الطريق إلى فلسطين طويل . . طويل .
كثيرون أرتقوا إلى العلا على هذا الطريق .
منهم من ارتقى برصاص قاتل مأجور . . وآخر استشهد بتفجير سيارته .
منهم من قتل بتفجير بيته على أطفاله .. وآخر ترجل عن طريق الهاتف .
منهم من قتل بالسم . . وآخر قتل برفض تغطية تكاليف علاجه ، ورفض زيارته في فتره علاجه ، بل والتمني له بالموت .!!
منهم من قتل في بيروت . . في أثينا . . دمشق . . لشبونة . . روما . . لندن . . قبرص . . تونس . . نابلس . . خانيونس . . طولكرم . . غزة . . رام الله . . رفح .
المكان متعدد الاحتمالات كاسم القاتل .!!
وكما يمكن تشخيص القاتل بأنه العدو ، يمكن تحديد المكان بأنه المنفى .
من كاتب القصة . . إلى رسام الكاريكاتير .
ومن الشاعر . . إلى المؤرخ والصحفي .
ومن الحالم . . إلى المفكر .
من قتله المجهول . . ومن قتله المعلوم الذي تحول إلى مجهول . !!
من قتله العدو . . ومن قتله أبن جلدته . !!
من سقط قبل الشتات . . وفي الشتات . . وفي المنافي . . وبعد الشتات . !!
وآخر سقط داخل " الغيتو " الذي فـُرض عليه باسم السلام . !!
مرثية تلو مرثية أخرى نكتبها على صفحة الحزن اليومي .
وفي صفحة من أنصع صفحات التاريخ الفلسطيني نرى صورة الشهيد القائد أبوعلي شاهين .
ليس من السهل أن يكتب المرء عن " ضمير حركة فتح " الشهيد القائد و المعلم و الرمز عبد العزيز علي شاهين "أبو علي شاهين " ، فالرجل ليس أحد أهم رموز الشعب الفلسطيني الوطنية في مسيرته النضالية وحسب ، بل كان نبراساً و ثائراً ومناضلاً و مفكراً صاحب كلمة شجاعة و هادئة و عاقلة و ثورية في نفس الوقت ، وهو فوق ذلك يتدفق شفافية ويفيض أحاسيس .
كل كتابة عنه ستكون ناقصة ، لأن قضيته هي قضية مسيرة المقاومة ضد المحتل ، هي قضية الجيل الذي يكسر قيد المحتل و يصنع الأنتصار ، وهي قضية لم تكتمل بعد .
ذلك أن " أبو علي شاهين " لم يكن في حياته وفي التـزامه مجرد شخص اختار طريق الجهاد والنضال والمقاومة ، بل كان إلى جانب ذلك نموذجـًا بارزًا لجيل فلسطيني كامل هو جيل مقاومة المحتل منذ اليوم الأول للنكبة ، ومن خلال تمثيله لهذا الجيل ومن خلال تعبيره عنه بالبندقية المقاتلة والكلمة الحرة الأبية اكتسب قيمته كقائد وكمعلم وكرمز من رموز هذا الجيل .
حين دخل عالم القيادة ظهرت من خلال أسلوبه في العمل ميزات تراثه النضالي ، فهو لم يكن ذلك النموذج المتطرف من الرجال ، ولم يكن ذاك النموذج المرن من الرجال ، كان مزيجاً من التطرف و المرونة ، من الصراحة المطلقة والصمت ، من الإيجاز في الحديث والممارسة المستمرة ، وبهذه الروحية وبهذا الأسلوب كان يعالج كل مشاكل المسيرة ، سواء داخل الإطار التنظيمي أو في مهماته العسكرية و السياسية ، وبقدر ما كان الكثيرون ينزعجون من صراحته ، كان الجميع يحبونه ويقدرونه ، لأنهم كانوا يعرفون في النهاية أي رجل صريح ، أي رجل صلب ، أي رجل مرن ، هذا الذي يتعاملون معه .
كان صورة من صور الحياة النابضة بالمقاومة والوطنية والطموح الخلاق ، يرنو إلى العلا في كل مجال من مجالاته ، ويتقن فن الجهاد والمقاومة ويحفظ دروسها عن ظهر قلب ، ويلقنها لأبناء شعبه البطل .
لقد أخذ " أبو علي شاهين " من كل القادة الشهداء الذين سبقوه أجمل خصالهم :
أخذ من الشهيد القائد والرمز والمعلم ياسر عرفات وفائه للثوابت التي أمن بها ، وكما نذر أبو عمار حياته للكفاح والنضال من أجل أشرف قضية يمكن أن يدافع عنها إنسان بروحه وفكره ووقته كان أبو علي كذلك .
كان عرفات مقاتلاً صلباً ما فارقت البزة العسكرية جسده ، كذلك كان أبو علي
متقشفا حتى الزهد نكاد نعرفه من بعيد من لون سترته التي لم تتغير منذ سنوات .
و أخذ من الشهيد القائد صلاح خلف حمل فلسطين كاملة ، والحلم بفلسطين كاملة موحدة ، فقد كانت أرض فلسطين و مقدسات فلسطين و حجارة فلسطين هي هاجس أبو علي الأول و الأخير ، فهي الهدف وهي الغاية ، وهي الحلم الوردي للفلسطيني ، وهي الأمل في الحياة الكريمة لشعبها الأبي .
و أخذ من الشهيد القائد خليل الوزير أجمل صورة من صور الحياة النابضة بالوطنية والطموح الخلاق ، حيث كان يرنو إلى العلا في كل مجال من مجالاته ، ويتقن فن الثورة ، ويحفظ دروسها عن ظهر قلب ويلقنها للناس ، فقد كان تلميذاً و أستاذاً في آن واحد ، وكان قمة في التحدي والتجاوز البناء .
و أخذ من الشهيد القائد ماجد أبو شرار صلابة المقاتل التي لا تلين مهما عظمت المخاطر، ونصاعة الوعي الثوري الواقعي لما هو قائم، والأمل الذي لا يهزم بحتمية النصر.
و أخذ من الشهيد القائد أبو يوسف النجار سلوكيته الصادقة و تمسكه بالمبدأ والتصلب في الحق ، و العفوية الثورية النقية التي هي تعبير عن عفوية شعبنا وصدقه .
و أخذ من الشهيد القائد كمال عدوان الذهنية الحادة ذات الرؤية الواضحة التي تدرك أبعاد العنف ومدلولاته ونتائجه ، و صدق الثائر في حبه لأبناء شعبه .
و أخذ من الشهيد القائد سعد صايل العفة و الطهارة الثورية ، فقد كان أبو علي عفيفا حتى النخاع ، وكان في تعففه هذا يريد أن يبقى قريبا ــ حتى في حياته الشخصية ــ من حياة غالبية شعبه الذي كرس حياته في خدمته .
كانت الحقيقة بارزة في كلمات الشهيد القائد " أبو علي شاهين " ، والفكرة واضحة في حديثه ، فلا مكان للمجاملات على حساب الثورة أو المبادئ ، وكم من الناس من غضب لصراحته أو لكلمة حق يقولها ، ولكنه لا يخشى لومة لائم ، ويقيم الدنيا ويقعدها بحجة ثاقبة ورأي حصيف إذا دافع عن قضية أو مسألة
لقد كان في "أبو علي شاهين " من صدق الثائر وجرأته ما يعجز الواقع عن تحمله ، فيثير فيه بكلماته و أعماله موجات متلاحقة من التأزم فيجعل هذا الواقع قلقا مستنفرا يبحث عن الحقيقة بكل ما فيها من مرارة ، وعن الخلاص بكل ما فيه من تضحيات .
كان لا يكتفي بعرض وجهة نظره ، وإنما كان يقاتل من أجلها بشجاعة نادرة غير آبه بما يقوله الأصدقاء والأعداء على السواء ، وكم خاض المعارك تلو المعارك من أجل مبادئه و أفكاره وآرائه في قضايا الثورة الأساسية و الفرعية .
كان بعيداً عن المجاملة في صداقته وصحبته ، فإذا غبت عنه وعدت إليه تراه هو هو بسجيته وطبيعته لا يعطيك أكثر مما تستحق ، ولا يأخد منك إلا ما يرى أنه في وسعك أن تعطيه .
كان نموذجـًا يحتذى ، فقد انصهرت وتشابكت فيه صلابة المقاتل التي لا تلين مهما عظمت المخاطر ، ونصاعة الوعي الثوري الواقعي لما هو قائم ، والأمل الذي لا يهزم بحتمية النصر ، وطيبة الأب والأخ الكبير والصحبة الحية واليومية بالمناضلين وأبناء الشعب الذين حمل همومهم في قلب ه، وكان الأقدر على تحسسها لأنه واحد منهم .
عظم " أبو علي شاهين " الكلمة في فكره وعقيدته ، وقدر العمل في نضاله وكفاحه اليومي ، وسبق الآخرين بنظره الثاقب فكان فارسـًا يجيد السباق في كل ميدان من ميادين الجهاد والنضال والعمل الوطني .
لقد آمن " أبو علي شاهين " بأن العمل لفلسطين لا حدود له ، وأن المشاركة في حرب التحرير لا تكون من بعيد ، و أن الكتابة الثورية ( وهي هوايته وقناعته ومعاناته في آن واحد ) لا معنى ولا أثر لها إذا لم تتجسد بالممارسة والسلوك اليومي ، وأن مقاومة المحتل لا تتحمل المواقف الوسط ولا المهادنة ولا التأجيل ولا الاستراحة ، وأن الكلمة الثائرة لا تعرف المواربة ولا الدبلوماسية ولا التلفيق ولا الاصطناع .
لقد كان في عبد العزيز شاهين من صدق المجاهد وجرأته ما يعجز الواقع عن تحمله ، فيثير فيه بكلماته ومقالاته وأعماله موجات متلاحقة من التأزم فيجعل هذا الواقع قلقـًا مستـنفرًا يبحث عن الحقيقة بكل ما فيها من مرارة ، وعن الخلاص بكل ما فيه من تضحيات .
كان ــ رحمه الله ــ في حركة دائمة وفي نشاط متواصل .. يحلم بفلسطين .. يفكر بفلسطين .. يعيش لفلسطين .. ومات شهيداً من أجل فلسطين ، وأبى إلا أن يستشهد إلا في ساحة النضال ، نضال الفكر والكلمة هذه المرة ، فقد كان أبو علي ــ القائد النير الصلب ــ من أبرز أولئك القادة الكبار الذين عرفوا كيف يوحدون بين الفكر والبندقية ، والكلمة والرصاصة في مسيرة النضال .
لقد فقدت القضية الفلسطينية رجلاً شجاعاً لأن الشجاعة في معناها الحقيقي هي الالتزام بخط المقاومة في المحنة والرخاء . . وكذلك كان أبو علي شاهين .
وفقدت الثورة الفلسطينية إنساناً كان يتعذب بصمت دون أن يجعل الآخرين يحسون بهذه المعاناة القاسية ، كان بين الحين والحين يتحسس مواقع الخطر فيتحدث ولكن بدون ألم ، وينذر ولكن بدون ضجيج ، ويحذر ولكن بالتزام كامل ، والإنسان الكبير وحده هو الذي يستطيع أن يجترح هذه المعجزة فيصمت عن أحزانه ليبدو إيمانه أكبر من جراحاته ، وليبدو تفاؤله أقوى من واقع آلامه و معاناته ، والخسارة هنا في أبو علي لا تعني المدلول المادي للكلمة بقدر ما تشير إلى عمق الفراغ الذي سيخلفه غيابه الأبدي عنا
ارتقى " أبو علي شاهين " إلى جوار ربه تاركاً وراءه إرثاً نضالياً زاخراً في خدمة القضية الفلسطينية ، وذكرى لا تنسى في قلوب كل أبناء شعبه لمواقفه الوطنية و النضالية المشرفة ، و عزاؤنا أنه دفن في الأرض التي أحبها ــ التي كان دأبه وديدنه الذود عنها ــ في عرس فلسطيني مهيب ، فأحبته هذه الأرض التي كانت في قلبه وعقله وروحه وجوارحه .