واقع التنمية الاجتماعية في فلسطين
تاريخ النشر : 2014-05-05 18:56

تتفاعل مجموعة محاور أساسية لتكوّن التنمية الاجتماعية، بصفتها عملاً إنسانياً مركباً، حيث تتقاطع هذه المحاور وتتفاعل مع بعضها، فهي تتمثل في السياسة بالممارسات الديمقراطية والتعددية الحزبية، وتتمثل في الكفاية الاقتصادية من خلال إنتاجية العمل والسوق، والأهم من ذلك تتمثل في التماسك الاجتماعي وحقوق الإنسان والقيم الثقافية، هذه المحاور الأساسية عبارة عن حزمة مترابطة متماسكة عضوياً، لا يمكن فصلها عن بعضها، خوفاً من الوقوع في خلل التباين والخلافات. فهي تتفاعل مع بعضها بعضاً ضمن حيز جغرافي (ماض، حاضر، مستقبل) بشكل دائم، وبشكل ظاهر وبنتائج ملموسة، وشفافية واضحة، فإذا أهمل أحدهما اختلّ التوازن وظهرت نقاط الضعف، وانعكست نتائجه بشكل واضح ومؤثر على المجتمع.

 

ورثت السلطة الوطنية الفلسطينية واقعاً اجتماعياً هشاً، خاصة في قطاع الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى الواقع الاقتصادي السيئ، مع البنية التحتية المدمّرة، والانتشار الواسع للفقر والبطالة، والنقص الكبير في المرافق والخدمات الصحية والتعليمية، فضلاً عن الأزمة السكانية نتيجة القيود الاحتلالية على البناء، حيث أبقى الاحتلال على مستوى الخدمات ذاتها التي كانت قائمة قبل عام 67 في ظل الإدارة الأردنية للضفة الغربية، وفي ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد السكان.

 

بدأت السلطة الوطنية الفلسطينية منذ استلامها للصلاحيات الاجتماعية في 15/10/1994م من الإدارة المدنية الاحتلالية بالعمل وبالتعاون مع المؤسسات والهيئات الأهلية، التي تعمل في المجال الاجتماعي، وخاصة وكالة الغوث الدولية، والمؤسسات والجمعيات الأهلية، ومؤسسات القطاع الخاص، حيث أن هذه المؤسسات والهيئات قد سبقت السلطة، وكان لها دور ظاهر وحيوي على صعيد تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الفلسطينيين خلال وجود الاحتلال، وما زالت تقدم خدماتها بالتعاون مع مؤسسات السلطة الوطنية.

 

فعلى المستوى الحالي والمستقبلي تمثل القوى البشرية العنصر الأساسي للمؤسسات العامة والخاصة، وإدارتها عامل رئيسي من عوامل نجاحها، فقد تجلت قدرتها على تجميع وتنظيم طاقات الأفراد، وإمكاناتهم المادية والفكرية والعلمية لتصب في مجال الخدمات المختلفة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقدرتها على أهمية اتصالها بالجماعات، وطرحها الأفكار الجديدة، وتطوير أساليب العمل، وتقديم الخدمات المطلوبة بصورة أفضل، حيث تضع الأسس السليمة لإدارة القوى البشرية كممارسة ونشاط، وهي عبارة عن مجموعة وظائف وأنشطة وبرامج، تتعلق بتصريف شؤون القوى البشرية، وتنظيم المجتمع، ودفعهم إلى العمل، من خلال تنمية الموارد البشرية.

 

إن أهم أولوياتنا الاهتمام بالقضاء على الفقر، إذ يعتبر القضاء عليه من المهام الملقاة على عاتق الفرد والجماعة والدولة، إذ هو واجب مرتبط بمفهوم التكافل الاجتماعي، بالرغم من تشابه أسبابه في جميع مناطق العالم، والتي يمكن ردها إلى الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وعجز التنمية المعتمدة على أنماط غير مناسبة من الإنتاج والتوزيع والاستهلاك في معالجة هذه الاختلالات بشكل جذري.

 

لقد تحققت بعض الجهود المتفرقة في تقليص حجم انتشار الفقر ومعالجة أسبابه، لكنها ما زالت بعيدة عن تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية، فالموارد الإنتاجية كالائتمان والأراضي والتكنولوجيا والخدمات العامة الأساسية والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ليست بمتناول الفئات الأشد فقراً في فلسطين، فالآليات التي من شأنها أن تكفل حماية المستهلك غير موجودة.

 

لقد بدأت السلطة بوضع خطة شاملة لإقرار سياسات واستراتيجيات مكافحة الفقر على المستوى الوطني، بمشاركة المؤسسات والهيئات الأهلية، على المستوى القطاعي تشارك فيه جميع الوزارات المعنية، ومستوى مناطقي يخص كل محافظة، وبمشاركة الفقراء أنفسهم في صياغة هذه السياسات والاستراتيجيات لتحديد مشكلاتهم واحتياجاتهم وأولوياتهم المختلفة، وذلك من خلال عدة برامج ومشاريع، مثل مشروع التدريب المهني، ومشروع إقامة المدن الصناعية والمناطق الحرة، بالإضافة إلى المشاريع الإقراضية لقطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة.

 

على الصعيد الزراعي تم إقرار خطة ثلاثية للتنمية تستهدف تعزيز القدرات في المجالات الزراعية المختلفة، وخاصة بناء وإعادة تأهيل البنية التحتية للقطاع الزراعي، وزيادة المساحة المزروعة، وتوفير فرص عمل والاهتمام بالمراعي والغابات وإعادة تأهيلها، كما تستهدف الخطة الاهتمام بالتنمية الريفية، وتنفيذ مشاريع الحصاد المائي، وتنمية وترويج المحاصيل الزراعية التصديرية، وتطوير قاعدة بيانات وإنشاء بنك للائتمانات الزراعية.

 

أما على صعيد البرامج والمشاريع الاجتماعية، يتم تنفيذ برامج موجهة للأسر المعدمة، والتي تعيش في حالة فقر شديد، وتم إعداد خطة صحية شاملة لإعادة تجهيز المستشفيات وتوسيعها، وفتح عيادات صحية في القرى والريف، وكذلك تم إعداد خطة تعليمية لفتح مدارس جديدة، واستحداث فصول جديدة وتطوير للوسائل والبرامج التعليمية، وعلى صعيد البرامج المتعلقة بالشباب والمرأة، تمت المساهمة في تأهيل الشباب والنساء في صدد وضع خطة وإستراتيجية شاملة لذلك.

 

تحرص المؤسسات الحكومية وغير الحكومية على أساسيات الدمج الاجتماعي على جميع المستويات، وخاصة دمج آلاف الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، وكذلك الدمج الاجتماعي للمهجرين من قراهم ومدنهم المحتلة، علماً بأن جوهر مشكلتهم سياسي يتعلق بالعودة، وحق العودة، وحق تقرير المصير، وتشارك السلطة وكالة غوث اللاجئين الدولية في تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية لهم، وتقوم بتنفيذ بعض المشاريع التنموية الصغيرة.

 

إن أهم المعيقات التي تواجه العاملين في مجالات التنمية الاجتماعي، سواء على المستوى الرسمي الحكومي أو على المستوى الأهلي غير الحكومي والمستوى الخاص، التفاوت في مستويات تطوير المناطق المختلفة في فلسطين، وتقديرات نسب الفقر العالية في بعضها، وازدياد أعداد الأغنياء الحاليين (القدامى والجدد) ومحدودية تكافؤ الفرص، وإشكاليات حقوق الإنسان خاصة الاعتقالات السياسية على خلفية الرأي وتجاوزات بعض الأجهزة الأمنية لحقوق الإنسان.

 

إن أهم ما يلاحظ في المناطق الفلسطينية ازدياد أعداد المسنين فوق 60 سنة، والذين هم بحاجة إلى رعاية اجتماعية وصحية، وتوفير أنظمة حماية اجتماعية لهم، ومؤسسات لرعايتهم، وكذلك بالنسبة للطفولة، فقد تشكلت لجنة وطنية للطفل الفلسطيني، ومجلس أعلى للأمومة والطفولة، والعديد من المؤسسات الأهلية المهتمة بقضايا الطفولة، إلا أن الطفولة في فلسطين بحاجة إلى مضاعفة الجهود لتلبية احتياجاتهم، وتطوير واقعهم، خاصة على صعيد عمالة الأطفال، والتفكك الأسري، وتحديد سن الزواج، ومحاربة ظاهرة الزواج المبكر، والمعاناة التي تعانيها المرأة الفلسطينية من التمييز واللامساواة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

إن محدودية العلاقة وقلة التنسيق والتعاون بين المؤسسات العاملة في مجالات التنمية الاجتماعية له أكبر الأثر دون بلورة رؤية موحدة شاملة، رغم وجود لقاءات دورية وتنسيق خجول بين القطاعات الاجتماعية العاملة في مجال التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وغيرها، فإنه لا وجود لأسس واضحة تشكل مضمون هذا التعاون لكي يطبق على طبيعة العلاقة بين الوزارات نفسها والمؤسسات الأهلية، فقد ظهر الضعف في تحديد احتياجات وأولويات التنمية بشكل عام دون إشراك المجتمعات المحلية، الأمر الذي يتعارض مع الاحتياجات الفعلية للسكان، ويتعارض مع التنمية بالمشاركة، وغياب رؤية سياسية اجتماعية واضحة، وضعف مبادئ الشفافية والمحاسبة والمساءلة، رغم صدور عدد من القوانين في مجالات الخدمة المدنية، قانون المجالس المحلية، وقانون التعليم العالي، وقانون ذوي الاحتياجات الخاصة، وقانون الجمعيات الخيرية والمؤسسات الأهلية، ومما أعاق التنمية الاجتماعية ضعف مقومات ومبادئ الحكم السليم من بعض الجهات، رسمية وغير رسمية والبيروقراطية، وضعف الإدارة الفعالة للبرامج والمشاريع التنموية.

 

لقد تميز العمل التنموي باعتماده على مبادرات منظمات المجتمع المدني، وتميزت منظمات المجتمع المدني بتناقضها مع الحكومات القائمة، قبل مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية، على مستوى الأهداف والسياسات وطرق العمل، حيث كان هدفها إحداث تنمية تساهم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وتحقيق مستوى معيشي لائق للفلسطينيين، فقد قامت بتغطية جزء مهم من الفراغ الناتج عن الدور المحدود لسلطات الاحتلال في تقديم الخدمات الاجتماعية للسكان، وتغطية دور الاحتلال الهدّام في بعض الأحيان، مستغلة رأس مالها البشري، حيث تمثل القوى البشرية العنصر الأساسي للمؤسسات الأهلية والخاصة والعامة.

 

مارست منظمات المجتمع المدني دوراً قيادياً ظاهراً، حيث تجلّت قدرتها على تجميع وتنظيم طاقات الأفراد، وإمكاناتهم المادية والفكرية والعملية، لتصب في مجالات الخدمات المختلفة، السياسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية، وأثبتت قدرتها على أهمية اتصالها بالجماعات، وطرحها الأفكار الجديدة، وتطوير أساليب العمل، وتقديم الخدمات المطلوبة بصورة أفضل، وباتصالها بالجماعات أكثر سرعة وأقل تكلفة بالمقارنة باتصالها بالأفراد، فقد نشأ في مجال المبادرات المدنية أجسام منظمة، على هيئة جمعيات خيرية، ومنظمات غير حكومية، ومؤسسات أكاديمية، وأخرى أخذت طابعاً أكثر جماهيرية، كالاتحادات والنقابات والأحزاب السياسية واللجان المحلية، وقد لعبت دوراً رئيساً في العملية التنموية.