السلطان عبدالحميد: صورة البطل المزيف
تاريخ النشر : 2014-04-20 12:29

هجوم كاسح واتهامات لا اول لها ولا آخر كان رد الفعل على مقالتي في هذه الصفحة يوم 6 نيسان (ابريل) الماضي بعنوان «السلطان عبدالحميد وفلسطين: الخرافة وتفكيكها»، والذي استعرضت فيه ما جاء في كتاب مهم صدر حديثاً للباحثة الاردنية فدوى نصيرات بعنوان «دور السلطان عبدالحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين». اطروحة الكتاب مبنية على تقصّ وجهد كبيرين إزاء السياسة الحميدية خلال اكثر من ثلاثين عاماً سيطر فيها السلطان على مصائر الامبراطورية العثمانية في حقبة بالغة الحساسية في الصراع الدولي على المنطقة، وهي الحقبة التي شهدت ايضاً الهزيع الاخير من عمر الامبراطورية المتهالكة. من اهم ما جاء في كتاب نصيرات البالغ التوثيق ان عدد اليهود في فلسطين خلال الحقبة الحميدية تضاعف ثلاث مرات، وان بناء المستوطنات اليهودية وإنشاء الشركات التابعة للمنظمات الصهيونية والنفوذ الصهيوني في فلسطين خلال العقود الثلاثة تلك تفاقم وظل في تزايد مستمر. وانه على الضد من «الفرمانات» الرسمية التي كان يصدرها السلطان من حين لآخر ليقيد الهجرة اليهودية، فإن الواقع على الارض كان يسير في اتجاه واضح وهو التغلغل المتواصل للوجود اليهودي. معنى ذلك ان السلطان كان يصدر تلك الفرمانات «للتاريخ» كي يبرّئ صفحته بشكل مكتوب وموثق، بينما سياسته على الارض كانت متراخية ومترددة.

يفند الكتاب ايضاً الاقنوم الاساسي الذي قامت عليه ميثولوجيا السلطان عبدالحميد في اوساط النخبة، بخاصة الاسلاموية، وتحولت إلى ميثولوجيا شعبوية ايضاً، وهي رفض السلطان لعرض هرتزل المالي المغري مقابل التخلي عن فلسطين لليهود. مرة اخرى، يتصرف السلطان هنا بالازدواجية نفسها حيث يطلق تصريحاً كبيراً وصارماً لـ «التاريخ» يقول فيه إنه لن يتخلى عن فلسطين مهما كانت الاغراءات، لكنه في الوقت ذاته يُبقي على علاقة قوية ووطيدة مع هرتزل ويقابله اربع مرات على مدار سنوات عدة حتى بعد ان رفض عرضه في اللقاء الاول. بل إن إثنتين من زيارات هرتزل لإسطنبول كانتا على نفقة السلطان الخاصة. والاكثر إدهاشاً من ذلك، وتبعاً لموسوعة الصراع العربي- الإسرائيلي (The Encyclopedia of the Arab/Israeli Conflict: A Political, Social, and Military History) وفي الصفحة 22، فإن السلطان منح هرتزل عام 1896 وسام القيادة المجيدية وهو من ارفع الاوسمة التي تمنحها الامبراطورية العثمانية، اي قبل عام واحد فقط من عقد مؤتمر بازل للحركة الصهيونية العالمية. والعلاقة القوية بين هرتزل والسلطان (والتي كانت براغماتية من طرف السلطان) هي التي تفسر التصريحات الودية التي كان يدلي بها هرتزل عن السلطان، وتفسر ايضاً جرأة هرتزل في الاعلان المباشر والصريح عن خطته في بناء دولة يهودية في فلسطين من دون اي حرج او خشية من اية عواقب.

على رغم كل ذلك وعلى رغم الصفة التفريطية التي وسمت سياسة السلطان عبدالحميد العملية والفعلية، فإنه استطاع ان يخترق المخيلة النخبوية الاسلاموية والشعبية من ورائها بكونه «السلطان المظلوم» والذي خسر عرشه بسبب دفاعه عن فلسطين. سلاحه القوي والفتاك تمثل في توثيقه اللفظي لمواقف لم تنعكس ابداً على الارض: كان على وعي تام بأن فصل فلسطين سيُكتب في التاريخ بكل التفاصيل الممكنة فأراد ان ينقل عنه التاريخ تصريحه الشهير في لقائه الاول مع هرتزل، ثم رسالته المكتوبة بخط يده إلى الشيخ ابو الشامات في الشام يتباكى فيها بأن الأعداء اجبروه على التنازل عن كرسيه بسبب عدم تنازله عن فلسطين.

الميثولوجيا الشعبية والمدعمة بحس ديني زائف تصعب زحزحتها، ذلك انها تتعالى الى مرتبة المقدس، وبسببها وعلى رافعتها توسد السلطان عبدالحميد مكانة رفيعة في العقل الجمعي العربي والاسلامي. وتتعاظم فعالية اية ميثولوجيا في وقت الهزيمة والإحباط حيث يصبح البحث عن «البطل» هماً جمعوياً وسيكولوجيا مرضية، فما ان تظهر في المشهد «احتمالات بطل» حتى يتم تحويله الى بطل مكتمل البطولة، مُبرّأ من النواقص. وهنا لا مجال لنقد البطل فضلاً عن التشكيك في جوهر الصورة البطولية التي رفعته الى مصاف ما فوق النقد والتشكيك. لا تقتصر سيكولوجيا البحث عن «بطل» على الايديولوجيا الدينية، والاسلاموية في الحالة العربية والاسلامية، بل تطاول كل الايديولوجيات. والمدهش ان «البطل» المُستقدم من فضاء ثقافي آخر لا يتحلى بهالة البطولة المقدسة نفسها في بيئته الاصلية بل يظل في إطار بشريته التي تحتمل النقد والتشكيك. فماركس مثلاً تحول إلى بطل في بيئات مهزومة وبعيدة من بيئته الأم، تماماً كما تحول عبدالحميد في البيئة العربية والاسلامية، وبعيداً من بيئته التركية التي لا تنظر إليه النظرة ذاتها، بل تتهمه بالتفريط بالامبراطورية والنزق في السياسة الخارجية.

ليس في الكتاب المشار إليه، ولا المقالة التي راجعته، اي تهم للسلطان عبدالحميد بالخيانة والتواطؤ مع هرتزل لبيع فلسطين، لكن اتهم بالسياسة التفريطية والمناورة الفاشلة والتردد الذي وفر الوقت الكافي للحركة الصهيونية كي تجمع جهودها ونفوذها وتترجمه عمليا على ارض فلسطين. ومع ذلك لا يزال هناك سيل لم ينقطع من التهم والشتائم، للكتاب والمقالة، تدور في مجملها حول «النيات المشبوهة» لتدمير «قيم الأمة ورموزها ودينها»! في العقل المهووس بالبحث عن «بطل» يتحول سلطان مستبد يختلط سجله بالنجاح والفشل إلى تجسيد كامل لـ «قيم الامة ودينها»، ويقترب من الصورة التي لا يجوز مسها او نقدها. لا يعكس ذلك سوى خليط مؤسف من أدلجة فكرية وغبش عقلي وفقدان ثقة بالنفس، إضافة إلى خلط ما هو تأريخي بما هو سياسي وأيديولوجي. كل الردود بلا استثناء امتشقت سيف الدفاع عن السلطان عبدالحميد من دون ان يقرأ كاتبوها الكتاب الجديد، لأن المقالة صدرت قبيل صدور الكتاب بأيام، ومع ذلك لم يرف جفن للكتاب الاشاوس وهم يفندون «تخاريف» البحث والمقالة. الغريب ان معظم الاسلاميين الذين تصدوا للرد، وفضلاً عن ان أياً منهم لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب، ركلوا جانباً اي اثر يحض على ان «الحق اولى ان يتبع»، وهو ما يعني الحقيقة الموضوعية والمثبتة في سياق هذا النقاش، وأن التخلي عن موقف او رأي ثبت خطله هو فضيلة كبيرة بحد ذاتها. (النقد الوحيد الصحيح كان بحق ما اوردته المقالة من ان نجيب عازوري اعدم بأوامر السلطان عبدالحميد، وهذا غير دقيق وأعتذر عنه هنا، لأن الصحيح هو ان أحكاماً بالإعدام صدرت بحقه وبحق ناشطين عرب آخرين لكنه هرب الى مصر ولم ينفذ به حكم الإعدام).

يحفز اكتشاف هذه البطولة المزيفة التي يتمتع بها السلطان عبدالحميد في عقلية ومخيلة كثيرين على مواصلة كشف الزيف عن تلك الهالة وتحديها، ليس فقط في سياق السياسات الحميدية إزاء فلسطين بل في سياقات اخرى اكثر اتساعاً وفّرتها حقبة حكمه الطويل، وبأمل ان ينتهي ذلك إلى كتاب كامل حول تلك السياقات. وفي هذا الجانب، على هؤلاء المبهورين بالسلطان المُستبد ان يتأملوا في سياساته الخارجية والتفريطية في ثلاث مناطق بالغة الحساسية الاستراتيجية في تلك الحقبة هي: بلغاريا ومقدونيا، وتونس وشمال افريقيا، ومصر. هنا، وفي بيئته المحلية التركية التي درسته جيداً يختفي «البطل» المتخيل، ويظهر لنا على حقيقته: حاكم نزق، مستبد الرأي، لا يقبل مشورة احد، يشكك في كل من حوله وعديم الثقة بأقرب المقربين اليه، ويظن ان الجميع يتآمرون ضد عرشه (بسبب تآمره هو نفسه على شقيقه مراد الخامس مع جماعة «العثمانيين الجدد» عام 1876). وبسبب خوفه الدائم من الكل، فقد جنّد جواسيس له في كل مكان هدفهم رصد النقد بشأنه وجلب النقاد وسجنهم. وهو نفسه الذي اوقف الاصلاحات البرلمانية وعطّل العمل بالدستور الذي اقترحه العثمانيون الجدد وكان يمثل الفرصة الاخيرة لإنقاذ العثمانية من الاستبداد الذي اودى بها. هذا الحاكم المُستبد والباطش داخلياً يُدهش خارجياً القوى الاوروبية في سياساته التساهلية والتفريطية بالسيادة العثمانية على اراض تابعة لها هنا وهناك.

تخاذل عبدالحميد عن الدفاع عن مصر التي كانت تحت إمرته وعرشه ولو اسمياً خلال عهود الخديوي اسماعيل ثم توفيق، وترك عرابي وثورته فريسة للإنكليز الذين داسوا على سيادته في مصر وهم يقتحمون السويس والاسماعلية بأساطيلهم ثم يحتلون القاهرة وهو يراقبهم من اسطنبول. والحقيقة ان التخلي المدهش عن مصر اذهل الاوروبيين انفسهم وبخاصة البريطانيين الذين كانوا على استعداد لترتيب اتفاقيات مع السلطان تحفظ له مقداراً من السيادة ولو الاسمية على مصر. والواقع ان سياسة السلطان عبدالحميد تجاه مصر خلال سنوات حكمه تحتاج كتاباً خاصاً بها، لأن تفريطه بها اخطر من سياسته التفريطية تجاه فلسطين، ولو تحلى السلطان بأي بعد نظر استراتيجي، او على الاقل لو استمع الى مستشاريه ووسع دائرة القرار لأدرك مبكراً أن سقوط مصر في ايدي الانكليز معناه سقوط فلسطين وسقوط كل المشرق. وهذا يدعونا مرة اخرى الى التساؤل عن «محرك» سياسته الخارجية ويدفعنا مرة اخرى الى القول إن الحفاظ على عرشه كان هو الدافع الاساس لكل سياساته الخارجية والداخلية وليس اي شيء آخر. ويتعجب كثير من المؤرخين لتاريخ الامبراطورية العثمانية مثل لورد كنروس في كتابه The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire (1977) عن الكيفية السريعة التي تخلى فيها السلطان عن بلغاريا ومصر، الاولى معبره الوحيد إلى الامارات العثمانية في البلقان، والثانية قلب المشرق الاسلامي والقلعة الاساسية التي إن سقطت سقط معها اي حكم عربي او اسلامي.

عن الحياة اللندنية