قصص هناء عبيد
تاريخ النشر : 2014-05-24 00:07

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، مجموعة قصص قصيرة جدا للمهندسة الفلسطينية هناء عبيد المغتربة في أمريكا.

 بدأ النقاش جميل السلحوت فقال:

 هناء عبيد تعيش هموم شعبها وأمتها

 المهندسة هناء عبيد فلسطينية من قرية العيسوية المقدسية، متزوجة وتقيم مع أسرتها في مدينة شيكاغو في ولاية الينوي الأمريكية، لكنها إن غاب جسدها عن فلسطين وقدسها، فان روحها معلقة بها، ومن يتابع كتاباتها لا يحتاج الى كثير من الذكاء ليقف على اهتماماتها التي تشغلها، فأثناء الاضراب الشهير الذي خاضه ابن عمّتها المناضل سامر طارق العيساوي عن الطعام، كانت تتعذب ألما عليه وعلى غيره من الأسرى، كما أنها كتبت عن رحلتها الى القدس وما شاهدته فيها من أماكن مقدسة، لكنها لم تغفل عن عذابات المدينة التي تئن من عبث المحتلين بها.

 وفي أقاصيصها الوجيزة التي أرسلتها لندوة اليوم السابع عن طريق الروائية المقدسية ديمة جمعة السمان، نرى بوضوح مدى اهتمامات الكاتبة عبيد، ومدى ارتباطها بوطنها التاريخي فلسطين، وبشعبها العربي الفلسطيني، وبأمتها العربية وما وصلت اليه من حال لا يسرّ الصديق ولا يغيظ الأعداء، وكاتبتنا هناء عبيد الأمّ التي نشرت رسومات لابنتها، وكتبت اكثر من مرّة عن أبنائها، لم تغب عنها الطفولة الذبيحة في فلسطين وسوريا وغيرها، فكتبت أكثر من أقصوصة تنتقد فيها ذبح الأطفال واضطهادهم، بل والطرق التربوية غير اللائقة التي يعامل فيها بعض الآباء أطفالهم.

 كما أنّها لم تنس بنات جنسها وما يتعرضن له من سطوة المجتمعات الذكورية، ولم يغب عن بالها الظلم الذي تلحقة الأنظمة الدكتاتورية بشعوبها، فهم يرفعون شعارات براقة كاذبة في خطبهم، لكنهم يمارسون عكسها على أرض الواقع.

 ولم تخف تأثرها بالمجتمع الأمريكي المكون من أعراق وديانات مختلفة، لكنه يعيش في تآلف ومحبة، عكس المجتمعات العربية التي تمزقها النزاعات الطائفية والعرقية مع أنها في غالبيتها تتكون من قومية واحدة، تدين بديانة واحدة، فتقول في أقصوصة بعنوان"في شيكاغو" :

 "في إحدى الأسواق المكتظة ، أمعنت النظر في وجوه لا تتشابه...ابتسمت وقد تجملت شفتاها بلوحة تزينت بكل الألوان" وكأني بها تقول: بأن كل هذا التنوع في شيكاغو قد أنتج لوحة فسيفساء جميلة، وما لم تقله هو: لماذا نحن العربان لا نكون ذلك؟ ولماذا تعدديتنا الثقافية لا تكون سببا في بناء حضارتنا مثل غيرنا من الشعوب؟

 وهناك تفاوت واضح في البناء القصصي عند كاتبتنا، الي اعتمدت على التكثيف اللغوي في أقاصيصها، وعلى النهايات الصادمة، وهذا من صفات القصّ الوجيز، ولو أنها راجعت مليا بعض هذه الأقاصيص لكان بامكانها أن تحكم بناءها.

وقال جمعة السمان:

 نصوص هناء عبيد.. إنفجارات شوق وحنين.. ونماذج قلق من عذابات الغربة.. الى وطن لا يصلها منه سوى ما يشغل البال.. ويُنذر بالفرقة والموت والدمار، لذا نجده منسوجا من عذابات الغربة والشتات.. جرح افتقد الوطن .. فباتت جميع نصوصها آآآآآآآهات وأنأأأأأأأت.. مليئة باللوعة والإشتياق. عدد النصوص حوالي ثمانين.. اخترت بعضا منها لتكون لسان حال الكاتبة وكل من يعيش الغربة والشتات من إخوتنا.

 -"رفع رأسه المثقل بالتراب من بين حطام المنزل.. يبحث عن أم .. عن أب.. عن لعبة.. لم يُدرك أنه كان عليه أنه يجد ساقه أولا."

 تعليق: صورة من صور يوم القيامة.. "يوم يفر المرء من أخيه..وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه" صدق الله العظيم.. كلمات قليلة من قلب الوجع الفلسطيني.. جسد في الغُربة.. وروح تعيش في أرض الوطن.

 -مجزرة"هرعت نحو اكوام الموت.. لازمها الأمل عندما وصلت الى المكان المنشود.. وجدت الرؤوس والأرجل مبعثرة.. وبعد أن سألوها أيهم ابنك..؟؟ أشارت إليهم جميعا."

 تعليق: سهم واحد.. قوس واحد.. ذراع واحد.. جميعهم أبناء أم وطن واحد

 -شجاعة " : صبّ جام غضبه على ورقته .. تحدى ظلمهم .. انتقد نظامهم حينما داهموه ارتجف والقى بطولته في القمامة."

 تعليق: القلم مسكين إذا لم تدعمه قوة

 -بطولة عربية ": ابتدأت المعركة .. عبرت الصواريخ العربية الصنع أجواء العدو.. اخترقت الدبابات المحلية المدينة المحتلة.. حُرر كل شبر فيها..رفعت شعارات النصر المبين.. عندها صرخ المخرج.."ستوب.""

 تعليق: هذا حلم كل فلسطيني وعربي.. فلا يأس مع الحياة.. ولا نصر مع اليأس.. ما دام الحجر ينطلق بزغرودة الأمل.. بعزيمة الإيمان والإصرار.. سيتحقق النصر.

 "- كفّارة" : أقسم بالله على أن لا خنوع لأجن

 لا سلام مع مغتصب.

 لا ظلم .. ولا تعسف.

 لا إهدار لمال عام..

 في أول يوم من تسلمه منصب الرئاسة.. نصحه مستشاره بصيام ثلاثة أيام."

 تعليق: من أراد الشفاء عليه الإعتراف بالداء

 "إصرار: منذ نعومة أظفاره .. لبس الشارب.. حمل الحجر.. لعب بالبندقبة

 نزعوا الشارب .. فتتوا العظام بالحجر.. كسروا البندقية.

 أنبت الشارب.. لملم العظام.. .. قبض على الحجر وحمل البندقية.".

 تعليق: كيف يموت وطن عمره بطول روح عدد أبنائه.

 أم فلسطينية": بعد أن ارتوت الأرض بدمائه الزكية.. تعالت زغاريدها.. نظرت الى صغيرها.. ابتسمت.. ثم ناولته حجرا."

 تعليق: لذا نجد أن في الأسرة الفلسطينية الواحدة أكثر من شهيد.

 " آمين": أقبل عليه كل شرفاء المدينة.. استشاروه عن أفضل السبل للتغلب على الأعداء

 قال: رددوا خلفي:

 اللهم سلط عليهم حكاما مثل حكامنا.

 تعالت أصواتهم مستبشرة آآآآمين."

 تعليق: نعم حكامنا بمثل هذا السوء وأكثر

 تربية" : الطفل هو ثروة المستقبل.. التي علينا المحافظة عليه

 هكذا بدا حديثه عند استضافته في برنامج عن حقوق الطفل

 عندما قرع باب منزله.. هرع أبناؤه الى غرفهم.. وتظاهروا بالنوم."

 تعليق: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون

 "لم يستطع جسدها المتعب أن يمنع قلبها من الرقص فرحا.. حينما سمعت لأول مرة صرخات الإعلان عن القدوم الى الدنيا

 استعدت لتحيطه بذراعيها بعد عشرة أعوام من الإنتظار

 سألتها الممرضة: ما الإسم الذي اختَرته للحلوة الصغيرة؟

 أخفت وجهها بكفيها وأجهشت بالبكاء."

 تعليق: من هذا الذي يكره قمر السماء؟

 من هذا الذي يكره بساتين الأرض؟

 والله دونك يا سيدتي .. ما طل قمر من سماء

 ولا تفتّح زهر في بستان

 وما انتشر عبق الورد يُعطّر الكون.. يُرحب

 بقدومك بُرعما به تتجدد الحياة."

 وهناك قصص كثيرة.. جميلة هادفة.. وذات معنى في نصوص الأخت هناء عبيد.. لكنه ضيق الوقت.

أمّا ديمة السمان فقد قالت:

. نصوص الكاتبة الفلسطينية "هناء عبيد": (لوحات إنسانية) كان للّونين الأحمر والأسود النصيب الأكبر فيها.

لوحات انسانية رسمتها الكاتبة الفلسطينية المغتربة بنت العيسوية م. هناء عبيد بدقة أوجعتني.. حددت إطارها.. ومن ثم بثت مشاعر غربتها.. فملأتها بألوان الطّيف.. غطت كل زاوية من زواياها بأحرف زادت من شعلة لهفتها وشوقها الى حضن الوطن.

 صور أدبية نقلت مشاهد مأساوية.. وثّقت معاناة شعب لا يزال يرزح تحت نير احتلال ظالم دفن الضمير قبل أن يجرؤ على ارتكاب مجازر يندى لها جبين الانسانية..

 كلمات ليست كالكلمات.. لونت أحرفها بالأحمر.. وأتبعته باللون الأسود

 هما لونان.. كانا لهما النصيب الأكبر.. نقلا الواقع الفلسطيني منذ النكبة حتى يومنا هذا. ولا يزال مفتاح أبي أحمد معلقا على جدار القلب يبكي مجزرة دير ياسين.. ولا يزال البرد ينخر العظام على الرغم من أن دخان الموقد يتصاعد في سماء القصر.. ولا يزال المفاوض يتحسس معطفه الواقي من الرصاص. أما أطفال غزة .. فلا يزال صوت فزعهم يخترق طبلة أذني.. يحتلها.. يذكرني بعجزي. ولا زال حلم البطولة العربية يكبر.. لأصحو على صراخ المخرج.

 أما ما يسمى بالربيع العربي.. ولا أدري إن كان ربيعا حقا.. فقد اختلطت فصول السنة ليصبح الربيع خريفا.. والشتاء صيفا...الخ من تداخلات لا يعلم بها سوى الواحد الأحد.. فقد كان له نصيب أيضا.. فمن تحت تلال الجثث تعالت أصوات الشعب تقول (شكرا).. ولم تختف ريشة فنان الكاريكاتير وهو يحاول ان يرسم ملامح بهلوان يصرخ في (كل زنقة زنقة). وقد اشتعل الغضب.. فتفجرت البراكين.. ليتقيأ الكرسي.. وتجود السماء بقصيدة الحرية والمطر.

 أما في بلاد الغرب فمحظوظ هو صاحب الملامح الغربية.. خاصة بعد الحادي عشر من ايلول. وكاتبتنا تعيش في بلاد العم سام.. أستطيع أن أدرك حجم المعاناة.

 وفي قلب كاتبتنا الكبير.. كان لذوي الاحتياجات الخاصة مكانا.. فقد كان نقدا لاذعا لذوي القلوب القاسية الذين لا يحترمون من حرمه الله نعمة الادراك.

 أما من يرشح نفسه لمناصب هو ليس بحجمها.. فيبدو أنه سيقضي عمره صائما.. فالقسم يتبعه قسم.. ويبقى الحال على ما هو عليه.. لا تجديد ولا تغيير.

 لقد عبرت الكاتبة عن هذه الظاهرة بذكاء.. وبأقل الكلمات.. دون اسهاب.

 كما أبدعت برمزية القصة التي حملت عنوان صحوة ضمير.. فقد خط الرجل مسيرة حياته بحبر رخيص.. ليكتشف بعد أن قلب الصفحات أنها ملطخة ببقع حبر أسود. هذه نهاية من يرتضي على نفسه أن يعيش حياة رخيصة دون قيم ومباديء ترسم له مسيرة حياته.

 ولم تنس كاتبتنا من يقول ما لا يفعل.. من يدعي الانسانية وهو منها براء.. ففي قصة عنونتها بِسخرية مؤلمة ( إنسان): هو في مركز رفيع.. يعمل في منظمة حقوق الانسان.. اعتذر عن الاجتماع لحضور حفل عيد ميلاد طفلته.. فقاد سيارته على عجل.. في طريقه دهس طفلا.. نزل من سيارته مسرعا.. أزال أجساما أعاقت طريقه.. وواصل رحلته. ما أبشعها من صورة.

 كما كان للتربية.. ولدفء الحياة الأسرية.. ومقارنتها بين الماضي والحاضر نصيبا أيضا.. فلم تعد للأبوين القدرة على ضبط شؤون أطفالهم كالماضي. وهذا موضوع يحتاج الى طرحه كقضية للنقاش.

 أما التكنولوجيا.. وما أدراك ما التكنولوجيا.. فقد تمكنت من النيل من دفء الحياة الأسرية.. أحدثت تغيرا جذريا على طبيعة العلاقة بين أفرادها وتواصلهم.. فَقد كان أفراد (العائلة العصرية) يجلسون معا بأجسادهم فقط.. روح كل منهم معلقة بحاسوبه.. فعلى الرغم من أن الأم حاولت أن يكون ذاك اليوم مختلفا.. حاولت أن تعيد الألفة بين أبنائها.. جمعتهم.. ولكن الصمت كان سيد الموقف.. فلم يعد هناك لغة مشتركة.. أخيرا.. وبعد يأسها.. أشارت لهم بالمغادرة.. فابتسموا.. وعاد كل منهم يعانق حاسوبه بشوق.

 رائعة هذه القصة.. تنذر بخطر محدق لتطور العلاقة الاسرية مستقبلا.. وتدق جدران الخزان.

 الكاتبة أجادت طرح القضايا بقلم ساخر ناقد.. فخير الكلام ما قل ودل.. لقد أتقنت فن القصة القصيرة جدا أكثر من القصص القصيرة التي جاءت في نهاية المجموعة.

 وفي الختام .. آن الأوان للكاتبة ان تجمع قصصها بين غلافي كتاب يحمل اسما لمجموعتها.. ويزيّن باسمها.

وقال عبدالله دعيس:

 ترسم هناء عبيد، في مجموعتها القصصية، حديقة من الورود، وتقودنا لنسير فيها، نشتمّ من كل وردة عبيرها، ونمضى بسهولة ويسر إلى الوردة التي تليها. فأقاصيصها متنوعة: واحدة تنتقد وضعا اجتماعيا سيئا، وأخرى تتهكم على وضع سياسي مرير، وثالثة فيها حنين إلى وطن ما زال في نظرها جميلا بالرغم مما اعتراه من ظلم وحيف. فكل المشكلات الاجتماعية في الوطن، وكل المآسي التي يقاسيها أبناؤه من أعدائه، ومن حكامهم، لا تجعل الكاتبة تعزف عن حبه أو تتناسى بطولات أبنائه.

 تشير الكاتبة إلى العديد من القضايا الاجتماعية التي تشغل الكثيرين. تتناول كل قضية بومضة سريعة مركّزة، تضع يدها على المشكلة وتلفت النظر إليها، وتنهي أقصوصتها بطريقة صادمة مفاجئة، تجعل القارئ يمعن التفكير فيها، ويتبادر إلى ذهنه العديد من الحكايات والقصص التي سمعها عنها.

 وهي تنتقد المرأة كما تنتقد الرجل على حد سواء. فالمرأة تشكو وتتذمر على الرغم من كل الامتيازات التي تحظى بها، وهناك من تهمل واجباتها تجاه أولادها وبيتها، وأخرى نكدة تخلق المشكلة من لا شيء وتفسد متعة اللحظة الجميلة، وتلك التي تخفي وجهها الحقيقي وتتلون حسب الظرف الذي توجد فيه. وتنتقد الرجل الذي لا يقدّر حب زوجته وإخلاصها ويتخلى عنها عند أول منعطف، وكذلك الرجل الذي لا يحسن السيطرة على عائلته وقيادة أسرته، والذي يظلم المرأة ولا يعطيها الفرصة للعمل والإبداع، وذاك العاق لوالديه الذي لا يحفظ لهما فضلهما.

 ثم توجه سهامها إلى الأسرة والمجتمع بشكل عام، فتنتقد ضعف التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة، خاصة بعد الغزو التكنولوجي لها، وتنبه أن الحياة المرفهة قد لا تجلب المحبة والطمأنينة، والتي عادة ما تصاحب الحياة البسيطة. وتنعى أبناء المجتمع الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين ما زالوا يتشاءمون من مولد البنت ويفضلون الذكور، وتنتقد تفشي المحسوبية والواسطة، ونظرة المجتمع السلبية إلى المعاقين.

 أما أقاصيصها السياسية، فتحمل طابع التهكم والسخرية من وضع أليم أقصى ما يمكن أن يوصف به أنه سخيف. فترسم بقلمها صورة قاتمة للحاكم العربي المنهزم المهزوز أمام الأجنبي، ذلك الذي يدّعي البطولة وهو في حقيقته نذل وجبان، والذي يتغنى ببطولات وانتصارات وهمية، هي في حقيقتها مسرحية هزلية أو فيلم سينمائي تنتهي أحداثه عندما تسدل الستارة، نعرف زيفه ولكننا نصفق له! ورجال السياسة والحكم، في أقاصيصها، انتهازيون كاذبون، يدّعون الحرص على حقوق الإنسان بينما يسومونه سوء العذاب، ويزعمون الديمقراطية تمويها وتدليسا، أما من يطالب بأبسط حقوقه فيكون مصيره السجن والعقاب.

 والمواطن العربي يتعرض لشتى أشكال الظلم والقتل والتعذيب، فالموت قريب، إن لم يكن بيد عدو فهو بانفجار غادر، فلا يترك له مجالا للإبداع ولا حتى للفرح أو العشق، فخطاه محسوبة عليه وأنفاسه معدودة. لكن الظلم والإكراه سيؤدي حتما إلى الثورة، وسيحتشد الناس في الميادين مطالبين بحرية طال انتظارها. والكاتبة تمجّد النضال من أجل الحرية، وتثمّن دور الشهداء. ويبدو أنها ترى أن العمل النضالي ليس كافيا وبحاجة إلى المزيد من الزخم.

 وللكاتبة حكاية مع الغربة، فبالرغم من كل ما وصفت من مشاكل اجتماعية وظلم سياسي للمواطن، إلا أنها تتوق إلى الوطن وتحنّ لتراثه: لزيته وزيتونه، لزعتره ودفئه، لكنها لا تحنّ لآلامه وعذاباته. وهي، في الوقت ذاته، تشعر أن الغربة توفر الأمن، والمعاملة الكريمة التي يفتقدها العربي في وطنه.

 ولغة الكاتبة سهلة بسيطة، وجملها قصيرة محكمة البناء، لا تخلو من الخيال والصور الجميلة. لكنها لغة مباشرة لا تعتمد الرمزية بشكل كبير، والتي هي سمة من سمات القصص القصيرة جدا. وبالرغم من كلماتها القليلة إلا أن نصوصها تحمل طابع القصصية وذات خاتمة مفاجئة محيرة، وترتبط عناوين القصص بنصها وخواتيمها.

 ففي نص بعنوان "غربة" تقول الكاتبة: اخترق الألم عظامه.. تذكر دفء هناك .. آلمه شد الحزام .. أطبق عليه معطفه، وأخذ يتلذذ قرس الصقيع." تصور بهذه الكلمات القليلة حال المغترب الذي يتألم لترك وطنه ويحن له، ولكنه يتذكر الآلام الذي كان يقاسيها هناك في وطنه، فيرضى بالواقع الصعب في الغربة ويختار ألّا يعود. فهي تجسد بكلمات قليلة حالة إنسانية تحتاج إلى الكثير من الشرح والتوضيح والتعليل والتبرير، لكنها تنكأ الجرح الذي ينهك الجسد بأسلوب بسيط سلسل ولكنه مقنع.

 وأخيرا، لو طلب مني أن أختار عنوانا لهذه المجموعة من القصص القصيرة جدا، فسأختار عنوان إحدى الأقاصيص ليكون عنوانا للمجموعة وهو "السطر الأخير". فملحمة الألم والظلم والهوان والغربة والعذاب لا بد أن يكون لها سطر أخير، لنبدأ قصة أخرى لها عنوان يعد بالنصر والكرامة والتمكين.

وكتبت رشا السرميطي:

كاتبتنا صاحبة القلم العميق الذي اختزل المعنى ما بين سطرين أو ثلاثة اصطحبتني في رحلة بها سبعا وسبعين محطة كانت بعنوان قصة قصيرة.

 تنوَّعت المسميات لديها لكنَّها في معظمها تعكس حال المغترب الذي يلوكه البعد ويطحن أمله بالرُّجوع حلم عنوانه العودة.

 هناء أخذت تعالج في قصصها إن جاز لي التعبير قضايا واقعية عديدة أصابت نواة مكنونها كالزواج والخيانة، والحرب والتشرد، العلم والجهل والإنسانية الغائبة في معظم المواقف، حال بدأت قراءتها شعرت باحتياجي لمزيد يكمِّل، لكنني ما إن غمست فكري في طبيعة هذا القلم الذي اختار القصص القصيرة لونًا لحرفه، حتى بدأت التأقلم مع ما نسجته لي من لوحات وضاءة شبكتها بلغة رشيقة على التوازي، فكانت تضيء وتنطفئ أمامي بلطف اللحظة وميقات الكلمة الهادئة.

 ولايخفى على القارئ وفاء كاتبتها واخلاصها للوطن الذي أثقل حرفها مابين الغربة وعبق القهوة، وظلال الزيتون ونسائم التين، كانت ظلال الأماكن حاضرة في قلمها أينما حلت أوراقه بألوان بدت قاتمة بعض الشيء، لكنها عكست الواقع الحقيقي.

 أذكر من العناوين التي استوقفتني في قصرها الذي حرر خيالاتي كقارئة لبناء بقية ما لم تكتبه هي: زوجان، فيس بوك، ولد، معاق، انسان، رائحة الوطن، ومقدسيَّة.

 تقول في القصة رقم (١٤): انشرح صدرها عندما لمحت الأشعة الذهبية تنعكس من قبة الصخرة المشرفة، ازداد توهج المدينة المقدسة، سارعت الخطوات آملة ركوعًا وسجودًا، حاولت تسلق الجدار، تبعثرت حبات تين تحت جسد هزيل.

 الكاتبه هنا تحكي قصة سبقت الحرب ولم تزل تتجدد حتى يومنا في تجاعيد الوقت الذي نلمحه مرورًا بهن وابتسامتهن، مرسومة للمارة في دعوة لشراء التين والخوخ والنعنع المخضر كأرواحهن.

 وأخيرًا قصة بائع الكعك أبو أحمد التي تلامس عمق الأحاسيس لأي قارئ، وذاك المفتاح الشاهد على حكايتنا بأن نعيد نظم خريطة مزَّقها التاريخ، كانت وستبقى فلسطين، كما كاتبتنا ولدت وتدفق دم العروبة في أوردة قلمها؛ لتحكي لنا حكايات الدحنون في سهولنا المنقوشة بشجيرات الزيتون.

كما كتب ابراهيم جوهر:

 (هناء عبيد) تشكو الغربة في قصص قصيرة جدا

 أصرّت الكاتبة (هناء عبيد) وهي المقيمة في شيكاغو على العودة إلى أرض الوطن والقدس تحديدا بقلمها وروحها، فأبت أن تنشر قصصها التي حملت روح الإحساس بالغربة والاغتراب قبل أن تمرّ على (ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية) التي ستخصص لها أمسية خاصة يوم 22 أيار 2014م.

 تظهر الغربة القاتلة في قصص (هناء عبيد) القصيرة جدا بجلاء ينبئ بما تعانيه الكاتبة في البعد عن الوطن الذي تحنّ إليه وتستذكره وتستحضره. هي الغربة الجغرافية المتمثلة في البعد المكاني عن أرض الوطن. أما العيش بين الناس من ذوي المفاهيم العرجاء وأساليب الغش والخداع والتدليس فوجد مكانه في قصصها أيضا؛ إنه الاغتراب هنا، ليكون الاغتراب والغربة عمودين يحملان أفكار الكاتبة وبنيانها الفني في هذا العدد الذي جمعته من بين ما كتبت في هذه المخطوطة.

 وصلتني مخطوطة (هناء عبيد) بلا عنوان فلم تختر عنوانا شاملا مكتفية بالعناوين التي حملتها قصصها ، وإن كان العنوان الفرعي (رائحة وطن) شاملا لمضمون قصصها هنا فأجد أنه الأنسب ليحمله كتابها إذا ما قررت إصدار كتاب خاص يضم هذه القصص.

 ست وسبعون قصة قصيرة جدا توزعت مضامينها على الجوانب الإنسانية والوطنية والثقافية والاجتماعية وبرزت الغربة ثيمة تكررت بسبب عيش الكاتبة بعيدا عن الوطن، كما برز الاغتراب لما يعانيه الفرد في بلادنا وفي العالم من تضاد في المفاهيم واغتراب عن المجموع الذي يعيش وسطه بسبب من عدم وجود قواسم مشتركة حينا ، أو اختلاف الرؤى والاهتمامات.

 في هذه القصص لقطات إنسانية التقطتها عدسة الكاتبة بذكاء فسخّرتها لبنائها القصصي. وقد تعددت لقطات الكاتبة لتشمل الموضوعات التي تهم الإنسان وتنتقد السالب من التصرفات والمفاهيم والادعاء المتمفصل (قصة تربية، مثلا).

 الكاتبة تتعامل مع القصة القصيرة جدا وفق ما يتطلبه هذا اللون الأدبي؛ فاللغة مكثفة، والحدث سريع، والشخصية عابرة حينا لتخلي المكان الضيق للحدث وأبعاده، ومستقرة واضحة حينا لتقدّم نفسها كونها هي مركز القصة بما تعنيه من نمذجة.

 لقد تفاوتت مستويات القصص هنا وفق الحالة الإبداعية التي تكون عليها الكاتبة وفيها. كانت أحيانا تسير مسرعة باتجاه النهاية، وأحيانا تبطئ الحركة ليتأمل القارئ الحالة والموقف والشخصية، وفي هذه وتلك تبقى اللغة القوية المعبرة سيدة القصة، والرسالة المرسلة واضحة الدلالة في انتظار أذن تسمع وعقل يعي فيبادر للنظر في المرآة.

 وشارك في النقاش سوسن عابدين الحشيم، نسب أديب حسين، رفعت زيتون، طارق السيد، ديانا أبو عياش،والدكتور عبد الكريم عياد.