

وكما هو الحال في وضعية جميع المجازر والمذابح البربرية والوحشية التي تعرض لها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه على أيدي جلاوذة الإرهاب الصهيوني الرسمي والفردي، فإنه من غير الممكن لأي عاقل أن يتكهن باحتمال خروج مجزرة الحرم الابراهيمي من الذاكرة القومية، وبالأخص من الذاكرة الفلسطينية، وبأخص الخصوص من ذاكرة من عاشوا أحداثها المفجعة والكارثية لحظة بلحظة. 

لقد كانت مجزرة رهيبة خُطط لها بعناية فائقة ونُفذت بدقة متناهية، بدليل أنه بات من شبه المستحيل أن يدخل مطلق فلسطيني الجزء القديم من مدينة الخليل دون أن يخرج منه بانطباع واحد مفاده أن المجزرة قد نجحت في تحقيق الأهداف التي ارتكبت من أجلها، وأن من خططوا لها نجحوا في ترحيل المواطنين الذين كانوا فيه، إذ أن من لم يخرج منهم بالترغيب أجبر على الخروج بالترهيب. وبعد بضعة أعوام على حدوث المجزرة، أصبح الجزء القديم من الخليل بؤرة أشباح، مَن يدخلها يعيش حالة من الذعر والخوف والترقب ومن يسكنها يعيش حالة من الرعب ومن يخرج منها لا يفكر بالعودة إليها بسبب ما يتعرض له من استفزاز وآلام واعتداءات منظمة ومبرمجة. 

لقد ثبت لاحقاً أن المتطرف "باروخ غولدشتاين" لم يرتكب المجزرة وحده بل شاركه فيها جنود من جيش الاحتلال الصهيوني كانت مهمتهم إغلاق باب الحرم الإبراهيمي لمنع المصلين من مغادرته ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة. فحين حاول المواطنون الفلسطينيون نجدة إخوانهم المصلين قابلهم الجنود المجرمون بإطلاق الرصاص الكثيف. وقد لاقت مجزرة الحرم تأييداً من الغالبية العظمى في "إسرائيل". وعند سؤال أحد خامات اليهود عما إذا كان يشعر بالأسف على من قتلهم "غولدشتاين" رد قائلاً "إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة". 

جعلت "إسرائيل" من السفاح "باروخ غولدشتاين" بطلاً قومياً، لا بل جعلت منه "قدوة وحلماً" لمن رضعوا ما رضع هو من حليب الحقد والغدر، فقامت بدفنه في قبر عند مدخل مستوطنة "كريات أربع" التي أقيمت على أرض فلسطينية شرق مدينة الخليل وعُرفت باحتضانها لأشد العقول الصهيونية عنصرية وتعصباً وتطرفاً وإجراماً، وخصصت للقبر عدداً من جنود حرس الشرف مهمتهم حراسته وتأدية التحية العسكرية لساكنه كل صباح. ويعتبره الصهاينة حتى يومنا هذا "قديساً"، إذ حولوا قبره إلى مزار يرتادونه في ذكرى المجزرة وفي العديد من مناسباتهم الدينية والوطنية. وقد دأبوا مع اقتراب موعد الذكرى الأليمة في كل عام على ذرف الدموع المسمومة على مقتل طبيبهم المجرم، في وقت يذرف الفلسطينيون دموع الحُزن والألم والأسى على فراق شهدائهم الأبرار.

مثله مثل جميع المواقع في الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك بيوت العبادة الإسلامية والمسيحية ظل الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل على الدوام عرضة لإجراءات التهويد. ولعل أسوأها كان قرار ضمه الى المواقع الأثرية "الإسرائيلية" ومن ثم قرار مصادرته وتحويله إلى كنيس يهودي يرتاده الحجاج اليهود في مناسباتهم الدينية والخاصة. 

ولمن لا يعلم من العرب والمسلمين وأحرار العالم فإنه لم يتبقَ لهم وللفلسطينيين من الحرم الإبراهيمي الشريف سوى التأمل في بنيانه عن بُعد، وقراءة تلك اليافطة التي تصدرت واجهته وكُتب عليها "ممنوع الصلاة في هذا المكان"، ولم يتبقَّ لكم سوى رؤية هذا المعلم الديني المبارك في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، والحصول وشراء صوره من الأسواق الصهيونية!!

ولمن لا يعلم أيضاً، فإن مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف فتحت أمام الإرهابيين الصهاينة باب الغنائم على مصراعيه فنهلوا من الشريان الفلسطيني ما لم يكفهم، وسينهلون منه ما لن يشبع نهمهم في قابل الأيام، بحيث يُترك الجسد الفلسطيني ينزف حتى الموت تحت سمع وبصر "الإخوة الأعداء" في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين اختلفوا وتقاتلوا وتصارعوا وتناحروا وتباعدوا من أجل سلطة واهية هي ليست بالأصل موجودة إلا في خيالاتهم وتخيلاتهم، وفي ظل تآمر أو تواطؤ أو تماهي غالبية الحكام العرب والمسلمين وأصحاب القرار والنهي والأمر في المجتمع الدولي.

 

شهادات وشهداء

يوم حدثت مذبحة الحرم الإبراهيمي في 25 شباط/فبراير 1994 الذي توافق مع 15 رمضان 1414 هجري، قال أحد شهود العيان من المصلين الناجين: "كنت أصلي في آخر صف للمصلين في الحرم الإبراهيمي الشريف، وعندما وصلنا إلى آخر سورة الفاتحة سمعت من خلفي صوت مستوطنين يقولون باللغة العبرية ما معناه بالعربية "هذه آخرتهم". وعندما وصل الإمام إلى آية السجدة وهممنا بالسجود سمعت صوت إطلاق نار من جميع الاتجاهات، كما سمعت صوت انفجارات، فبدا لي كأن الحرم قد بدأ يتهدم فوق رؤوسنا. لقد تفجّر رأس المصلي الذي كان بجانبي وتطاير دماغه ودمه على رأسي ووجهي، وغبت عن الوعي ولم أصح إلا بعد توقف إطلاق النار وبدء الناس بالتكبير الله أكبر، الله أكبر، فرفعت رأسي وشاهدت المصلين يضربون شخصاً يلبس زياً عسكرياً".

ولدى سؤال الدكتور الشيخ تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي الفلسطيني عن المذبحة بعد ساعات من حدوثها قال: "إن يوم المذبحة هو يوم لن ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي خرجت غاضبة ثائرة، وخرجت معها جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وفي غزة، وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية، فتصدت لهم قوات سلطة الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح، وفتحوا عليهم النار فسقطت كوكبة جديدة من الشهداء غيلة وغدراً".

وأضاف الشيخ أن "المذبحة كانت مخططاً مدروساً لتحقيق هدف مرسوم، هو تهويد الحرم الإبراهيمي الشريف، وقلب مدينة خليل الرحمن، فبعد انقضاء فترة حظر التجوال الذي فرضته سلطة الاحتلال على المدينة لأكثر من شهر، وبعد إغلاق الحرم في وجه المصلين المسلمين لأكثر من شهرين، فوجئ أهل المدينة بتقسيمه وتهويد الجزء الأكبر منه، وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه، بينما يسمح لليهود بالدخول والخروج متى رغبوا، وبتشديد الإجراءات في قلب المدينة".

وأردف الشيخ متابعاً "لكن هذه المدينة الصامدة، التي شهدت مذبحة الفجر، وعاودت الوقوف بثبات، ستبقى عربية إسلامية بجهود أبنائها المخلصين الأوفياء، الذين يعاهدون الله على التمسك بها والدفاع عنها، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها والمواظبة على الصلاة في مسجدها الإبراهيمي الشريف، ليبقى عامراً بالمؤمنين، يصدع من على مآذنه صوت الحق الله أكبر، فهو مسجد خالص للمسلمين بجميع بنائه وحجراته وأروقته وأبوابه، ولا حق لليهود فيه من قريب أو بعيد، فلن تزيدهم المجازر إلا إصراراً على رفض الانكسار، لأنهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة الأنبياء والصالحين لن تعود إلا برحيل آخر مستوطن". 

يستذكر أبناء مدينة الخليل والفلسطينيون عامة في 25 شباط/فبراير من كل عام مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف، بكثير من الحزن والأسى لفقدانهم معلماً دينياً إسلامياً هاماً ووداعهم شهداء أبرار سقطوا على مذبح الإرهاب الصهيوني المتواصل فوق أراضيهم المباركة على مدار حقب ما بعد نكبة عام 1948. 

فجر ذلك اليوم المشؤوم اقتحم الإرهابي الصهيوني الطبيب "باروخ غولدشتاين" الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، الواقعة في الضفة الغربية، وشرع بإطلاق رصاص رشاشه الحربي على المصلين من خلف ظهورهم أثناء خشوعهم بين يدي الله وتأديتهم الصلاة، مما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى.

و"باروخ غولدشتاين" الذي كان يحمل اسم "بنيامين" قبل أن يستبدله باسمه اليهودي خلال دراسته الجامعية، وفق ما أفضى به صديقه "أنتوني بيترسون"، ولد في الشارع رقم 81 في بروكلين بنيويورك من عائلة أرثوذكسية متطرفة، وتلقى تعليمه في مدارس "يشيف" الأرثوذوكسية في بروكلين، وبدت عليه ملامح التعصب ضد العرب خلال دراسته في المرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية "اينشتاين" للطب حيث تخرج منها طبيباً وعمل في مستشفى "بدوكريل" في "بروكلين" سنة 1982. وكان "غولدشتاين" دائم الترديد لعبارة من التلمود تقول: "إذا كان عدوك يريد قتلك ابدأ أنت بذبحه". 

في عام 1982 وبعد تحرجه التقى بالحاخام الصهيوني "مئير كهانا" الذي أصبح الأب الروحي له وتشرّب على يديه الأفكار العنصرية ضد العرب. وفي عام 1983 قدم إلى كيان العدو مهاجراً أمريكياً وعمل طبيباً في الجيش الصهيوني لاعتقاده أن ذلك "واجب ديني"، ثم سكن في مستوطنة "كريات أربع" في مدينة الخليل عام 1990.

وكما هو معروف فإن مدينة الخليل حيث وقعت المذبحة الرهيبة هي مدينة إسلامية عريقة بناها العرب قبل آلاف السنين، وتعود أغلب آثارها ومبانيها إلى العصر الأموي الذي أولى خلفاؤه قبور الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وزوجاتهم الفاضلات اهتماماً ملحوظاً. وكان الحرم الإبراهيمي كما كل مدينة الخليل ملكاً خالصاً للفلسطينيين والمسلمين عامة إلى أن احتل الصهاينة بنتيجة عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967 الضفة الغربية وسمحت سلطة الاحتلال للمتطرفين اليهود بإقامة طقوسهم الدينية فيه وتدنيسه.

ومنذ ذلك الوقت اتخذت زيارات اليهود للحرم الإبراهيمي طابعًا استفزازياً متعمداً بلغ ذروته في 27 من آب/أغسطس 1972 مع قيام الإرهابي الصهيوني الحاخام "مائير كهانا" زعيم "رابطة الدفاع اليهودية" المعروفة باسم "كاخ" باقتحام مدينة الخليل على رأس زمرة من أتباعه الموتورين وإقامتهم طقوساً يهودية جماعية وعلنية. وفى 31 تشرين الأول/أكتوبر من ذات العام استدعى الحاكم العسكري الصهيوني مدير أوقاف الخليل والقائم على الحرم وأبلغهما قراراً قضى بوضع سقف للمسجد المكشوف وتخصيصه لليهود كما قضى بزيادة عدد المقاعد في داخله ووضع خزائن لحفظ التوراة ومنع المسلمين من الصلاة على موتاهم وتقليص عدد الساعات المسموحة لصلاتهم فيه، الأمر الذي أدى إلى رفض الهيئة الإسلامية العليا في القدس للقرار واعتباره انتهاكًا لمقدسات المسلمين ولا قانونياً.

يُشار في هذا الصدد إلى أن سكان مستوطنة "كريات أربع" المجاورة لمدينة الخليل وجميعهم من اليهود الموتورين والمتطرفين لم يوقفوا يوماً اعتداءاتهم على الحرم، بما في ذلك نهب محتوياته وتمزيق المصاحف فيه وإنزال الهلال عن قبته وسرقة ساعاته الأثرية والاستيلاء على مخطوطات إسلامية لا تقدّر بثمن. وتجدر الإشارة إلى أنه في كل مرة كان أهل الخليل يتصدون فيها للمستوطنين دفاعًا عن الحرم، كانت مطالب هؤلاء الخاصة بالإشراف على الحرم تزداد إصرارًا وإجراءاتهم تتصاعد في الاعتداء على السكان العرب. ومما لا شك فيه أن مذبحة الحرم حدثت ضمن سلسلة تصاعدية من الاعتداءات المتكررة التي لم تجد من جانب سلطات الاحتلال الصهيونية غير التجاهل واللامبالاة.

يُذكر أن مذبحة الحرم الإبراهيمي قد تسببت في حينه بإثارة الرأي العام العالمي الذي أدانها بشدة، مما اضطر الكيان الصهيوني إلى المبادرة بالاعتذار عن ما أسماه "الحادثة التي تسبب فيها رجل مختل عقلياً"، بحسب ادعاءت المسؤولين في تل أبيب. وقد ترافق الاعتذار مع قيام الكيان بتقديم تعويضات لأهالي الضحايا، كما ترافق مع اتخاذه خطوات وإجراءات سياسية استثنائية لطالما دأب على اتخاذها في مثل هذه الحالة. هذا ونجح الكيان بدهاء إعلامي ملحوظ في طي صفحة المذبحة، خاصة بعد أن تم قتل الإرهابي "باروخ جولدشتاين" على أيدي المصلين. 

لا شك أن ذلك الاعتذار كان ضرورياً بالنسبة للكيان الصهيوني بعدما فشل في فبركة المبررات والذرائع المنطقية والمقبولة لتلك الجريمة، لكنه لم يتجاوز إطار ذر الرماد في العيون. وما دعا للحزن والأسى، بل للخزي والعار، أن العرب تعاملوا مع المجزرة الرهيبة بتهاون وغباء أضافا نقاطاً أخرى إلى سجل عجزهم في التعامل مع الإعلام العالمي وإمكانية استثماره لصالح القضية الفلسطينية ومجمل القضايا الوطنية والقومية العربية. 

من المؤكد أنه لن يكون ممكناً لأي عاقل أن يتكهن باحتمال أن تبرح مذبحة الحرم الإبراهيمي الذاكرة الفلسطينية، تماماً كما هو الحال مع كل المذابح والمجازر والجرائم البربرية والوحشية التي تعرّض لها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه على أيدي جلاوذة الإرهاب الصهيوني الرسمي والفردي، أقله من ذاكرة من عاشوا أحداثها المفجعة والكارثية. 

لقد كانت مذبحة رهيبة خُطط لها بمكر ودهاء وعناية بالغة ونُفذت بدقة متناهية. ودلل على ذلك أنه وبعد مرور كل هذا الوقت الطويل على ارتكابها، لم تزل سلطات الكيان الصهيوني تصرّ على عدم السماح لأي من الفلسطينيين بدخول الجزء القديم من مدينة الخليل. ومن يسعفه الحظ بالدخول، يخرج بانطباع مفاده أن المجزرة قد نجحت فعلياً في تحقيق الأهداف التي ارتكبت من أجلها، وأن من خططوا لها نجحوا في ترحيل المواطنين الذين كانوا في هذا الجزء، إذ أن من لم يخرج منهم بالترغيب أجبر على الخروج بالترهيب. 

بعد المذبحة الرهيبة، أصبح الجزء القديم من الخليل بؤرة أشباح، فمَن يدخلها يعيش حالة من الذعر والخوف والترقب ومن يسكنها يعيش حالة من الرعب ومن يخرج منها لا يفكر بالعودة إليها بسبب ما يتعرّض له من استفزاز وآلام واعتداءات منظمة ومبرمجة. لقد دللت جميع الوقائع والمعطيات التي توفرت بعيد ارتكاب المذبحة أن المتطرف الصهيوني "باروخ غولدشتاين" لم يرتكبها وحده، بل شاركه فيها جنود من جيش الاحتلال الصهيوني، كانت مهمتهم إغلاق باب الحرم الإبراهيمي لمنع المصلين من مغادرته، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة. فحين حاول بعض الفلسطينيين نجدة إخوانهم المصلين قابلهم الجنود المجرمون بإطلاق الرصاص بكثافة وغزارة. 

وقد لاقت مذبحة الحرم تأييداً من غالبية الصهاينة في كيان العدو الصهيوني. فعند سؤال أحد خامات اليهود عما إذا كان يشعر بالأسف والأسى على من قتلهم "غولدشتاين"، ردّ قائلاً "إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة"!! وكما هو معلوم فإن الكيان الصهيوني حَوَل السفاح "باروخ غولدشتاين" إلى "بطل قومي يهودي"، بل جعل منه قدوة وحلماً لمن رضعوا من ذات الحليب الذي رضعه، إذ تم دفنه في قبر عند مدخل مستوطنة "كريات أربع" وخصص للقبر عدد من جنود حرس الشرف مهمتهم حراسته وتأدية التحية العسكرية لنزيله كل صباح. وليس من باب المبالغة القول أن الصهاينة أنزلوه حتى يومنا هذا "منزلة القديسين"، فحولوا قبره إلى مزار يرتادونه في الذكرى، وفي مناسباتهم الدينية والوطنية. وقد دأبوا مع اقتراب موعد الذكرى الأليمة في كل عام على ذرف الدموع المسمومة على مقتل طبيبهم المجرم، في وقت يذرف الفلسطينيون دموع الحُزن والألم والحسرة على فراق معلمهم الديني وشهدائهم الأبرار.

بعد مُضي كل هذه العقود على حدوث المذبحة البربرية، أصبح باستطاعتي القول أنه لم يتبقَ للمسلمين والعرب، بمن فيهم الفلسطينيين، من الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل سوى فرصة النظر إلى بنيانه وتأمله عن بعد، وقراءة يافطة مجاورة له تقول "ممنوع الصلاة في هذا المكان"، وإمكانية رؤيته في وسائل الإعلام التي قد تأتي على ذكره من وقت لآخر، ولربما أيضاً الحصول على صور تذكارية له يشترونها من الأسواق الصهيونية لغرض تزيين جدران منازلهم بها. 

وكما جاء في قولٍ حكيمٍ لعاقل فلسطينيٍ فإن "مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف قد فتحت أمام الإرهابيين الصهاينة باب الغنائم على مصراعيه فنهلوا من الشريان الفلسطيني ما لم يكفهم على مدار تاريخ نكبة فلسطين".. وربما أنهم سينهلون منه ما لن يكفيهم في قادم الأيام، بحيث يُترك الجسد الفلسطيني ينزف حتى الموت تحت سمع وبصر إخوة الدم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحت سمع وبصر جميع العرب والمسلمين في العالم.

في ما يلي قائمة بأسماء شهداء مذبحة الحرم الإبراهيمي: الإجرامية

رائد عبد المطلب حسن النتشة، علاء بدر عبد الحليم طه أبو سنينة، مروان مطلق حامد أبو نجمة، ذياب عبد اللطيف حرباوي الكركي، خالد خلوي أبو حسين أبو سنينة، نور الدين إبراهيم عبيد المحتسب، صابر موسى حسني كاتبة بدر، نمر محمد نمر مجاهد، كمال جمال عبد الغني قفيشة، عرفات موسى يوسف برقان، راجي الزين عبد الخالق غيث، وليد زهير محفوظ أبو حمدية، سفيان بركات عوف زاهدة، جميل عايد عبد الفتاح النتشة، عبد الحق إبراهيم عبد الحق الجعبري، سلمان عواد عليان الجعبري، طارق عدنان محمد عاشور أبو سنينة، عبد الرحيم عبد الرحمن سلامة، جبر عارف أبو حديد أبو سنينة، حاتم خضر نمر الفاخوري، سليم إدريس فلاح إدريس، رامي عرفات علي الرجبي، خالد محمد حمزة عبد الرحمن الكركي، وائل صلاح يعقوب المحتسب، زيدان حمودة عبد المجيد حامد، أحمد عبد الله محمد طه أبو سنينة، طلال محمد داود محمود دنديس، عطية محمد عطية السلايمة، إسماعيل فايز إسماعيل قفيشة، نادر سالم محمد صالح زاهدة، أيمن أيوب محمد القواسمي، عرفات محمود أحمد البايض ومحمود صادق محمد أبو زعنونة.