دور مصر في القضية السورية
تاريخ النشر : 2014-05-30 10:38

هل أصبح السوريون مضطرين إلى الاختيار بين أمرين أحلاهما ليس مراً فحسب، وإنما يقطر الدم من كفيه ومن أنيابه، وهما معاً ضفتان لمستنقع آسن واحد، تجمعت فيه كل أوبئة التاريخ، وصار مكب نفايات الشعوب والأمم. وبعض الناس يجادلونك بأن ما تفعله التنظيمات الإسلامية المتطرفة أسوأ بكثير مما يفعله المجرمون في أجهزة النظام، ويصلون إلى نتيجة غير منطقية «إذن عليكم أن تختاروا النظام لأنه أفضل من التنظيمات المجرمة»! ونسأل: أما من خيار ثالث يمتلك قيماً إنسانية ويؤمن بحق الناس بالحرية والكرامة ويسعى إلى دولة مدنية ديمقراطية، لا تعصب فيها ولا احتكار للسلطة؟ أليس من حق هذا الشعب أن يحصل على حد أدنى من مطالبه التي ضحى من أجلها بأفلاذ أكباده، وهدمت بيوته وقراه ومدنه أمام عينيه، وكثير من الناس قضوا تحت الأنقاض، ولا أحد يعلم عدد القتلى أو الجرحى والمعوقين والمعتقلين والمفقودين والمشردين؟

يجادلك من تظن أنه مثقف خرج من سلطة التعصب فإذا هو يضع جانباً مبادئه التي طالما استعرضها وادعاها عبر عقود متباهياً بتوجهات ليبرالية ويسارية وتشدق بالحرية وانحياز للشعوب وقضايا التحرر، فإذا هو متخم بالتعصب المذهبي أو الطائفي أو العرقي، لا يرى الحق إلا من منظار تعصبه الجيني، وقد كثر الحديث عن العقلاء والمعتدلين، لكن أصواتهم قمعت منذ بداية الأحداث المفجعة، ولم يتحمل النظام مجرد مقالات دعوْنا من خلالها إلى حوار وطني وحل سياسي، واستنكرنا فيها الحل الأمني وحذرنا من أنه لن يحقق إلا الدمار، ولن يجلب أي انتصار، فلاحقتنا تهم ومحاكم وأحكام قاسية. والمفارقة أن النظام نفسه قبِل الذهاب إلى جنيف، وأقرّ في إعلامه بحتمية الحلول السياسية ولكنه ما يزال يعاقب من كانت جريمته أنه دعا إلى حل سياسي قبل أن تقع الفأس في الرأس.

ويبدو من عجائب التاريخ التي ستضحك منها الأجيال القادمة أن تكون أول انتخابات ديمقراطية تشهدها سوريا منذ نهاية عهد الانفصال عن الوحدة مع مصر (وقد غابت الديمقراطية أيضاً في عهد الوحدة) هو هذه الانتخابات الهزلية التي يتنافس فيها مرشحان قبالة الأسد، وهما لا يملكان أي حضور أو مؤهل للعب هذا الدور. وهي أول انتخابات يغيب أكثر من نصف الشعب السوري عنها، ذاك أن أكثر من عشرة ملايين سوري مشردون أو منفيون أو لاجئون، وكان أفضل للنظام أن يقوم بتمديد الفترة الرئاسية الراهنة ريثما ينفتح طريق أمام الحلول بدل إضفاء شرعية واهية على انتخابات بمن حضر.

والمشكلة أن طبيعة النظام في سوريا لا تسمح للعقلاء فيه أن يبدوا آراءهم حتى لو كانوا في مواقع مسؤولية أدبية أمام الناس، فإما أن تكون مؤيداً لما تراه أجهزة الأمن، لا ترفض شيئاً ولا تعترض عليه، وظيفتك أن توافق وتبصم دون أن يكون لك أي رأي، أو أن تصنف في قائمة الأعداء والخونة والإرهابيين، وهذا ناجم عن الطبيعة الاستبدادية التي وصفها القرآن الكريم بتصوير موقف فرعون (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) وقوله (قل لا أريكم إلا ما أرى)! وسيأتي يوم تتكشف فيه حقائق كثيرة من معاناة من حاولوا إبداء رأي مختلف من داخل النظام، ولم ينجحوا في الدفاع عن حق إبداء الرأي. وبعضهم تعرض لمآسٍ كبيرة لمجرد أنه أضمر رأياً مختلفاً دون أن يعلنه ولكنه بدا في ملامح وجهه أو رعشة عينيه، وهذا ما جعل سورية «مملكة الصمت» كما سماها رياض الترك ذات يوم، وما جعل دمشق «مدينة مغلقة» في نظر أدونيس كما وصفها ذات يوم.

أقول هذا إنصافاً لكثير ممن عرفتهم عن قرب من وزراء وسفراء وذوي مناصب كبيرة في الدولة، لم يجرؤوا على إعلان موقف خوفاً ورهبة وهم أعلم الناس بفظاعة ما يمكن أن يلقوا من عقاب. وأعتقد أن المعارضة مسؤولة أيضاً، فقد وقفت موقفاً غير لائق من أولئك الذين عرّضوا أنفسهم لتداعيات الغضب القاسية حين انشقوا عن مواقعهم الوظيفية (ولا أقصد نفسي بالطبع لأنني لم أكن في موقع رسمي يوم خرجت) ولكن كثيراً من السفراء والمسؤولين فوجئوا بحالات تهميش من قبل مؤسسات المعارضة التي لم تكن حاضنة لهم، فباتوا غرباء شبه منفيين. وهذه ليست شكوى أبثها باسم أحد، فمن ضاق صدره ولم يعد يطيق مشاركة ولو معنوية بما يحدث من فظائع وجرائم اتخذ موقفاً أخلاقياً لإراحة ضميره أولاً، وللتبرؤ تاريخياً من وزر لا يغتفر، ولكن الريبة غير المبررة جعلت كثيراً ممن بقوا في مواقعهم يحجمون عن المغامرة.

وأعتقد أن أي حل مستقبلي يبحث عمن لم يتورطوا بسفك الدم السوري سيجد في هؤلاء جسر تواصل، وأعتقد كذلك أن من يماثلهم في ضفة المعارضة من المعتدلين الذين لم يقعوا في الفخاخ التي كثرت في دروب المعارضين فجعلت بعضهم يدور في فلك الآخرين، قادرون أيضاً على أن يكونوا جسور العبور إلى الحلول.

ومع ما أسمع عن تكهنات بتسليح عسكري جديد لفصائل المعارضة أتمسك بدعوتي إلى حوار العقلاء، ولا أنكر أن أي حل سياسي يحتاج إلى قوة، لكنني لا أطمئن إطلاقاً إلى أن القوة ستصنع حلاً يمكننا من العيش المشترك مستقبلاً. ولكن القوة المتوازنة تجعل الأطراف قابلة بالحوار، وما حدث في مرحلة مؤتمر جنيف كان خللاً متعمداً في التوازن جعل المفاوضات تصل إلى إخفاق ربما كان مطلوباً من جهات دولية أرادت مزيداً من الدمار لسوريا.

وقد بدت ملامح مستجدة توحي بأن مصر ستبدأ بعد انتخاباتها الرئاسية اهتماماً جاداً بالقضية السورية، ولن نستبق ما يحدث، بل إنني أميل إلى التفاؤل، وأؤمن بأن مصر ستحرص على وحدة التراب السوري، وأي نجاح لها في إيجاد حلول عادلة منصفة للشعب سيكون بداية عودتها إلى موقع ريادي في الأمة. وكان غياب مصر وانشغالها بما حدث فيها من فواجع قد أضر كثيراً بالقضية السورية، وقد علّمنا التاريخ أن مصر وسوريا هما جناحا الأمة، فإن بدا أحدهما مهيضاً فقد تعثرت الأمة وعجزت عن التحليق، وقد علمت أن الموقف المصري الذي بشرت به محادثات غير معلنة يدرك جدياً خطر تقسيم سوريا، وخطر وقوع سوريا ولبنان معاً تحت النفوذ الإيراني. كما أن مصر التي همشت في السنوات الأخيرة تعرف جدياً أن غياب سوريا عن مكانتها الإقليمية سيجعل المنطقة كلها مرشحة لمزيد من الفوضى وتقويض لكل سياسات الاستقرار، ولا يعني موقفي هذا أي قبول بتنازل عن مطالب الشعب السوري في بناء سوريا دولة مدنية ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع وحدها بمشاركة شعبية واسعة ورقابة قانونية صارمة. وأعتقد أن بناء المستقبل في سوريا لابد له من أن يلحظ الشرفاء الذين لم يخوضوا في الدم وهم مهمشون داخل النظام. وأن يلحظ من لم يقعوا في فخاخ الآخرين الذين أرادوا بصمْتهم مزيداً من التدمير لسوريا، وبوسع الشباب بخاصة أن يكونوا رواد التغيير، فقد أنضجتهم السنوات العجاف.

عن الاتحاد الاماراتية