لغز بوتين حير الرؤساء الأميركيين!
تاريخ النشر : 2014-04-03 11:40

«لا أستطيع أن أنبئكم بأفعال روسيا. إنها لغز مغلف بالسر داخل أحجية؛ لكن قد يكون هناك مفتاح. هذا المفتاح هو مصالح روسيا القومية». قال ذلك تشرشل عام 1939، ومفتاح «المصالح القومية» يفك ، ليس ألغاز روسيا فقط، بل بريطانيا أيضاً، وكل دولة تستحقُ اسم دولة. والاختلاف في مفاتيح الغرب أنها تغلق المصالح القومية للأمم الأخرى، وهذه مشكلة شعوب العالم مع زعماء الغرب. إنهم كالإقطاعيين الروس في القرن التاسع عشر «لا ينصتون لي، ولا يسمعوني، ولا يروني»، كما قال الأديب الروسي غوغول. وفيما يلي كيف ينصتُ قادة البيت الأبيض، ويسمعون، ويرون الرئيس الروسي بوتين.

كلنتون وجده بارداً ومزعجاً، لكن توقع أن يكون زعيماً صارماً وقديراً. وبوش أراد أن يجعله صديقاً وشريكاً في الحرب ضد الإرهاب، لكن خاب أمله فيه. وأوباما حاول إحاطته عن طريق دعم نفوذه داخل الكرملين، وعملت المقاربة فترة، لكنها تدهورت بسرعة إلى أسوأ نقطة منذ نهاية الحرب الباردة. ذكر ذلك تقرير في «نيويورك تايمز» عنوانه «ثلاثة رؤساء ولغز اسمه بوتين»، جاء فيه أن الرئيس الروسي «أغاظ خلال 15 عاماً الرؤساء الأميركيين فيما حاولوا التعرف عليه وأخطؤوا المرة تلو الأخرى. لقد تحدّى تقديراتهم وصدّ جهودهم الصداقية. جادلهم، وحاضر عليهم، وضلّلهم، واتهمهم، وتركهم ينتظرون ويخمنون، وخانهم، وشعر بأنهم خدعوه».

وصدمة بوش أشد من غيرها، فقد قال في تصريح مشهور بعد أول لقاء له ببوتين عام 2001: «تطلعتُ في عيني الرجل فوجدته شخصاً صريحاً ويستحق الثقة. وجرى بيننا حوار جيد جداً. وكنت قادراً على رؤية روحه». وبعد غزو العراق شكا بوش لبلير لقاءه ببوتين: «كالمساجلة بين طلاب مدرسة ثانوية. جلستُ ساعة و45 دقيقة أسمعه يتكلم دون توقف». وأضاف: «في لحظة معينة دفعني المترجم إلى حافة الجنون، وأوشكت أن أمد يدي عبر الطاولة وأصفعه. لهجته كانت ساخرة في توجيه الاتهامات لأميركا». وأعلن أنه فقد الأمل باستعادته: «أعتقد أن بوتين لم يعد ديمقراطياً، إنه قيصر، وقد فقدناه».

«هؤلاء يعرفون ماذا يفعلون، وغالباً ما يعرفون لماذا يفعلون ما يفعلون، لكن ما لا يعرفونه هو ما يفعله ما يفعلون»، قال ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه «الجنون والحضارة». وهل غير مجانين الحضارة لا يعرفون ما فعلته بالعرب والمسلمين أفعال واشنطن، التي يتصور زعماؤها بأن «بوتين يذهب إلى الفراش ليلاً وهو يفكر أنه بطرس العظيم، ويستيقظ وهو يفكر بأنه ستالين». قال ذلك رئيس لجنة الأمن في الكونغرس، وأضاف: «نحتاج إلى أن نفهم من هو وما الذي يريده. قد لا يكون ذلك مطابقاً لما نعتقد أنه القرن الحادي والعشرين». وعندما تَطّلَع نائب الرئيس تشيني في عيني بوتين وجد «كي جي بي»، وكرر العبارة ثلاث مرات، وهي اسم المخابرات السوفييتية التي عمل فيها بوتين، ويبدو أن وزير الدفاع السابق روبرت غيتس مارس هو أيضاً هواية التطلع في عيني بوتين: «وجدتُ ما توقعته؛ قاتلًا بارداً كالحجر».

حيرة واشنطن بلغز بوتين مصدرها الرثاثة الاقتصادية والسياسية والفكرية لبلد يُفترضُ أن يكون أغنى البلدان بجميع المعايير، والآن تداورُ حكومتُه موازنتها المفلسة من شهر لآخر. شحّةُ مواردها قلّصت عدد خبرائها بالشؤون الروسية، كشفت ذلك الأزمة الأوكرانية، وشكوى أكاديميين ودبلوماسيين أميركيين «من تأثير ندرة المواهب المختصة بروسيا على أداء البيت الأبيض»، وتحذيرهم من «صورة ساذجة وكاريكاتورية للقوة العظمى السابقة، يرفضون طرحها في مزبلة التاريخ». «ماكفول» سفير واشنطن في موسكو حتى فبراير الماضي، قال إن «نجوم الحكومة الأميركية لا يصنعون مهنهم في الميدان الروسي، كما كان الأمر قبل 30 عاماً. لقد قضت منطقة الشرق الأوسط وآسيا على بريق الميدان الروسي، واستأثرت بالموهوبين العاملين في الحكومة والمخابرات والأكاديميا». وإذا كان ما يقوله السفير دقيقاً، فالويل لواشنطن والويل منها، ليس لما فعله خبراؤها الموهوبون ببلدان الشرق الأوسط، بل لما فعلوه بأميركا. شاهدت ذلك في ثمانينيات القرن الماضي عندما كنتُ أدرس الدكتوراه في أكاديمية العلوم الروسية، وأراسل صحفاً عربية، بينها «السفير» اللبنانية، وفيها كتبتُ أسخر من تفاهات تقارير مراسلي الصحف الأميركية الكبرى، وذكرتُ؛ لو أنهم تجَّشموا عناء قراءة المجلة النظرية للحزب الشيوعي السوفييتي «كومونيست» لوجدوا فيها تقارير عن قضايا الفساد تصلح مادة «دسمة» للتشهير بموسكو.

واليوم تستحيل معرفة مجريات الأحداث الدولية ما لم نجرِ مع المجريات. والجري مع بوتين يقطع الأنفاس. حديثه السنوي لممثلي أجهزة الإعلام الروسية والدولية، استغرق في العام الماضي ثلاث ساعات، وفي هذه السنة أربع ساعات. وهو ليس الخطاب «الكاريزما» لسياسيين وزعماء دول، يضاهون مقدمي البرامج التلفزيونية في القراءة «الحية» للنص المعروض على الشاشة الخفية أمامهم. الأسئلة الموجهة لبوتين الخالي من أيّ «كاريزما» تبارى في طرحها مراسلون أجانب لأكبر أجهزة الإعلام الدولية، والمحلية من مختلف أرجاء روسيا، التي تحتل عالمياً المرتبة الأولى في المساحة، وتبلغ أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع، وتُشكل ثُمن مساحة الكرة الأرضية المأهولة، وتملك نصف الاحتياطيات العالمية للمياه العذبة، والتاسعة عالمياً بعدد السكان (146) مليون نسمة، وتمتد على تسع مناطق توقيت عالمية، والاقتصاد الروسي الثامن عالمياً في إجمالي المنتوج الوطني الاسمي، والسادس في القوة الشرائية، وتملك روسيا أكبر احتياطيات عالمية في المعادن وموارد الطاقة، وأكبر مستودع لأسلحة الدمار الشامل. والأسئلة والأجوبة تناولت أكثر من ذلك، وبأرقام ومعطيات يرددها بوتين من الذاكرة.

وحزنتُ أياماً لروسيا التي تصورتها تلد من جديد شخصية خارقة، تُعيد عبادة الفرد. وحرّرتني من هذا التصور الكئيب ندوات ونقاشات أفراد النخب الروسية المثقفة، يتدفقون في الفضائيات بالمعطيات والأرقام والأفكار. واليوم ينبغي معرفة الروسية أو الصينية إلى جانب الإنجليزية، لندرك حقيقة ما يجري في العالم. وعُدتُ إلى رواية «الحرب والسلام» التي استخدم مؤلفها تولستوي أحدث علوم الرياضيات المتوفرة في عصره لتفسير السلطة؛ «مجموع الإرادات منقولة إلى شخص واحد. ما شروط انتقال سلطة الجماهير إلى شخص واحد؟ الشرط هو أن يُعبِّر هذا الشخص عن إرادة جميع الناس. تلك هي السلطة ، وذلك معنى السلطة الذي لا نفهمه». وبوتين كنخب وجماهير روسيا التي أدركت قول تولستوي «لقد خسرنا لأننا قلنا لأنفسنا خسرنا». وإذا كان ما جرى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي هو الثورة المضادة، فالثورة التي صنعتها الثورة المضادة تضاهي ثورة أكتوبر عام 1917، وقد تكون هي ثورة «النيوديل» أو «النيب» بالروسية، التي طرح لينين مشروعها قبيل وفاته، أو البيرسترويكا التي أفلتت من يد غورباتشوف. وكما يحدث غالباً فشخصية زعيم الثورة تُفوِّت علينا رؤية الثورة.

عن الاتحاد الاماراتية