عويدي يشرح اسرار معاهدة اوسلو وفرسانه
تاريخ النشر : 2014-04-19 13:34

- وعندما تنفس صبح اليوم التالي في رام الله نظرت من شباك غرفتي بالفندق في الارجاء المحيطة حيث النسمات العليلة تداعب قطرات الندى مبتسمة او ضاحكة تنتظر اطلالة أشعة شمس الحرية التي بدات تشرق على هذه الديار بعد عصور من الظلم والظلام والاحتلال والاختلال من العربي والاجنبي , والادعاء ان منظمة التحرير لا تمثل هوية هذا الشعب وشرعيته وقضيته , ولكنها استطاعت بفضل الله سبحانه ثم بنضال الفلسطينيين ووطنية قيادتها وتضحياتهم ان تحقق المستحيل لهذا الشعب وان تنتزع الممكن من المستحيل , وان تحول القضية الفلسطينية من بيت للعنكبوت الى وجود وحدود واعتراف دولي وربما اقوى من أي نظام ( ولا اقول شعب ) في العالم العربي , وربما الاهم من هذا انتزاعها اعتراف العدو الإسرائيلي بها . واعتراف مؤتمر قادة الانظمة في العالم العربي عام 1974 (بما فيهم ذاك الذي ظل يدعي انه الممثل الشرعي البديل) اقول اعترفوا أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني مهما كان وحيثما كان، بغض النظر عن مواطنتهم وجنسياتهم ومكانهم وجيلهم، بما فيهم الموجودين بالأردن، وهذا ما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني كما ذكرنا سابقا. وفي هذه فهو كله يطابق فكر وعقيدة الحركة الوطنية الاردنية التي كنت واحدا من قياداتها وتم سحقها وفككتها، وعلىّ ان اعيد بناءها مرة اخرى وايقاظها من غفوتها وكبوتها، بعد تلاشي قياداتها السابقة.

ولان كنت في فلسطين فاني حملت الاردن في اعماقي، وان امن الاردن وهويته وشرعيته لا يمكن ان تكتمل بدون دعم صمود الأشقاء الفلسطينيين على ارضهم وعودتهم الى ديارهم وابراز شرعيتهم وهويتهم وليس تعويمها او اعطائهم الهوية والشرعية الاردنية. فهذا شعب شقيق عريق يستحق ان يتوج نضاله ليكون له وجوده بالطريقة التي يراها، ومن حقنا كأردنيين أن نكون كذلك في بلادنا. وعلينا ان نفهم كلانا ان هناك طرفان مستفيدان من أي تناحر وتنافر أردني فلسطيني الا وهما الصهاينة والمتصهينون (وما اكثرهم وما أخطرهم.)

وقد سمعت كثيرا من الاراء شرقي النهر , وبخاصة من قطعان الضلال والنميمة السياسية وعبدة الاصنام وسياط الطواغيت ومن يخاف ان يصيب المس او الهوس مصالحه في الاردن , اقول يرددون ان اتفاقية اوسلو هي الخيانة بعينها، وان القيادة الفلسطينية هي عبارة عن مخربين وعصابة خيانة مع أنها استطاعت ان تتفوق على العالم كله بما فيهم عدوهم الإسرائيلي والامريكان بالقدرة على المفاوضات والحجة , رغم ان من يدعي الطهر من هذه الانظمة والقطعان الضالة قبلوا لأنفسهم ان يكونوا عبيدا لإسرائيل وامريكا ومخربين لأوطانهم ومستعبدين لشعوبهم , واذا استطاعت القيادة الفلسطينية الضحك على امريكا واسرائيل فان ذلك شهادة تحسب لها لا عليها , وانها من الدهاء والذكاء والاخلاص لقضيتها انها ضحكت على الاعداء ولم تخدع شعبها , بعكس ما عليه كثير من الانظمة التي وصمت المنظمة بما هي صفة هذه الانظمة , وحينها ينطبق قول الشاعر ( واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني الكامل ) .

وهنا تساءلت في نفسي واستذكرت ان الانقلابات العربية الدموية منها وغير الدموية من منتصف القرن العشرين، وما بعدها، كانت تذكر في البلاغ رقم واحد ان الثورة قامت لتحرير فلسطين من الاحتلال، وهي في الحقيقة لم تحرر شبرا واحدا، بل ان هؤلاء الانقلابيين هم من قام بترحيل اليهود من بلدانهم الى فلسطين لتعزيز الوجود السكاني الاسرائيلي على حساب العربي في فلسطين. وحتى قرارات القمم العربية كانت تشبعنا مراجل وهمية لتحرير فلسطين ودعم صمود الفلسطينيين وهذه القيادات هي التي منعت بل حرمت على الفلسطينيين في فلسطين القديمة المسماة اسرائيل من الاتصال بالعرب ومن الاتصال بأقاربهم في اية رقعة عربية، لسلخهم عن عروبتهم. وهذه القيادات هي من كان الحارس الامين لحدود المواجهة والمجابهة مع فلسطين المحتلة (اسرائيل) مع بلدانهم، فكانت اقوالهم تقطر وطنية وافعالهم تقطر خيانة مشينة ومخزية.

وجالت بي جوالة التفكير وانا انظر الى معاناة الاخوة الفلسطينيين هنا في بيوتهم وحياتهم اليومية وهم ينتزعون الحياة من اعماق الموت، والعزة من روح الاحتلال، والكرامة في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني الإسرائيلي، بينما يتفسح من ينعم بخيرات العرب على حساب شقاء العرب.

وحركت راسي عجبا ان يقال ان قيادة المنظمة عميلة لإسرائيل ليكتشف العالم ان من يتهمهم او يصفهم بالعمالة كان يتصل بالإسرائيليين ويمرر إليهم كل صغيرة وكبيرة عن هذا الشعب المنكوب واسرار الامة برمتها. وبالتالي فان العمالة تليق بمن يبيع وطنه ويتامر على القضية الفلسطينية وليس على من يحرر ارضه من براثن المشروع الاستعماري الصهيوني الاسرائيلي.

لقد تم تشتيت الفلسطينيين بعد 1948 وتم اجبارهم بل الزامهم على تغيير الهوية الى اسرائيلية واردنية ومصرية واوروبية، ولكن هذه الانظمة اكتشفت بعد سنوات طوال ان الفلسطيني وان حصل على الجنسية الاردنية او الاسرائيلية او الاوروبية او غيرها فان هويته بقيت فلسطينية بغض النظر عن جنسيته وهذا يتفق مع فكر الحركة الوطنية الاردنية للتفريق بين الوطنية والمواطنة، والهوية والجنسية.

ثم شطحت بي الذكريات حول المؤامرات لضياع فلسطين لخدمة الصهيونية وتم تركيز المخطط المعادي لفلسطين على ثلاثة اشياء وهي الارض والانسان والتاريخ، واما الارض فصارت تابعة لإسرائيل في جزء منها واخرى تم الحاقها عنوة بالأردن وتم فك هذه العنوة عام 1988، واخرى تابعة لمصر (قطاع غزة).

واما الانسان الفلسطيني فقد اصابه الشتات بين ديار اغتراب متعددة وجنسيات متعددة ( ولا اقول هوية متعددة) واما التاريخ فقد تجرأ اصحاب الاقلام السلطانية والمتصهينة عند العرب ان ينكروا وجود تاريخ لفلسطين وشعبها , كما انكروا ذلك على الاردن , وادعى هؤلاء العبثيون ان الفلسطينيين مثل الاردنيين ليسوا شعبا وليس لهم هوية ولا شرعية ولا قضية وانما شتات تفرقوا ( الفلسطينيون ) او اشتاتا تجمعوا ( الاردنيون ) , وكل ذلك لتحقيق المخطط الصهيوني ان فلسطين ارض بلا شعب لتكون لشعب ( اليهود ) بلا ارض , وان الاردن ارض بلا شعب لتكون لشعب ( الفلسطينيين ) بلا ارض

وقامت الانظمة في العالم العربي على تبني هذا الفكر الصهيوني الذي يقول ان الفلسطيني بالأردن هو أردني ومن هو في فلسطين القديمة اسرائيلي، وعندما يرفض الفلسطيني هذه المقولة ويجاهر انه فلسطيني يحمل الجواز الاردني او الاسرائيلي او وثيقة السفر كانت تتم معاقبته وتخوينه وانه يتحدث عن شيء غير موجود اسمه فلسطين، فامتلأت بهم السجون والمعتقلات ومنهم رفيقي بالرحلة الاخ الكريم المناضل العربي الفلسطيني حمادة فراعنة ومثله عشرات الالاف. وبالمقابل صارت اية مجاهرة للأردني بأردنيته تتم معاقبة انه عدو لما يسمى الوحدة الوطنية التي لا يستطيع أحد تعريفها الى الان، وكنت أحد الضحايا ولا زلت سجنا وتعذيبا ومضايقة في كل شيء الى يومنا هذا، تنفيذا لهذه السياسة الصهيونية والمتصهينة، واختفى في المناهج المدرسية أي حديث يبين تاريخ الاردن، او قيام حكومة فلسطينية وطنية عام 1948، وما تعرضت له من خيانة من قبل بعض الانظمة في حينه خدمة للصهيونية.

وتذكرت مما قرات واستوعبت كيف انه وعلى إثر تقسيم فلسطين، أعلن المستر فولك برنادوت مبعوث الامم المتحدة الى فلسطين، في تقريره المؤرخ في 16 سبتمبر/ ايلول 1948 أن العرب لم يبدوا أية رغبة في تشكيل حكومة في القسم العربي من فلسطين، وانه سيتم ضمها إلى شرق الأردن. حينها أدركت القيادة الفلسطينية عندئذ، ممثلة بالهيئة العربية العليا لفلسطين بزعامة الحاج أمين الحسيني، أهمية اجهاض هذا المخطط الخطير، واستباقه بإقامة حكومة عربية فلسطينية ومركزها المؤقت في غزة، وتكريس هوية الشعب الفلسطيني وشرعيته ووجوده وحدوده وقضيته، وذلك لإيجاد إطار دستوري يملا الفراغ الذي سوف ينجم عن انتهاء الانتداب البريطاني، ولكن تم التأمر على تلك الحكومة والاطاحة بها.

وبذلك فان الزعامات في العالم العربي وعلى اختلاف الانظمة ورغم الصراعات بينها الا انها كانت ولا زالت متفقة على ثوابت فيما يخص القضية الفلسطينية وشعبها، وهي:

1- ألا تكون هناك شرعية فلسطينية وانما مقسمة بين شرعيات متعددة من اسرائيلية الى اردنية الى عربية الى اجنبية.

2- وألا تقوم دولة للشعب الفلسطيني، وانما دمجهم في سائر الدول وبخاصة مع الأردن ويتم الحديث عن توطينهم هنا تحت عناوين الوحدة الوطنية والمساواة بين الاطياف، والحالات الانسانية ودعم الابواق المتصهينة

3- وألا تكون هناك هوية فلسطينية مستقلة

4- وألا تكون القضية بأيدي اهلها وانما بأيدي الأنظمة للمتاجرة بها والبكاء على الاطلال كما ينعق البوم والغربان، مما افسح المجال لهذه الانظمة بخلق ادوار ووظائف لها (للأنظمة) بالتحالف مع الصهيونية، من اجل استمرارهم هم.

5- -استغلال الطاقات الفلسطينية لبناء دول وادارات في العالم العربي واشغالهم عن قضيتهم الاساس من خلال المال والاعمال والتسهيلات والتوطين والجنسيات

6- ملء المعتقلات من الفلسطينيين على انهم خطيرون على امن هذه الدولة او تلك، وان زميلي النائب حماده فراعنه ومثله الالاف قبعوا بالسجون في الاردن لسنوات طوال، كما ان السجون الاسرائيلية تعج على الدوام بألاف الفلسطينيين لحرمان فلسطين وشعبها من عقليات مبدعة في البناء والازدهار

7- ألا يتحدث الفلسطينيون باسم أنفسهم وانما يتسابق كل نظام لا شرعية له ويتحول الى ممثل شرعي وهمي للفلسطينيين، وانه العباءة والإطار لهذا الشعب والادعاء بحمايتهم.

8- تخويف الاردنيين من الفلسطينيين وتخويف الفلسطينيين من الاردنيين وخلق حالة من التنافر والتناحر لينشغلوا كلاهما بعضهما ببعض عن عدوهم الحقيقي وهم الصهاينة وقطعان المتصهينين، الذين أقاموا كيانهم ودولتهم الاحتلالية الاستعمارية التوسعية على حساب فلسطين وبمساعدة ودعم النظام العربي الحليف الرديف للاستعمار وللصهيونية.

وبناء عليه تم تفريغ القدس من اهلها بحجة الظروف الانسانية والجنسية الاردنية، ورفع المعاناة عنهم

 هذا ما كان يجول في مخيلتي وانا اجلس في غرفتي بالطابق الثاني في الفندق. وتذكرت في مطلع السبعينات عندما كنت منتسبا للدبلوم العالي ثم للماجستير بالقاهرة , وكنت ارى المصريين النازحين من سيناء ومدن السويس يعيشون في الشوارع كالأيتام , وكيف ان الانظمة التي اوتيت خزائن الارض كانت تفضل الانفاق على ملذاتها والسبايا والعرايا , وتترك هؤلاء الملايين بالمعاناة والذل والاستجداء والجوع والهوان والتكاثر على الارصفة وهذا ما رايته بنفسي, وكنت حينها اقول لو كنت حاكما لمصر لما قبلت هذا الاذلال لشعبي ولو كلفني ذلك التباحث المباشر مع العدو المحتل , مما ادى بالسادات ان يدير ظهره للامة العربية التي تخلت عنه وأدارت له ظهرها , ويوقع معاهدة كامب ديفيد

 ويبدو ان رجال منظمة التحرير الفلسطينية وقياداتها وفصائلها وقد عانوا مما ذكرنا وكيف تم انهاء الوجود الفلسطيني المنظم والمسلح من الاردن ولبنان ثم ترحيلهم من اليمن إلى تونس وما بينهما , وتفريقهم اشتاتا في الارض , قد خرجوا بالنتيجة التي خرجت ( شخصيا ) بها والتي خرج بها السادات من قبل , وهي ان الانظمة بالعالم العربي تتآمر عليهم وعلى قضيتهم وهويتهم مثلما هي قناعتي ايضا، وقناعتنا في فكر الحركة الوطنية الاردنية , ففقدوا الثقة بالزعامات والانظمة واصحاب المال وارباب السياسة في العالم العربي , وتوجهوا للتعامل والتباحث المباشر مع عدوهم المحتل .

من هنا خلصوا بنتيجة انه لا بد من سلوك أقصر الطرق وهي الاتفاقية بين الاطراف المتخاصمة، وقطع يد العبث من بعض الانظمة التي كانت تتحدث باسم الفلسطينيين وكأنها وزارة خارجية فلسطينية، وهي من باعهم وباع قضيتهم من قبل ومن بعد.

واخيرا كان الشر الذي لا بد منه وهو اتفاق اوسلو مثلما كانت اتفاقية كامب ديفيد، وانا هنا لا أدافع عن أي من المعاهدتين وانما ابين كمؤرخ ان الانظمة والزعامات في العالم العربي هم من اجبر الفلسطينيين على اتفاقية اوسلو مثلما اجبروا السادات على اتفاقية كامب ديفيد من قبل , وابين مدى خذلان الانظمة للمصريين من قبل ومن ثم خذلانهم للفلسطينيين من بعد , وترك بلادهم وقضيتهم تحت رحمة من لا يرحمهم وان تظاهر بكلامه المعسول انه يبكي عليهم كما التماسيح، ويبتسم لهم على انه رؤوف بهم وهو يلتهمهم فرائس بأنياب من حديد ونار، قبل كل ابتسامة وبعدها, ويملا المعتقلات منهم , ويكافئ كل من يخون بلده منهم او يتخلى عن هويته الفلسطينية .

اثناء ذلك قطع الزميل حمادة فراعنة عليّ حبل افكاري عندما طرق باب الغرفة لنتمشى في ارض شبه خلاء وقد حدثته فيما كان يدور في خلدي وهز راسه دون ان يعلق قائلا: انت تستطيع قولها اما انا فيكفيني عشر سنوات من الزنازين والقيود في السجون بالأردن، ونحن الان في فلسطين.

ولكنه راح يحدثني عن اسرار اتفاقية اوسلو , أي انه يتمم كلامي, وقلت للزميل حمادة لو كنت ( شخصيا ) فلسطينيا لما فعلت الا ما فعله الرئيس عرفات وزملاؤه في القيادة الفلسطينية , وان من يعتبرون السلطة الوطنية هنا حكم ذاتيا نسوا ان تلك الانظمة حولت بلدانها الى حكم ذاتي ومراتع ومطايا للصهاينة والامريكان , وبالتالي فان هذه الانظمة تعير( بضم التاء وتشديد الياء وكسرها / من العار ) القيادة الفلسطينية بما ارتكبته هذه الانظمة من عار , ولكن الفارق ان القيادة الفلسطينية تكرس الهوية والشرعية الفلسطينية نقيضاً للاحتلال ومشروعها الاستعماري على أرض فلسطين العربية, اما هذه الانظمة فان عمالتها وتبعيتها للصهيونية فإنما هي لتكريس وجودها واستمرارها في مواقعها غصبا عن ارادة الشعوب .

وهيمن الصمت على رفيقي في الرحلة وفي المعاناة الاخ حماده فراعنه، لكونه وطنياً فلسطينياً ولكوني وطنياً أردنياً، وهو يسمع مني مالم يسمعه من قبل، وقد رأيت ان كلامي بدا يمسح بقايا الصورة العبثية التي رسختها ضدي معاقل الظلم والظلام ودوائر الحكم والتحكم وقطعان التصهين

 ثم استأنفت بدون توقف قائلا له: ونحن في الحركة الوطنية الاردنية على استعداد للتباحث والحديث مع أي طرف قوي في الدنيا من اجل الاردن ولا يجوز ان احرمك (كفلسطيني) في التباحث من اجل فلسطين مع أي طرف تراه، بل نحن الوطنيين الاردنيين نريد الحديث والتباحث مع الوطنيين الفلسطينيين وعلينا الا نترك مصير شعبينا رهن الاعيب وعبث المقامرين وتجار الدولارات والمخدرات والعطاءات والعملاء والباحثين عن الثروات والوزارات والذين لا يتحدثون عن القضيتين الأردنية والفلسطينية الا من اجل مصالحهم الذاتية.

فقال: أوافقك الراي، وسوف تلتقي اليوم مع اثنين من مهندسي اتفاقية اوسلو فقلت: ارغب ذلك وبكل سرور. وعدنا لننطلق بسيارة الزميل الكريم الى د حسن عصفور وزير( مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني ) حيث وصلنا مبنى الوزارة مع وصوله واخذنا ( هو ) بالأحضان وكانه يعرفني منذ امد بعيد , ودخلنا مكتب ذلك الرجل الانيق المتواضع الذي يخفي خلف ابتسامته المستبشرة ستائر ومستودعات من الاسرار , الذي جعل من بساطته الظاهرة بحرا عميقا من المكتومة لا يستطيع الغوص فيها الا شخص ماهر في السباحة السياسية والامنية والفراسة البدوية ,ووجدتني ذلك الغواص , وراح يتحدث في موضوع لا علاقة له بالاتفاقية وانما عن مخططاته للمساهمة .في بناء الدولة الفلسطينية وعودة الفلسطينيين الى ديارهم هنا وانه وطنهم الذي لا يجوز نسيانه او خذلانه لان فلسطين كلها هي للفلسطينيين كلهم .

ثم تحركنا الى كبير المفاوضين، السيد احمد قريع ابو العلاء. رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني فدخلنا بدون موعد ولا مراسم ولا عقد (مفردها عقدة) مثلما كان امرنا مع الدكتور حسن عصفور. كان احمد ابو قريع رجلا في السبعينات وبدت على ملامح وجهه خارطة العمر والسنين، وبدت قسمات وجهه تخبئ من الاسرار ما عجزت عن اكتشافه اجهزة المخابرات الأمريكية والغربية والعربية بما فيها تلك التي شرقي النهر والتي كانت تدعي انها تعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور. وقام من خلف مكتبه وهو يرتدي بذلة داكنة تدل على عمق الاسرار وقميصا ابيض بدون ربطة تدل على شخص يعشق الحرية عملا لا قولا.

وهنا تذكرت ما قاله تشي غيفارا الثائر العالمي الذي ساهم في تحرير كوبا من الطاغية باتيستا ولقي حتفه بمؤامرة كونية غيلة في ادغال بوليفية . يقول غيفارا : (لابد أحيانا من لزوم الصمت ليسمعنا الآخرون، لان الصمت فن عظيم من فنون الكلام) وقوله ايضا (إن من يعتقد أن نجم الثورة قد أفل فإما أن يكون خائنا أو متساقطا أو جبانا, فالثورة قوية كالفولاذ, حمراء كالجمر, باقية كالسنديان ,عميقة كحبنا الوحشي للوطن ) وتذكرت قول نلسون مانديلا( بعد تسلق تل عظيمة، يكتشف المرء أن هناك الكثير من التلال ليتسلقها ), وقول مانديلا ايضا : (الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّاً). وقوله ايضا: (إذا تصالحت مع عدوك، فعليك أن تعمل معه. عندها يصبح صديقك، والعنصرية هي محنة الضمير البشرى)

كانت لغة الصمت والاسرار عند السيد احمد قريع تتحدث بلغة هؤلاء العمالقة، وتحدثنا قليلا وكان الرجل صندوقا مكتوما لا يتحدث عن انجازاته وانما يترك لي كمؤرخ وصحفي وسياسي وضابط امن عام سابق ان اغرف من بحره ما ارى، ولا يهمه ان اختلف معه، فالمهم عنده الا يختلف هو مع وطنه وهويته وقضيته ونفسه، وما عدا ذلك فهو امر عابر بالنسبة له، وربما بالنسبة لي ايضا.

لم يكن الرجل ليعرف انه امام رجل بدوي يفهم لغة الصمت كما فهمه لغة الكلام , ويفهم لغة الجسد كما يفهم لغة اللسان , فرب لحظ ابلغ من لفظ ورب اشارة ابلغ من عبارة ورب نظرة اعمق من جذور شجرة, وتحدثت مع السيد قريع واذا به رجل زاهد في المناصب ويتمنى ان يرتاح لولا احساسه بالواجب الوطني فقد حقق ومعه الوزير حسن عصفور وبإشراف السيد محمود عباس, وبتوجيه دقيق ومباشر من داهية العرب الحديث سيادة الرئيس ياسر عرفات , اقول حقق هؤلاء ما عجزت عنه جيوش الانظمة في العالم العربي وموازنات واعلام ومهارات وعنتريات وشعوب هذه الدول ومؤسسات المجتمع المدني فيها , التي اصبحت الان الدول الشقيقة .

كان رفع العلم الفلسطيني قبل الاتفاق يعني السجن المؤبد احيانا والسجن لسنوات طويلة شرقي النهر ومناطق اخرى احيانا اخرى ، وكنت ومثلي زملائي في العمل نتلقى التوجيه لنكره هؤلاء ونحقد عليهم قولا وعملا , على انهم عملاء للصهيونية وللأعداء وانهم مخربون ويبيعون الاوطان ويريدون تدمير الاردن، ولا شك ان زملاء العمل الامني والسياسي لو جاءوا ورأوا ما رأيت وأتيحت لهم اللقاءات التي اجريتها مع راس النبع لندموا على ما فعلوا , وصنفوا هذه الاوامر انها مؤامرات صهيونية متصهينة ليس على الفلسطينيين فحسب , بل مؤامرة علينا نحن الاردنيين اهل شرعية التراب وهوية التراب الاردني . لقد شعرت بالحزن والخجل من تنفيذ مثل هذه الأوامر التي كانت تمنع هؤلاء من الاعلان عن هويتهم وشرعيتهم وقضيتهم، منذ مطلع الخمسينات الى يومنا هذا، واشعر ان من يفعل ذلك يرتكب خطيئة تاريخية لا مثيل لها، اما انا فاعرف على من ستكون المسؤولية التاريخية بهذه السياسة الشيطانية.

وعندما اجروا المباحثات في اوسلو في النرويج تم ذلك تحت مكتوميه تاريخية تذكرت معها مكتوميه تنظيمنا في مطلع السبعينات المسمى: خلية السمن البلدي التي كنت عضوا فيها والتي استمرت أربع سنوات عصية على الاختراق والتفكيك. وكان هؤلاء الفرسان الفلسطينيين يتكتمون الامر (مثلما كنا نتكتم) حتى على زوجاتهم واولادهم والقيادات الفلسطينية الاخرى، وعند السفر الى اوسلو او المجيء منها كانوا يسلكون طرقا متعرجة فقد يذهبون لأداء العمرة ثم الى اليمن ثم الى المغرب ثم الى فرنسا ثم الى فرانكفورت ثم الى اوسلو.

لقد عملوا بإخلاص عظيم كانت محصلته اتفاق اوسلو والتوقيع عليه في حديقة الورود في ساحة البيت الأبيض تحت رعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون في 13/9/1993 وشاهدت ذلك بثا حيا ومباشرا في حينه، وكانت اوسلو التي ادت ببعض الزعامات في العالم العربي ان يصاب بخفقان القلب والتي ادت ايضا الى تغييرات في ادارات الاجهزة الامنية لأنها عجزت عن اكتشاف ما فعله الموصوفين بأنهم عصابة وجواسيس وعملاء ومخربون. واكتشف العملاء الحقيقيون انهم مجرد ادوات وان فرسان القيادة الفلسطينية في حينه هم فرسان حقيقيون ووطنيون حقيقيون وليسوا عملاء ولا جواسيس ولا مخربين، إذ فرضوا من خلال اتفاقية أوسلو الاعتراف الإسرائيلي الأميركي بالعناوين الثلاثة التالية:

1- بالشعب العربي الفلسطيني.

2- بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني.

3- بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني.

وعلى أساس هذا الاعتراف المزدوج الإسرائيلي الأميركي، بالعناوين الثلاثة بدأت سلسلة من الإجراءات العملية على الأرض داخل فلسطين ومنها:

1- الأنسحاب الإسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية بدءاً من غزة وأريحا أولاً.

2- عودة أكثر من 350 ألف فلسطيني مع الرئيس ياسر عرفات إلى فلسطين.

3- ولادة السلطة الوطنية الفلسطينية كمشروع ومقدمة لقيام الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية.

وعليه وبسببه، ولأنه اتفاق قوي التأثير، ويعيد حقائق الحياة كما هي وكما يجب أن تكون، وعودة القضية الفلسطينية إلى أرضها وشعبها، تم اغتيال إسحق رابين، لأنه في عرف المتطرفين الصهاينة خان إسرائيل وتخلى عن أرض إسرائيل للمخرب الإرهابي ياسر عرفات (باتفاق أوسلو) وأعاد فلسطينيين إلى أرض إسرائيل بعد أن طردوا منها، كما يرى قادة إسرائيل المتطرفين.

انتهت الحلقة 58

في الحلقة القادمة (59) ان شاء الله لقائي مع مدير المخابرات الفلسطينية اللواء توفيق الطيراوي