لماذا جمال عبد الناصر؟
تاريخ النشر : 2018-09-30 00:30

الرجل مضى إلى رحاب ربه منذ 48 عاما، ويظل «جمال عبدالناصر» الحقيقة الأساسية فى العصور الحديثة، لخصت تجربته قيمًا أساسية يستحيل حذفها، وإنكار ذلك جريمة بحق المستقبل، فبالنظر التاريخى هو الشخصية العربية الأهم على الإطلاق فى التطلع إلى الوحدة العربية، وبالنظر الاجتماعى فإن تجربته هى الأعمق بالتاريخ المصرى كله منذ فجر الضمير، وبالنظر الاستراتيجى فإنها أسست لنظرية الأمن القومى المصرى.

استهداف «ناصر» حيًا وميتًا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره، فلا توجد تجربة أخرى تضاهى «يوليو»، اكسبت مصر مكانة دولية رفيعة، ولم يكن ممكنا أن يبت فى أمر بالإقليم أو القارة أو العالم الثالث دون استطلاع رأيها، وساعدت ثورات وانتفاضات، منها ثورة المليون ونصف شهيد بالجزائر، وقادت أوسع عملية تحرير للقارة الإفريقية مطلع ستينيات القرن الماضى، وتزعمت مع الهند ويوغوسلافيا حركة عدم الانحياز. التى استهدفت كسر القطبية الثنائية وإحداث توازن فى النظام الدولى.

قرن كامل مر على ميلاد «جمال»، قرن كامل من الثورات والانتفاضات والحروب والأحلام والإحباطات، فى ذلك القرن اندلعت في مصر 4 ثورات، وطوال رحلة المائة سنة لم تكتمل فى مصر ثورة، وباستثناء «يوليو» التي أنجزت وحاربت وانتكست فإن ثورة أخرى لم تحكم، وتعرضت أكثر من غيرها إلى تحديات ومخاطر ومحاولات اغتيال لزعيمها.

لا يعني ذلك إضفاء أية عصمة من النقد، فلا قداسة لثورة أيا كان إنجازها ولا لرجل أيا كان دوره، نقد يوليو حق مؤكد للذين يناصرونها قبل الذين يناهضونها، لكن هناك فارق بين النقد والمراجعة وبين التسطيح والتجهيل.

الحقائق الكبرى تفرض كلمتها فى النهاية، فـ«يوليو» هي الثورة الوحيدة بحجم التغييرات الجذرية التى أحدثتها فى بنية المجتمع الطبقية، وطبيعة التوجهات الاستراتيجية التى تبنتها، وغيرت بها معادلات القوة والنفوذ فى العالم الثالث.

أسوأ اقتراب من ملفات التاريخ المغالطة فى الحقائق والثأر بالتهجم، فالتجربة لا تخص تيارًا دون آخر، والإرث الوطنى مشترك، والحق فى المعرفة عام، وأي كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروع ناصر، أو يلحق به سياسات السادات أو مبارك، جهل فاضح بالتاريخ وتزوير للحقائق يستهدف الذاكرة العامة.

إذا كانت هناك قيمة حقيقية لمئوية عبدالناصر، التي انطلقت فى يناير الماضي، فهى رد اعتبار التاريخ، وإعادة فحصه من جديد بالوثائق والمستندات، لا بالأهواء وتصفية الحسابات مع أكثر الثورات المصرية إنجازا بالحساب الاجتماعى وإلهاما بالحساب الوطنى، حتى لا تختلط الأوراق وتضيع المعانى وتهدر قيمة الثورة وكل معنى للتضحية.