فلسطين ومئوية منديلا: دروس في الزعامة والوطنية وصناعة التاريخ
تاريخ النشر : 2018-09-28 15:19

"إن حريتنا منقوصة في جنوب أفريقيا مادام الشعب الفلسطيني رازحاً تحت الاحتلال، ولن تكتمل حريتنا إلا بحرية فلسطين"

-        نلسون منديلا

كلما قرأت سيرة نلسون مانديلا ومواقفه السياسية، كلما تذكرت ياسر عرفات (رحمه الله).. كان مانديلا يعرف أن الطريق إلى الحرية لا يمكن أن ينجزه شعب ممزق، شتته الأيديولوجيات والأعراق المختلفة، فكان يعمل منذ لحظة خروجه من المعتقل على توحيد المواقف والصفوف بين أبناء شعبه، حيث إن قناعته تمحورت حول نقطة واحدة مفادها أنه إذا لم تتوحد الجهود ويجتمع الشمل على قلب رجل واحد، فلن تنجح المقاومة السلمية أو المسلحة لشعب مزقته الصراعات العرقية والقبلية والتناقضات السياسة.

لقد حرص الرئيس عرفات (رحمه الله) أن يلتقي منديلا أكثر من مرة، وأن يستضيفه حتى في قطاع غزة عام 1996، وأن يشاطره الرأي والمشورة، وأن يتعلم من تجربته النضالية، وأن يأخذ منها الدروس والعبر، ولكن جبروت الاحتلال الإسرائيلي ومن يقف خلفه من قوى استعماريه من ناحية، واستشراء الخلاف وجدل الصراع الداخلي من جهة ثانية، حالت جميعها دون أن يكون عرفات هو مانديلا فلسطين، فيأتينا بالوحدة والاستقلال.

في الحقيقة، إن قراءة تاريخ جنوب أفريقيا منذ أن وطئت أقدام البريطانيين والهولنديين البلاد في القرن السابع عشر وحتى تسعينيات القرن العشرين، تأخذنا إلى محطات نضالية مختلفة، حيث تعددت أساليب المقاومة وأشكالها بين العنفية المسلحة واللاعنفية، والتي اعتمدت على تحريك المواقف الدولية لمقاطعة نظام الأبارتهايد، وكان أن تكللت بعد عقد من الزمن أو يزيد بالنجاح.

ما يهمنا في سياق "مئوية مانديلا" هو تلك الصفحات التي سطرها هذا القائد العظيم، والذي ترك خلفه إرثاً نضالياً وسياسياً يتسم بالحكمة وبُعد النظر، حيث تمكن من الأخذ بيد شعبه للحرية، وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والازدهار المجتمعي في بلاده.

لم تكن التحديات التي تعامل معها مانديلا أقل مما نواجهه نحن الفلسطينيين اليوم، من حيث تكالب دولة الاحتلال ومناصريها في الغرب، ولكن مانديلا عمل - ربما في ظروف أفضل - من أجل توفير الأجواء المحلية والاقليمية والدولية لتعزيز أوراق قوته، وتعرية "حكومة البيض" من أية مبررات أخلاقية أو سياسية أـو قانونية لتسويق نظام التمييز والفصل العنصري بين أبناء الوطن الواحد؛ الأبارتهايد.

كان مانديلا زعيماً لا ينازعه أحد في قيادة شعبه، حيث منحه تاريخه النضالي وسنوات اعتقاله الطويل شرعية ثورية، وفَّرت له صدارة مشهد الزعامة والتحرك والتفاوض بأستاذية احترمها الكل داخل حزبه القوي (ANC)، وحلفاؤه أيضاً في فصائل العمل الوطني والقبائل متعددة الأعراق في جنوب أفريقيا.

كان مانديلا زعيماً بحق، وحكمته السياسية منحته القبول بين كل المكونات النضالية، واسهمت في سرعة توحيد الجميع خلف قيادته.

في عام 1994، حاول عرفات تلمس خطى مانديلا في الاقتراب من الجميع، واجتهد في استمالة التيار الإسلامي للوقوف إلى جانبه، وسعى مع الكل الفلسطيني للتفاهم على رؤية وطنية تُنظم عمل الجميع خلف قيادته، إلا أن الفلسطينيين –للأسف- كان لبعضهم رأي أخر. ولذلك، تعثرت فرص اجتماع الصف، وتوحيد "الكل الفلسطيني" خلف قيادته.

لا شك أن إسرائيل ومنذ عودة عرفات من منفاه إلى أرض وطنه عام 1994، كانت تتربص بنا الدوائر، وترصد ساحة خلافاتنا السياسية، وساهمت بشكل أو آخر في تعميقها، والعمل على تكريسها، كما كان لها دورٌ في التعجيل - بعد غياب عرفات – بما وقع من اقتتال داخلي، انتهى بنا إلى حالة من التشظي والتشرذم السياسي والانقسام، بعد مواجهات مسلحة ما زلنا ندفع ثمنها إلى الآن.

إن مئوية مانديلا، ومشوار حياته كرئيس لجنوب أفريقيا، تستحق أن يتدارسها القادة الفلسطينيون في وطننا الحبيب؛ لأن الكثير من دروسها ستضيئ لنا الدرب، وستسهم في تصويب البوصلة لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، ثم مراكمة إنجازات وطنية تقطع الطريق أمام إسرائيل في تغولها ومحاولاتها لشطب القضية الفلسطينية.

إن تجربة مانديلا النضالية والسياسية، والحالة الاستعمارية المتشابهة من ناحية طبيعة الاحتلال الاستيطاني بين الصهاينة والبيض في كلٍّ من فلسطين وجنوب أفريقيا، تجعل من استيعاب درس هذه التجربة فرصة للمحاكاة النضالية، والدفع باتجاه مقاطعة إسرائيل، لانتهاكاتها للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وجرائم الحرب التي اقترفتها بحق نسائنا وأطفالنا، ومحاكمتها أخلاقياً لسياساتها العنصرية (الأبارتهايد)، والعمل على استعادة توازن المواقف الدولية خلف القضية الفلسطينية.

الجامعة الإسلامية: لفتة احتفالية

عقدت الجامعة الإسلامية بغزة ملتقى احتفالي بقاعة المؤتمرات، يوم الثلاثاء الموافق 23 سبتمبر 2018، حيث شارك مئات الطلاب والطالبات في فعاليات الاحتفالية، والتي حضرها سعادة أشرف سليمان؛ سفير دولة جنوب أفريقيا لدى السلطة الفلسطينية، وكان هناك عدد من المتحدثين الذين تناولوا تلك المسيرة للزعيم الأفريقي في سياق الدروس والعبر.

لقد كانت مشاركتي بمداخلة "ما الذي تعلمناه من منديلا"، حيث لخَّصتُ فيها - كفلسطيني – ما أخذناه من تجربة نيلسون منديلا النضالية، ومسيرته الطويلة للحرية، والتي أجملتها في النقاط التالية:

في مئوية منديلا، هذا ما تعلمناه...

في الحقيقة؛ لقد علمنا منديلا أن نبتعد عن لغة العداء، ونتجنب مصطلحات الكراهية وسلوكيات الانتقام؛ لأن الجرح في الكف وبيت العزاء واحد.. اليوم، ومنذ عقدين من الزمن، تعيش جنوب أفريقيا الجديدة بدون تفرقة عنصرية، ويرفرف في سمائها علم واحد، والكل يعمل بكل حيوية وجد لنهضة البلاد، والكل في عطائه وكأنهم - حقيقة - على قلب رجل واحد.

لقد علمنا مانديلا فلسفة التداول السلمي للسلطة، وذلك حين أصرَّ على عدم الترشح لدورة رئاسية ثانية ليفسح المجال لجيل الشباب من بعده، وليتفرغ بحكمته وتاريخه مرشداً وهادياً وخادماً لشعبه.

لقد علمنا مانديلا أن بإمكاننا أن نعيش تحت سقف وطن واحد، حتى مع اختلاف اللغة والدين والعرق، إذا كان الجميع تحت حكم القانون سواء، وتسود أجواء الحرية والمساواة بين الجميع.

لقد علمنا مانديلا كيف يكون الكفاح، وكيف يكون التفاوض، وكيف يتحقق مع الصبر والحكمة التمكين والنجاح، وكيف يمكن أن تحل اللقاءات والوساطات مكان القوة والعنف في إنهاء الأزمات.

لقد علمنا مانديلا بأن التحولات السياسية هي بطبيعتها صدامية، ولكن صاحب الزمان هو من يمتلك الرؤية للخلاص وقيادة البلاد، وصناعة أمة يمكنها أن تتعافى من أزماتها وأن تقود.

لقد علمنا مانديلا بأن التفاوض لحل الخلافات المزمنة والأزمات المستعصية بين أبناء الوطن الواحد ليس فيه رابح وخاسر، بل على طرفي الأزمة والخلاف العمل للوصول إلى حالة يكون فيه الجميع من الرابحين.

لقد علمنا مانديلا أن القائد يمكنه أن يربح معركته مرتين؛ واحدة لشعبه، والثانية للبشرية جمعاء، حيث كان انتصاره على سياسات التمييز العنصري في بلاده، وشطبه أو جعله سياسة منبوذة تحاربها الدول والشعوب، كما نشاهد اليوم حملات التنديد بإسرائيل بين شعوب العالم؛ باعتبارها دولة أبارتهايد.

لقد علمنا مانديلا أن في حياة كل أمة رجال على كاهلهم تقع مسئولية البناء ومراتب النهوض، وهم من تحفظ الأجيال ذكراهم؛ لأنهم تركوا خلفهم نهجاً وأثر.

لقد علمنا مانديلا أن حياة الأَسر والاعتقال ليست كلها عذابات وشر، فجزيرة "روبن" كانت بالنسبة إليه كجامعة، وفي زنزانته هناك كانت المراجعات واكتساب مهارات التفاوض بأستاذية عالية.. لقد كان يرسم خارطة الطريق لخلاص شعبه وأبناء وطنه، ومن بين أطواقها التي اكتحلت بسواد الليل وبرده خرج منديلا - مرفوع الهامة يمشي ملكاً -إلى بوابات القصر الرئاسي؛ زعيماً وقائداً ينثر ورود التسامح وينزع البغضاء ورغبات الانتقام من قلوب أبناء شعبه، ويأخذ بأيديهم إلى بناء وطن جديد تسود فيه علاقات المحبة والتآخي والعيش المشترك.

ختاماً.. إن منديلا كان وسيبقى في الذاكرة هو "أبو الأمم"، ولن تنسى شعوبُ العالم ما تعتبره أيقونة للضمير الإنساني أبداً.

في مئوية منديلا نقولها من القلب: وداعاً مانديلا.. وداعاً يا سيد الحكماء