"إسرائيل" وسلة واشنطن
تاريخ النشر : 2018-01-27 13:52

أصيب العالم مؤخراً بذهول كبير بسبب جو الاحتقان الدولي الذي تصرّ واشنطن على إشاعته على مستوى العلاقات الدولية، والذي يعود في القسم الأكبر منه إلى العلاقة الشبقية وغير السوية التي تجمع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل»، إلى درجة أن الدول الغربية الكبرى نفسها، وفي طليعتها بريطانيا صاحبة وعد بلفور المشؤوم، لم تستطع استيعاب إقدام دولة عظمى بكل قضها وقضيضها على حماقة سياسية من العيار الثقيل، أجهزت من خلالها على ما تبقى من مصداقية للمشروعية الدولية وللأبجديات والمنطلقات الأساسية للممارسة السياسية في عواصم العالم، من خلال الرضوخ لضغوط اللوبي اليهودي الأمريكي والاعتراف بالقدس، عاصمة لـ«إسرائيل».

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية أرادت من خلال هذا السلوك الأرعن أن تحرق كل الأشرعة التي يمكن أن تقودها إلى مصالحة تاريخية مع الرأي العام العربي الإسلامي، حيث إنها لم تعد تتحدث، حتى على المستوى الإعلامي، عن وجود إرادة حقيقية لدى نخبتها السياسية الحالية من أجل إقناع الطرف «الإسرائيلي» بقبول حل سياسي، قائم على تسوية تأخذ في الحسبان حدود سنة 1967 التي تمثل أساس المرجعية الدولية، وقامت في مقابل ذلك باستبدال بلاغة إدارة باراك أوباما الفضفاضة، بعبارات دبلوماسية شديدة البرودة تعبّر من خلالها عن التزامها بالحفاظ على الوضع الراهن للأماكن المقدسة في القدس.

ويبدو أن إدارة الرئيس ترامب تعمل منذ وصولها إلى البيت الأبيض، على التخلي عن الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي لا تخدم مصالح اللوبي اليهودي وتقوم في السياق نفسه، بالتعامل بكثير من الاستعلاء والغطرسة مع كل الدلالات المرجعية الحضارية والدينية التي ترمز لها مدينة القدس في وعي ووجدان المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

ونستطيع القول بناءً على ما تقدم، إن هذه الإدارة الأمريكية ارتكبت خطأ جسيماً في حق نفسها وفي حق حليفتها «إسرائيل»، عندما أقدمت على اتخاذ قرارها المتعلق ب«صفعة العصر»، لأنه ليس من الحكمة السياسية أن تواجه دولة بمفردها كل القوانين والتشريعات الدولية التي أسهمت هي نفسها في بلورة بعض بنودها منذ نهاية الحرب الكونية الأولى. صحيح أن الولايات المتحدة ستظل على المدى القريب القوة العظمى الأبرز في العالم، لكنها تبدو الآن، عاجزة أكثر من أي وقت مضى، عن فرض إرادتها وتصوراتها على الآخرين وفي طليعتهم حلفاؤها الغربيون الذين استهجنوا سلوكها الأخير واعتبروه منافياً للأعراف الدولية ومقوِّضاً لأسس الأمن والاستقرار في العالم، ونصحوها بإعادة النظر فيه.

وتعكس - في اعتقادنا- العلاقة الأمريكية الراهنة بـ«تل أبيب»، جملة من المفارقات الفاضحة لعل من أبرزها، الانصياع المتواصل وغير المبرر في معظم الحالات، لدولة قارة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، بكل نخبها الاقتصادية والثقافية وقياداتها السياسية، لضغوط دويلة صغيرة مثل «إسرائيل»، إضافة إلى سكوتها المريب عن المساعي الهادفة إلى تحويلها إلى قطعة شطرنج بين أيدي تجار القمار ورجال المال المغامرين، الذين اعتادوا التعامل مع نزواتهم ورغباتهم بكثير من الاستسهال والعجرفة التي لا تعترف بالحدود والضوابط المتعارف عليها على مستوى تقاليد الممارسة السياسية الرصينة. كما يعكس مستوى الاختراق «الإسرائيلي» للمنظومات الأمنية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية، مدى هشاشة القواعد التي باتت تحكم الدولة الأمريكية منذ أن جرى إبرام عقد زواج «المسيار» بين واشنطن و«تل أبيب»،.

وقد أقدمت «إسرائيل» في مقابل هذا العشق الخرافي، إلى التضحية بالقسم الأعظم من تحالفاتها مع باقي الدول الغربية التي دعمتها منذ تأسيس دويلتها سنة 1948، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وبالتالي فإنه وفي اللحظة التي تطالب فيها السلطة الفلسطينية بضرورة إيجاد وسيط محايد لعملية السلام في الشرق الأوسط، فإن «تل أبيب» تصرّ على أن تضع كل بيضها الفاسد المصاب ببكتيريا السالمونيلا في «سلة» ترامب المتهالكة التي يحرص على رعايتها وترقيعها غلاة البيض من أنصار «اسرائيل»، خوفاً من أن يضيع منهم شبق ولذة اللحظة الترامبية.

بعد مرور أكثر من نصف قرن على وضع بيض «إسرائيل» في سلة واشنطن، بدأت تنبعث روائح كريهة تزكم الأنوف مصدرها هذا البيض الفاسد الذي انتهت مدة صلاحيته منذ زمن طويل؛ نتيجة لتجاهل كل التطورات والتحولات التي طرأت على المشهد الدولي، الذي تعددت أقطابه وتراجع مستوى الاستقرار فيه، وأصبحت فيه للقوى المحلية والإقليمية، كلمة مسموعة ذات نبرة واثقة، لا يمكن إغفالها. وليس هناك أدنى شك في أن وطء هذه «الرائحة الفواحة»، اشتد بشكل لافت للنظر مع مجيء إدارة ترامب، التي تريد أن تسيّر البيت الأبيض بالطريقة نفسها التي يتحكم بها رجل الأعمال الأمريكي شيلدون أديلسون بمواخيره وصالات قماره.

عن الخليج الاماراتية