المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ومعضلة السلام المستعصي
تاريخ النشر : 2013-10-26 17:54

معطيات عديدة كانت تشير منذ البداية بحتمية فشل هذه المفاوضات، فالرفض الشعبي والحزبي لدى الفلسطينيين والإسرائيليين يتجلى بوضوح، والتناقض في المواقف التفاوضية المفصلية بين الطرفين ظاهر كما لم يكن من قبل، والأوضاع الاقليمية المحيطة في أسوأ حالاتها، إلا أنه بعد مساعي متكررة ومحاولات جبارة، خصوصاً بالضغط على الطرف الفلسطيني، استطاعت الولايات المتحدة إحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، العالقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، في إنجاز اعتبره المتابعون اختراقا، فهل ستعتمد الولايات المتحدة على مقاربة الضغط لفرض الحلول، خصوصاً على الطرف الفلسطيني، التي اعتمدتها بالفعل لاحياء عملية التفاوض، أم أن الولايات المتحدة ستفقد حليفاً جديداً لها في المنطقة، في اخفاق إضافي لسياستها الخارجية فيها؟
ضغوط كبيرة ووعود بمكافآت سخية استخدمتها الولايات المتحدة لاحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، خصوصاً على الطرف الفلسطيني، الذي قدم تنازلات متعددة، وغير مفهومة، من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات. يأتي ذلك في ظل عدم المعارضة الإسرائيلية، حتى في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتياهو، خوض غمار مفاوضات عبثية، لا تحرز النتائج، طالما أن تلك المفاوضات لا تشترط تجميداً للاستيطان، فانخراط إسرائيل في المفاوضات مع الفلسطينيين يجنبها عتاب الحلفاء الغربيين.

الفلسطينيون وتنازلات إحياء المفاوضات:

في ظل سيادة حالة من الضعف والانشغال العربي لم تشهدها المنطقة من قبل، والجمود السياسي في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والرفض الشعبي والفصائلي الفلسطيني الواسع لاحياء عملية المفاوضات، فلا فصائل منظمة التحرير راضية، ولا حركتي حماس والجهاد مؤيدة، والتململ الشعبي الضعيف في فلسطين لم يتحرك إلا تعبيراً عن رفض المفاوضات أو الانقسام، دخلت منظمة التحرير الفلسطينية عملية التفاوض. وقدم الفلسطينيون أول مبادرة من مبادرات حسن النوايا لاحيائها، وذلك بعدم التصعيد ضد إسرائيل في اجتماع الجمعية العامة الذي انعقد في ايلول/سبتمبر الماضي، وتخفيف لغة الخطاب الفلسطيني، وعدم المضي قدماً في الانتساب إلى المنظمات الدولية المختلفة، الذي كان من المقرر أن يبدأه الفلسطينيون خلال هذه الفترة. وقد تكون الولايات المتحدة لجأت إلى إحياء المفاوضات من أجل تخفيف الضغط السياسي الفلسطيني على إسرائيل في الجمعية العامة والمنظمات الدولية، وازداد ذلك الحاحاً بعد قرار المقاطعة الأوروبي لكل ما هو قائم على المستوطنات الاسرائيلية.
انخرط الفلسطينيون هذه المرة في خضم العملية التفاوضية، من دون شرطهم السابق بضرورة تجميد كامل للاستيطان خلال المفاوضات، وهو الشرط الذي عطل عملية التفاوض طوال السنوات الثلاث الماضية، بسبب رفض إسرائيل الالتزام بذلك الشرط، الأمر الذي أحرج الولايات المتحدة في حينه. ومع الساعات الاولى للاعلان الامريكي عن استئناف المفاوضات، أعلنت إسرائيل عن بناء ألف ومئتي وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين. ومع بدء المفاوضات أكدت الحكومة الإسرائيلية أن المفاوضات لن تؤثر على مخططاتها في البدء بتنفيذ المشروع الاستيطاني E1 الذي يهدف إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ويعقد امكانية إقامة دولة فلسطينية ذات إقليم متصل.
وبعد نحو اسبوعين من ذلك الاعلان قرر نتنياهو أن يدرج تسع مستوطنات من أصل عشرين بلدة جديدة على سلم الاولويات لمشاريع ذات أهمية وطنية عليا، ومنحها امتيازات خاصة، حسب قانون النجاعة الاقتصادية الإسرائيلي. وتفيد مصادر إسرائيلية مطلعة أن الاستيطان الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة قد إزداد 70′ خلال العام الحالي عنه في العام الماضي.
جاءت الموافقة الفلسطينية على خوض غمار المفاوضات هذه المرة بدون التزام إسرائيلي بالتفاوض على أساس حدود عام 1967، وهو التزام استطاع الفلسطينيون تحصيله من الاسرائيليين في مفاوضات سابقة، خلال عهد رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق أولمرت. وكان جون كيري قد أكد للفلسطينيين بأن التفاوض سيكون على أساس حدود عام 1967، بينما أكد للاسرائيليين أنه لا يمكن اغفال التطورات الواقعية على الأرض، وعدم امكانية أن تكون حدود 1967 أساساً للحل. ويمكن تفسير ذلك التناقض في التصريحات الامريكية، استغلال الجانبين الامريكي والاسرائيلي الموافقة الفلسطينية المسبقة على مبدأ تبادل الارض، والمرونة الفلسطينية بشأن امكانية بقاء كتل استيطانية كبرى ضمن السيادة الاسرائيلية، لأنه في هذه الحالة لن تكون نتائج المفاوضات منسجمة تماماً مع حدود عام 1967، وتبقى القضية العالقة في البحث في نسبة ذلك التبادل، وتحديد تلك الكتل.
ويعد الالتزام الذي أعطاه المفاوض الفلسطيني بامكانية التبادل خطأ تاريخيا، فقرارات الشرعية الدولية وغالبية دول العالم، تقر بالشرعية للفلسطينيين على جميع الاراضي المحتلة عام 1967، كما أن إسرائيل قد انسحبت من جميع المستوطنات المقامة في سيناء بعد اتفاقها مع مصر، وانسحبت من جميع مستوطناتها المقامة في قطاع غزه، وأعطت اشارات بامكانية انسحابها من جميع المستوطنات المقامة في الجولان، في حال تم توقيع اتفاق مع سورية. ويعتبر التنازلان الفلسطينيان السابقان من أجل إحياء المفاوضات الأخطر لأنهما يتعلقان مباشرة في صميم قضايا الحل النهائي، خصوصاً قضيتي الحدود والقدس.
يبدو أن هناك مخططا أمريكيا – إسرائيليا لتقديم عرض أو فرض حل يقوم على أساس إقامة دولة فلسطينية منقوصة سياسياً ومدعومة اقتصادياً. فالاختراق الدبلوماسي الفلسطيني في الجمعية العامة، أنتج حالة دولية باتت تستدعي إقامة الدولة الفلسطينية فعلياً على الأرض، إلا أن إسرائيل والولايات المتحدة تريدان أن تبقى تلك الدولة ضمن حدود تنتقص من سيادتها، لا تختلف في جوهرها عن واقع السلطة الفلسطينية اليوم. فجاء حديث كيري عن خطة اقتصادية يجري اعدادها بالتعاون مع ممثل اللجنة الرباعية توني بلير، تتضمن ضخ أربعة مليارات دولار في الاقتصاد الفلسطيني، بما ينسجم تماماً مع دعوة البنك الدولي لأول مرة بضرورة استغلال الجانب الفلسطيني لمشاريع في الاراضي الفلسطينية المحتلة المصنفة بمناطق (ج) والتي تسيطر إسرائيل عليها سيطرة تامة، لتطوير الاقتصاد الفلسطيني ومنحه قدرة على الاكتفاء الذاتي، كما لا ينفصل ذلك بالطبع عن اشتراط الولايات المتحدة بأن يبقى كل ذلك رهن التوصل لاتفاق بين الفلسطنيين والاسرائيليين.

الموقف الإسرائيلي من المفاوضات والقضايا الرئيسية

على الجانب الآخر لم تقدم إسرائيل تنازلات ذات قيمة لدخولها المفاوضات، كما أنه لا توجد أية معطيات تفيد بجدية الطرف الاسرائيلي في التفاوض، سواء قبل الخوض فيها أو خلال المفاوضات نفسها. فلم تتعد تنازلات الطرف الاسرائيلي للدخول إلى المفاوضات الحالية أن تكون ضمن اجراءات بناء الثقة، كالافراج عن الأسرى الذين أسروا قبل اتفاقية أوسلو، وتسهيل حياة الفلسطينيين، ورفع عدد من الحواجز، وزيادة كمية توريد المياه للضفة الغربية ومضاعفتها لقطاع غزة.
وفي ظل خلافات لن تنتهي، بين الطرفين المتفاوضين الاسرائيلي والفلسطيني، بدأت قبل أن تبدأ المفاوضات، حول جدول أعمالها، أصر الاسرائيليون على أن تبدأ المفاوضات بملف الامن، على أساس أن الاعتبارات الأمنية هي المحدد لملف الحدود، في انكار تام لكل ما تم التوصل إليه من تفاهمات سابقة بصدده، خلال مفاوضات أولمرت- أبو مازن.
وباقرار تام بالموقف الإسرائيلي، كلفت واشنطن الرجل الثاني في القيادة المركزية الأمريكية حول الشرق الأوسط جون آلين الوساطة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي في مواضيع الامن، ضمن فريق يضم عشرين خبيرا ينتشرون في اسرائيل، وواشنطن وعمان وممثلين عن شعبة التخطيط في الجيش الاسرائيلي والمخابرات الاسرائيلية. وكلف الفريق بمناقشة المخاوف الامنية الاسرائيلية والاهتمام بالجوانب التكتيكية والاستراتيجية الأمنية بالفترة الانتقالية المتوقعة بين الوضع الحالي والمستقبلي، وكذلك الاوضاع المستقبلية في المنطقة، وتوقع التطورات في مدى ثلاثين سنة قادمة، لتكون جزءا من أي اتفاق للوضع النهائي.
وبعد مرور ما يزيد عن شهرين والتئام أكثر من سبعة لقاءات، سخرت جميعاً لمناقشة الملف الأمني علقت المفاوضات بمجرد فتح ملف الحدود وتحديد نسب التبادلية، بناء على الاصرار الفلسطيني. ويريد الطرف الاسرائيلي التفاوض على الحدود من دون تحديد لنسب التبادل.
ويرفض نتنياهو في إطار هذه المفاوضات الاقرار عموماً بحق اللاجئين الفلسطينيين، بل يشترط اقراراً فلسطينياً بيهودية الدولة، بما يلغي حق اللاجئين عموماً، ويعرض الوجود العربي في إسرائيل للخطر. وفي مفاوضات كامب ديفيد وافق الرئيس الاسرائيلي الأسبق ايهود باراك على عودة عشرة آلاف لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل، كما وافق أولمرت في مفاوضاته مع الفلسطينيين على عودة خمسين ألف لاجئ فلسطيني على مدار خمس سنوات، في إقرار بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. وتتفق الرؤية الأمريكية مع الموقف الإسرائيلي الحالي بخصوص قضية اللاجئين، حيث تصر الادارة الأمريكية على ضرورة الاقرار بيهودية الدولة الإسرائيلية.
كما يصر الإسرائيليون في إطار هذه المفاوضات على بقاء القوات الإسرائيلية لفترات غير محددة أو طويلة، على الحدود الفلسطينية الاردنية في منطقة الغور. في حين وافق أولمرت في مفاوضات سابقة على بقاء قوة ثالثة في تلك المنطقة. وقد ينسجم ما تعرضه إسرائيل اليوم مع ما طرحه نتنياهو عام 1995 حول دولة فلسطينية منقوصة، منزوعة السلاح، لا تسيطر على الحدود مع إسرائيل، ولا تسيطر إسرائيل على سكانها.
وتمتلك إسرائيل حصانة داخلية تعفيها من تقديم تنازلات للفلسطينيين في إطار العملية التفاوضية، فبالإضافة إلى تأثير الرأي العام القادر على إسقاط الحكومة، والمطالبة بانتخابات مبكرة، في حال تقديمها تنازلات غير مرغوب فيها، يشترط الاستفتاء الذي تعمل الكنيست على إقراره بقراءة نهائية خلال الايام القليلة القادمة، على موافقة الرأي العام بالأغلبية على أي اتفاق مع الفلسطينيين.
يتضح من المعطيات السابقة أن إسرائيل دخلت المفاوضات الحالية بدون أن تحمل في جعبتها أية تطورات في المواقف التفاوضية مع الفلسطينيين، بل على العكس من الواضح ان مواقفها أكثر تصلباً من مواقف حكومات إسرائيلية سابقة، في ظل صعوبة تغيير تلك المواقف وانفتاحها في ظل الحكومة اليمينية القائمة، واتجاه الرأي العام الإسرائيلي الحالي.

الخلاصة

رغم أهمية عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية بالنسبة للادارات الأمريكية المختلفة، لدرجة جعلت البعض يعتبرها مسألة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، إلا أنها لم تنجح قط في حل معضلة السلام. وتبين التجربة أن الولايات المتحدة لا تلجأ إلى احياء تلك العملية إلا إذا استعصت عليها ملفات السياسة الخارجية التي أولتها اهتمامها، لتحويل الانتباه إلى اتجاه آخر، أو خلال الجزء الأخير من الفترة الرئيسية الثانية لرئيس يبحث عن امكانية تحقيق انجاز في الوقت الضائع. ويبدو أن الولايات المتحدة قد لجأت إلى إحياء العملية التفاوضية هذه المرة تحت ضغط العاملين معاً. فالسياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الاوسط أصيبت بانتكاسة كبرى، وازدادت علاقاتها تعقيدأ واضطراباً بدول المنطقة، خصوصاً في إطار تصاعد تطورات أحداث الثورات العربية، وتدخل قوى جديدة إلى المعادلة السياسية في المنطقة. ولم يتبق من عمر ادارة الرئيس أوباما، إلا ثلاث سنوات مهددة بعدم الانجاز. فانتخابات الكونجرس قريبة وقد ينجح فيها الجمهوريون، كما أنه بعد انتهاء الأشهر التسعة من عمر المفاوضات الحالية، سيركز الجهاز السياسي الأمريكي على الانتخابات المتوسطة التي ستجري في نوفمبر من العام القادم، ويصبح على إثرها الرئيس أوباما عاجزا سياسياً، فالمفاوضات الحالية تعد الفرصة الاخيرة للرئيس أوباما لاحداث انجاز سياسي.
بات من الواضح للفلسطينيين أن الوسيط الأمريكي لم يعد وسيطاً مناسباً أو مقبولاً ليكون وسيطاً في المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويبدو أن هناك العديد من البدائل التي تصلح اليوم لأن تتحمل مسؤولية تلك الوساطة، على رأسها الممثليين الأوروبيين أو الروس أو حتى الصينيين.
كما أنه بعد النجاح الفلسطيني الدبلوماسي بانتزاع اعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، بات من الواضح الأساس الذي ستقوم عليه أية مفاوضات قادمة، وبدون أي مساومات، أو تعديلات، إلا أن اقتضت الضرورة، وبعد استفتاء الشعب الفلسطيني، خصوصاً إن تعلق الأمر بأسس شرعية تقر بها قرارات الشرعية الدولية وغالبية دول العالم. كما أنه بات من غير المقبول وقف المساعي السياسية والدبلوماسية الفلسطينية التي تجسد الشرعية الفلسطينية، لأي سبب كان، لأنها باتت أحد إستراتيجيات العمل الفلسطيني المهمة للوصول إلى الاستقلال.