سيرة حياة سيرة وطن الحلقة التاسعة
تاريخ النشر : 2017-05-16 21:46

مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

(1)

أنهيت عملي في مركز الأبحاث الفلسطيني أواخر شهر نوفمبر عام 1978، بعد استقالة محمود درويش وتعيين صبري جريس، رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية مديرا عاما للمركز. وكنت قد بدأت جديا أفكر في الانتماء إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. الرفاق في الجبهة الديمقراطية، وكبادرة لتشجيعي في الانتماء إلى الجبهة، ضموني إلى وفد الجبهة المشارك ضمن الوفد الفلسطيني إلى مهرجان الشبيية والطلبة العالمي المنعقد في كوبا. وهو المهرجان الشبابي العالمي الذي ينعقد عادة مرة كل أربع سنوات في إحدى البلدان الاشتراكية، ويشارك فيه شبيبة من مختلف أنحاء العالم. سافرت إلى كوبا مع بقية أعضاء الوفد الفلسطيني، الذي كان يضم ما يزيد على ثلاثين عضوا من مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، برئاسة الأخ صخر حبش، القيادي في حركة فتح. بقيت في كوبا ثلاثة أسابيع، شعرت بالفرح لوجودي في كوبا، واطلاعي على الانجازات التي حققتها الثورة. كم هو عظيم الإنسان الكوبي، يعيش الفرح، ويعمل بفرح، ويناضل بفرح. الثورة صنعت من الكوبي إنساناً جديداً.

عندما عدت كانت الحرب في لبنان لا تزال على أشدها. قوات الردع العربية التي تشكلت بقرار عربي للحد من الحرب ودفع الأطراف اللبنانية للتوافق على حل ينهي الحرب، فشلت في مهمتها، وبقي السوري هو المسيطر والممسك بالوضع في لبنان. الزيارات المتكررة لعبد الحليم خدام، وزير الخارجية السوري والمكلف من القيادة السورية بالملف اللبناني إلى بيروت كانت بلا نتائج عملية. الساحة اللبنانية باتت مكشوفة لتدخلات عربية، من سورية وعراقية وليبية وسعودية، وتدخلات دولية من الولايات المتحدة الأميركية عبر مبعوثها إلى لبنان، دين براون، وبعض الدول الأوروبية، خصوصا فرنسا. إسرائيل هي الأخرى كثفت نشاطها العسكري ودخلت طرفا مباشرا في الحرب، إلى حد كبير، بالدعم العسكري واللوجستي التي كانت تقدمه لقوات الكتائب اللبنانية وغيرها من الأطراف المسيحية المارونية، ثم اجتياحها للجنوب اللبناني في شهر آذار عام 1978 وإقامة الحزام الأمني العازل حتى حدود نهر الليطاني.

الأنظمة العربية بأجندتها المختلفة كانت تتصارع ضد بعضها البعض على الساحة اللبنانية، عبر وكلائها من لبنانيين وفلسطينيين. النظام العراقي عِبر دعم فصائل وقوى الرفض الفلسطينية تحديدا، والنظام السعودي عبر صلاته القوية مع قوى وشخصيات سنية لبنانية ورعايته لها، والنظام الليبي كان يؤثر على الجميع بما يغدقه عليهم من منح ومساعدات مالية، والنظام السوري الذي أحكم سيطرته على لبنان بعد اجتياحه له في حزيران عام 1976، عمل على احتواء حركة "أمل" الشيعية وزعيمها نبيه بري، تحت نفوذه، وأخذ يسعى بوسائل عدة وبكل قوة، لفرض نفوذه على المقاومة الفلسطينية والتحكم بقرارها السياسي، مما خلق أجواء من عدم الثقة بين أركان النظام السوري والأخ ياسر عرفات وعدد من القيادات الفتحاوية. وما زاد الطين بلة، انفتاح الساحة اللبنانية لبداية تدخل إيراني في الأوضاع اللبنانية بعد قيام ثورة إيران الإسلامية بقيادة آية الله الخميني في شهر شباط 1979، عبر بدء الحرس الثوري الإيراني بإقامة تشكيلات تنظيمية عسكرية من شيعة لبنان، كان من أبرزها لاحقا، حزب الله اللبناني، وذلك بحجة دعم المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل.

في هذه الأجواء كانت القيادة الفلسطينية تقاتل على أكثر من جبهة وفي أكثر من اتجاه، للحفاظ على وجودها وحماية قرارها الوطني المستقل. الخلافات بين فصائل المقاومة الفلسطينية وداخلها حول الوجهة السياسية والبرنامج السياسي المرحلي كانت لا تزال قوية. جبهة الرفض الفلسطينية عززت مواقفها بدعم النظام العراقي لها، وكذلك النظام الليبي بقيادة العقيد معمر القذافي، الذي بات مبعوثه عبد السلام جلود، عضو مجلس قيادة الثورة الليبي، زائرا شبه دائم إلى سورية ولبنان واللقاء مع قيادات فصائل المقاومة على مختلف اتجاهاتها، والتي باتت هي الأخرى تكثر من زياراتها للعاصمة الليبية طرابلس. القائد الليبي، العقيد معمر القذافي، بأفكاره العجيبة الغريبة وسياساته التي تضرب في كل اتجاه، بات له نفوذ قوي ومؤثر في التأثير على فصائل المقاومة الفلسطينية وأطراف من الحركة الوطنية اللبنانية بحكم ما كان يغدقه عليها من منح ومساعدات مالية.

بعد عودتي من كوبا، تحدثت مع الرفيق ممدوح نوفل، عضو المكتب السياسي ومسؤول القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية، عن رغبتي في الانضمام إلى الجبهة الديمقراطية، حيث أنه صديق قديم منذ عملنا معا في حركة القوميين العرب قبل العام 1967، وكنت دائما على صلة معه أثناء عملي في مركز الأبحاث، وكان يحثني باستمرار على العودة إلى الجبهة الديمقراطية بعد أن انهيت علاقتي بالجبهة الثورية وتوجهت للعمل في مركز الابحاث الفلسطيني. كنت أقول له إن الوقت مبكر وفي ذهني بعض الأفكار عن مشروعات للكتابة، وأخشى أن يحد تفرغي للعمل السياسي في الجبهة الديمقراطية من إنجازها. ولذلك بعد أن تركت العمل في مركز الأبحاث وأنجزت العديد من المشروعات التي كنت أفكر بها، وجدت أنه حان الوقت لتفرغي للعمل السياسي، وأن مكاني الطبيعي أن أكون عضوا فاعلا في إحدى المنظمات الفلسطينية، التي أجد نفسي أقرب ما أكون إليها فكريا وسياسيا في تلك الفترة.

عندما فاتحت الرفيق ممدوح نوفل بذلك، رحب بشدة واقترح عليَّ أن أعمل معه مفوضا سياسيا للقوات المسلحة. رحبت بالفكرة مبدئيا، وبدأت فورا ممارسة مهامي الجديدة بزيارة بعض مواقع قوات الجبهة الديمقراطية في الجنوب اللبناني والالتقاء بالمقاتلين والتعرف على أوضاعهم، وبدأت بإعداد برنامج أولي للتثقيف السياسي للمقاتلين. ولكن لم تمض بضعة أشهر (حوالي ثلاثة أشهر على ما أذكر) حتى فوجئت بقرار من المكتب السياسي للجبهة بنقلي إلى العمل في لجنة الفروع الخارجية للجبهة. عندما عبرت للرفيق ممدوح عن انزعاجي من هذا القرار المفاجئ، شرح لي الحيثيات التي استدعت اتخاذ هذا القرار، وهو الحاجة لدعم الفروع الخارجية للجبهة بكوادر نشطة وبخاصة فروع الجاليات في البلدان العربية وغيرها.

وهكذا بدأت عملي في لجنة الفروع الخارجية مسؤولا عن منظمات الجبهة الديمقراطية في البلدان التي تعيش فيها جاليات فلسطينية، سواء كانت بلدانا أجنبية مثل الولايات الأميركية المتحدة وألمانيا، أو عربية، ماعدا سورية ولبنان والأردن والمناطق المحتلة، حيث كانت منظمة الجبهة في كل منها، منظمة بمستوى إقليم، يقود كل منها قيادة مستقلة، مرتبطة بأمانة سر اللجنة المركزية، وهي الهيئة القيادية الأولى المسؤولة عن كل منظمات الجبهة وفروعها في مختلف الأقاليم.

كانت لجنة الفروع الخارجية بمثابة هيئة قيادية إقليمية مسؤولة عن كل منظمات الجبهة في الخارج، عدا سورية ولبنان والأردن. فلسطين أو المناطق الفلسطينية المحتلة كان لها وضع تنظيمي خاص، تقودها لجنة قيادية في الخارج مركزها دمشق، تتبع لها قيادة فرعية مركزها عمان/ الأردن، تنظم الصلة والاتصال مع القيادة المركزية لتنظيم الجبهة الديمقراطية المدني في المناطق المحتلة. أما الخلايا المسلحة والتشكيلات العسكرية فلها تشكيلاتها المستقلة عن التنظيم المدني، تشرف عليها قيادة مستقلة مركزها دمشق.

لجنة الفروع الخارجية عندما انتميت إليها، كانت بمسؤولية الرفيق فهد سليمان، عضو أمانة سر اللجنة المركزية، وعضوية الرفيق محمد النايف مسؤولا عن الفروع الطلابية في البلدان الاشتراكية وبعض بلدان أوروبا الغربية، وأبو سليمان، رفيق سوري من أصل تركي، مسؤولا عن الشؤون الإدارية والمالية، وكنت العضو الثالث مسؤولا عن منظمات الجاليات، وكان يعاون كل رفيق هيئة قيادية من عدة رفاق.

لجنة الفروع الخارجية إضافة إلى مسؤولياتها التنظيمية كانت هي الهيئة المعنية بتنظيم واختيار الطلبة المرشحين من منظمات الجبهة الديمقراطية في الخارج ومن المناطق المحتلة للمنح الدراسية التي تقدمها للجبهة، البلدان الاشتراكية وبعض البلدان العربية مثل الجزائر وجمهورية جنوب اليمن الديمقراطية. كانت الجبهة تتلقى سنويا ما يزيد على خمسين منحة دراسية من الاتحاد السوفييتي وبضعة منح دراسية أخرى من كل بلد اشتراكي، إضافة إلى المنح الدراسية من بعض البلدان العربية. كان الرفيق محمد النايف بحكم مسؤوليته عن منظمات الفروع الطلابية، هو المعني مباشرة باستقبال طلبات الترشيح والتدقيق فيها وفرزها وتوزيعها على البلدان المعنية بعد التشاور والإقرار من قيادة لجنة الفروع، وتقوم قيادة منظمة كل فرع باستقبال الطلبة الجدد وتنظيم التحاقهم بالجامعات المفروزين لها.

بعد فترة قصيرة من استلامي مهام عملي في لجنة الفروع، جرى مقتل أحد الرفاق (أحمد السردي) في أبو ظبي بظروف غامضة. سافرت إلى أبو ظبي للتحقيق في ظروف الحادث واصطحاب الجثمان لدفنه في بيروت. أخذت معي حقيبة صغيرة وضعت فيها بعض مطبوعات الجبهة للرفاق في المنظمة. أمن المطار اكتشف المطبوعات لدى تفتيش الحقيبة. رفض السماح لي بالدخول وأصر على اعتقالي بحجة حملي مطبوعات ممنوعة. كان معي في الطائرة على نفس الرحلة، القائد العسكري الفتحاوي، سعد صايل "أبو الوليد"، تدخل هو والسفير الفلسطيني "ربحي عوض" الذي كان في استقباله، لمنعهم من اعتقالي، ورفض الأخ أبو الوليد المغادرة بدوني. وبعد أكثر من ساعة من الانتظار والأخ أبو الوليد يرفض المغادرة بدوني، حتى تمت الموافقة على مغادرتنا معا. شكرت الأخ أبو الوليد على موقفه هذا، وزاد احترامي وتقديري له.

أمن أبو ظبي الذي تراجع عن اعتقالي في حينه، قام باعتقالي بطريقة بهلوانية لدى مغادرتي، حيث سمح بتمرير الجثمان، وسمح لي بإتمام إجراءات السفر، لإشعار مندوب السفارة الفلسطينية الذي رافقنا أن الأمور على ما يرام. ثم بعد أن بت بعيدا عن الأنظار، قام عدة رجال أمن باعتراضي واعتقالي. أخذوني إلى إحدى البنايات خارج المطار، وأودعوني إحدى الغرف. بعد قليل من الوقت جاء إلى الغرفة أحد رجال الأمن وبيده عصا من خيزران. تبسمت ما أن شاهدته والعصا بيده يلوح بها. تقدم مني وهو يلوح بعصاته في وجهي. واصلت ابتسامي وقلت له بلهجة فلسطينية حازمة وقبل أن يبادرني بالكلام: سيبك من عصاتك، واسمع جيدا ما أقوله لك، إذا وصل الجثمان إلى بيروت بدوني ستثيرون ضدكم زوبعة كبيرة أنتم في غنى عنها. المطبوعات التي صادرتموها ليست أكثر من مطبوعات عادية حول القضية الفلسطينية ولا تمس أمن البلد بشيء، أنصحكم بالسماح لي باللحاق بالطائرة قبل أن تغادر بدوني. هدأ قليلا، ثم قال: شنو رتبتك أنت. فقلت له: لا علاقة لك برتبتي، دعني ألحق بالطائرة سريعا قبل أن تتفاقم الأمور. صمت قليلا وهو يتمعن في وجهي، ويقلب في فكره ما قلته له، على ما يبدو. ثم تركني وغادر الغرفة.

بعد حوالي ساعة جاء رجل أمن آخر، اعتذر عما جرى بطريقة لبقة وقال: للأسف الطائرة غادرت، حجزنا لك مقعدا على طائرة أخرى ستغادر غدا صباحا، وستكون ضيفنا هذه الليلة، حيث حجزنا لك غرفة في فندق... وهكذا انتهت هذه القضية، ورأيت من المناسب ذكرها تقديرا للأخ القائد، أبو الوليد، الذي اغتالته يد الغدر بعد عدة سنوات في البقاع اللبناني.

في ذكرى انطلاقة الجبهة الديمقراطية في الثاني والعشرين من شهر شباط، كانت منظمات الجبهة الديمقراطية في مختلف البلدان تحيي ذكرى الانطلاقة باحتفال عام يشارك فيه أحد الرفاق المركزيين. في الذكرى العاشرة لانطلاقة الجبهة الديمقراطية في شباط عام 1979، كلفني الرفيق نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية بالذهاب إلى بغداد للمشاركة في إحياء ذكرى انطلاقة الجبهة في العراق مندوبا عن المكتب السياسي للجبهة. لقد زرت بغداد قبل ذلك أكثر من مرة حيث كانت تتم دعوتي للمشاركة ببعض الفعاليات الثقافية أو غيرها التي كانت تقام في بغداد بالمناسبات المختلفة، وهذه هي المرة الأولى التي أزورها بصفتي التنظيمية كعضو في الجبهة الديمقراطية.

منظمة الجبهة الديمقراطية في العراق كانت منظمة صغيرة، إلى حد ما، تضم العشرات من أبناء الجالية الفلسطينية ومن الطلبة الدارسين في العراق. وكان للجبهة الديمقراطية تمثيل سياسي مستقل في العراق مثل العديد من منظمات المقاومة الفلسطينية، كما هي الحال في بلدان عربية أخرى، مثل الجزائر واليمن الديمقراطي وليبيا.

عندما زرت العراق هذه المرة كانت تموج بحوارات ونقاشات حول وجهة الثورة الإيرانية التي سيطرت على الوضع وأنهت حكم الشاه قبل أسابيع قليلة، وكان ثمة حذر من تأثيرها مستقبلا على العلاقة مع العراق، بحكم الدور البارز لرجال الدين من آيات الله فيها بزعامة آية الله روح الله الخميني، الذي غادر منفاه في باريس وعاد إلى العراق. المنظمات الفلسطينية، على مختلف اتجاهاتها، وبخاصة حركة فتح، استقبلت بأمل الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه، التي كانت تربطه علاقات قوية مع إسرائيل. النظام العراقي الذي كان قد أنهى خلافه مع شاه إيران حول اقتسام شط العرب، وعقد اتفاقا مع الشاه الإيراني عام 1975 بوساطة جزائرية، تعامل بحذر شديد وترقب مع الحكام الجدد في إيران، وأخذ يعيد النظر بحساباته في علاقته مع إيران الجديدة. ولم يكن مرتاحا إلى مظاهر التأييد للثورة الإيرانية، كما عبر عنها العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية، كما لمست ذلك من خلال لقائي مع بعض المسؤولين العراقيين. وبعد حوالي سنة ونصف تقريبا، اندلعت حرب عراقية-إيرانية مدمرة لكلا الطرفين في بداية شهر ايلول عام 1981، واستمرت حوالي ثماني سنوات. وبعد نشوب الحرب، أقدم النظام العراقي على إغلاق مكتب الجبهة الديمقراطية في العراق، والطلب من ممثل الجبهة مغادرة العراق. ومنذ ذلك الوقت لم تقم أي علاقة بين الجبهة الديمقراطية والعراق.

وفي أواسط العام 1979 كلفني المكتب السياسي للجبهة برئاسة وفد من الجبهة الديمقراطية يضم الرفيق سعيد عبد الهادي، عضو اللجنة المركزية وممثل الجبهة لدى جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية، ومسؤول منظمة الجبهة فيها، والرفيق صالح ناصر، ممثل الجبهة الديمقراطية لدى أثيوبيا، للمشاركة في الاحتفالات التي أقامتها الحكومة الثورية في إثيوبيا بذكرى الثورة والإطاحة بالإمبراطور الإثيوبي، هيلا سيلاسي عام 1974. الرفيق سعيد رفض أن يشارك بالوفد برئاستي وطالب أن يكون هو رئيس الوفد، لأنه عضو لجنة مركزية، وأنا لم أكن عضوا فيها بعد. عندما علمت بالخبر ضحكت، وقلت لا فارق عندي من يكون رئيس الوفد، فهذه مسألة شكلية، وإذا أراد الرفيق سعيد أن يكون هو رئيس الوفد، فليكن. لكن المكتب السياسي رفض ادعاءات الرفيق سعيد، وأعاد تشكيل الوفد برئاسة الرفيق صالح رأفت، عضو المكتب السياسي وعضويتي والرفيق ممثل الجبهة في أثيوبيا.

غادرت والرفيق صالح رأفت دمشق إلى عدن، ومنها غادرنا في اليوم التالي على طائرة يمنية من نوع اليوشن إلى أديس أبابا، عاصمة اثيوبيا.

اثيوبيا في ذلك الوقت كانت جوهرة الاتحاد السوفييتي في أفريقيا، أو "شعلة أفريقيا" كما سماها أليكسي كوسيجين، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، الذي التقيناه خلال زيارتنا هذه. الاتحاد السوفييتي دعم أثيوبيا بقوة، وبخاصة بعد سيطرة منغستو هيلا مريام على الحكم فيها في شهر شباط عام 1977، وأقام فيها حكما ماركسيا دمويا، تميز بتصفية وإعدام عدد كبير من المعارضين بحملة عُرفت بحملة "الرعب الأحمر"، وخاض حربين دمويتين ضد اريتريا وإقليم أوغادين الصومالي. وقد انتهى حكم منغستو عام 1991، بعد رفع مظلة الاتحاد السوفييتي عن حكمه بعد وصول ميخائيل غورباتشوف إلى رأس الهرم السياسي والحزبي في الاتحاد السوفييتي، وتبنى ما عُرف بسياسة "البريسترويكا والغلاسنوت"، والتي أدت في النهاية إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي وانهيار المعسكر الاشتراكي.

خلال وجودي في أديس أبابا، شاركت والرفيق صالح رأفت في جلسة لتعاطي القات مع الرفاق اليمنيين، حيث أن أثيوبيا تنتج أنواعا من القات جيدة ومرغوبة بكثرة لدى اليمنيين، الذين يستوردون منها كمايا كبيرة. وجلسات القات لدى اليمنيين تستمر لساعات طويلة، يجلسون أرضا، وأمام كل واحد منهم كومة من القات، ويبدأون بتناول وريقات من القات، يمضغونها ثم يقومون بتخزينها في طرف الفم مع شرب جرعات من الكولا بين حين وآخر، ومع إضافة المزيد من وريقات القات، ومع الوقت تكبر الكميات المخزنة من القات وينتفخ الفم كأن كرة صغيرة في طرف فم كل واحد. وخلال جلسات القات يتبادلون الأحاديث ويناقشون قضاياهم وأمورهم.

كانت هذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها في جلسة قات، وكان من الصعب عليَّ أن أُتقن عملية التخزين كما اليمنيين، على الرغم من إرشادات جاري اليمني المتكررة لكيفية المضغ والتخزين دون بلع ما أمضغه. استمرت جلستنا لأكثر من ساعتين، لم أواصل خلالها تعاطي القات إلا لفترة قصيرة، بعد أن فشلت محاولاتي المتكررة لتخزين ما أمضغه من القات.

عندما غادرنا أديس ابابا متوجهين إلى عدن بطائرة اليوشن يمنية، كان اليمنيون المغادرون معنا على الطائرة قد حملوا معهم كميات كبيرة من القات، إضافة إلى كراتين عديدة معبأة بخراف مذبوحة، بحكم أن اسعار الخراف رخيصة جدا في أثيوبيا، وبدت الطائرة من الداخل وكأنها سوق خضار.

ومن الأمور المؤلمة التي لا بد من ذكرها، أنه في أحد الأشهر الأولى من عام 1979، (لا أذكر متى بالضبط) كنت مع الرفيق نايف حواتمه، الأمين العام للجبهة الديمقراطية، في زيارة إلى ليبيا، بناء على دعوة من العقيد معمر القذافي شملت جميع قادة المقاومة من أمناء عامين وغيرهم، بمن فيهم الأخ ياسر عرفات. وكما جرت العادة، المدعوون يبقون عدة أيام، وربما أسابيع، مقيمين في فندق الشاطئ الكبير، والذي يظل دائما عاجا بالمدعوين إلى ليبيا من فلسطينيين وعرب وغيرهم، قبل أن يتاح لهم مقابلة القذافي أو النظر فيما جاءوا من أجله. والمُضيفون الليبيون، من مسؤولين أو عاملين في الفندق، كانوا يتعاملون مع المقيمين في الفندق، بجلافة شديدة.

وما آلمني في هذه الزيارة الطريقة الفوقية الاستعلائية والقريبة إلى الاستهزاء، التي تعامل بها العقيد معمر القذافي مع قيادات المقاومة الفلسطينية، على مختلف اتجاهاتهم، وهذا ما لاحظته عندما تمت دعوتهم بعد أيام قليلة من قدومهم إلى عشاء مع العقيد القذافي في قصر الشعب.

القاعة حيث جلس المدعوون كانت كبيرة وواسعة. العقيد القذافي لم يجلس على طاولة مع المدعوين، وإنما أُقيمت له طاولة طولية في مواجهة المدعوين مرتفعة بأكثر من نصف متر عن أرضية القاعة، وأخذ يخاطب الجميع من عليائه بطريقته الفوقية، ينادي على هذا وذاك، أحيانا بمسميات غير أسمائهم المعروفين بها. البعض يكتم غيظه، والبعض يضحك ويمالئ. كل هذا الهوان من أجل ماذا؟ هل من أجل بضعة ملايين من الدولارات يجود بها القذافي، أم لأن البعض، وهم قلة، لا يكتمون إعجابهم بالقذافي وبكل بهلوانياته ومشاريعه العجيبة الغريبة التي لا تنتهي، من كتاب أخضر صرف عليه المليارات من الدولارات، إلى مشاريعه الوحدوية العربية والإفريقية الوهمية وغيرها. وما يُحزن ويبعث على الكثير من الأسى أن تـُرسل فصائل مقاومة فلسطينية في وقت لاحق، قوات للمشاركة في الحروب المجنونة التي كان يفتعلها القذافي، مثل حربه مع تشاد.

في هذا الجو النشط نسبيا، وغير المشجع أحيانا، مارست مهامي في لجنة الفروع الخارجية. بدأت بالاطلاع على تقارير المنظمات السابقة واستقبال البريد الوارد منها وإعداد الردود عليه، والعمل على تزويدها، حيث أمكن، بكل ما يصدر عن الجبهة من قرارات وتقارير وتعليمات وتحليلات سياسية، وتأمين إرسال مجلة "الحرية" المجلة المركزية للجبهة الديمقراطية، ووضعت جدولا زمنيا لزيارة بعض هذه المنظمات حيث أمكن.

منظمات الجبهة في البلدان العربية تقتصر على عدد من الدول العربية، هي الكويت التي تعيش فيها جالية فلسطينية كبيرة ومنظمة الجبهة الديمقراطية فيها كبيرة ونشطة، والإمارات العربية المتحدة، والعراق وليبيا والجزائر وجنوب اليمن الديمقراطي، وكان للجبهة الديمقراطية في هذه الدول الأربع تمثيل سياسي مستقل. وقد قمت خلال فترة عملي في لجنة الفروع التي استمرت حوالي سنتين بزيارة هذه المنظمات. أحيانا للأشراف على مؤتمراتها السنوية، وأحيانا لمتابعة عادية لنشاطاتها. كما زرت منظمتنا في ألمانيا الغربية، أما منظمتنا في الولايات الأميركية المتحدة، فلم يكن متاحا زيارتها، وكنت أتابع وضع المنظمة من خلال ما يرد منها من تقارير، أو من خلال بعض الرفاق الذين يأتون أحيانا إلى لبنان.

كان لمنظمة التحرير الفلسطينية "قبل إعلان الدولة في العام 1988" تمثيل سياسي دبلوماسي في معظم الدول العربية بمستوى سفارة تقريبا، وكان لبعض فصائل المقاومة مثل الجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تمثيل سياسي بمستوى أدنى بما لا يتعارض مع وحدانية التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية في بعض البلدان العربية. أما في البلدان الاشتراكية فكان التمثيل السياسي حصرا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبعض فصائل المقاومة الأخرى كان لها علاقات مع هذه البلدان عبر لجنة التضامن الأفرو-آسوية في كل بلد، باعتبار أن لجان التضامن في البلدان الاشتراكية هي المعنية بالعلاقة مع حركات التحرر الوطني في العالم. وخلال زياراتي التنظيمية لمنظماتنا في البلدان العربية كان أحد الرفاق يستضيفني في منزله. وفي البلدان الاشتراكية كنت أقيم في فندق بضيافة لجنة التضامن في الغالب.

أنشأت منظمات الجبهة الديمقراطية في البلدان التي تضم جاليات فلسطينية كبيرة، منظمات للشبيبة الديمقراطية كإطارات جماهيرية واسعة تضم شبيبة نشطة من أنصار ومؤيدي الجبهة. وكانت منظمات الشبيبة تقوم بأنشطة وفعاليات جماهيرية عدة. منظمة الكويت أقامت "فرقة ترشيحا للمسرح والغناء الشعبي" ضمت ملحنين وشعراء ومغنيين من أبرزهم المغني الشعبي أبو نسرين، مبدع أغنية "اليويا" الشعبية. كانت منظمات الفروع تجبي اشتراكات شهرية من الأعضاء، بالإضافة إلى بعض التبرعات، حيث أمكن، كما كانت تجبي أثمان مجلة "الحرية". وكانت تغطي مما تجمعه مصاريفها، وتورد الباقي إلى المالية المركزية للجبهة.

العمل التنظيمي في لجنة الفروع استحوذ على الكثير من وقتي، وكان على حساب نشاطاتي الفكرية والكتابية، التي تراجعت، باستثناء الكتابة بين حين وآخر في مجلة "الحرية." المجلة الرسمية للجبهة الديمقراطية. وخلال هذه الفترة توثقت علاقتي مع الرفيق ممدوح نوفل، عضو المكتب السياسي والمسؤول عن القوات المسلحة للجبهة. كان الرفيق ممدوح يهوى لعبة الشطرنج، وكنت أشاركه في بعض الأمسيات هذه اللعبة، مع رفاق آخرين مثل نبيل حمادة "أبو أدهم" مسؤول الأمن في الجبهة. كان الرفيق ممدوح هو الأبرع بيننا، وغالبا يكون هو الفائز.

من محاسن الصدف خلال عملي في لجنة الفروع، أني التقيت خلال زياراتي للكويت، برفيقة عمري زوجتي نوال الحاج، والتي كانت تعمل مدرسة لغة إنجليزية في الكويت، وعضو نشيط في منظمة الجبهة الديمقراطية، وهي من أسرة فلسطينية تقيم في مدينة صور جنوب لبنان. لقد تعارفنا على بعضنا خلال إحدى الزيارات، ونما حب جنيني بيننا، تعمق خلال لقاءاتنا المتكررة عندما كانت تأتي إلى لبنان خلال العطل المدرسية.

زرت أسرتها في صور وتعرفت على أهلها. والدها رجل فاضل من سكان بلدة البصة في فلسطين. ووالدتها لبنانية من آل يزبك من بلدة الناقورة الواقعة على الحدود اللبنانية-لفلسطينية. خطبتها من أهلها، واتفقنا على الزواج بعد أن استقالت نوال من عملها في الكويت وعادت إلى لبنان. عقدنا قراننا في صور في يوم 11/7/1980، بحضور بعض الأصدقاء وفي وقت كانت القذائف الإسرائيلية تتساقط على صور وما حولها. وعدنا معا إلى شقتي الصغيرة في بيروت. لم نُقم حفلة زواج كما هي العادة. عدد من الأصدقاء، أذكر منهم الأصدقاء جابر سليمان، الفنان عدنان الشريف وقاسم عينا، أقاموا لنا حفلة صغيرة احتفاء بزواجنا. وبدأنا مسيرة حياة مشتركة مكللة بالحب والتفاهم. نوال وجدت عملا كمترجمة في نشرة "وفا" باللغة الانجليزية، التي كان يشرف عليها الصديق الدكتور رشيد الخالدي. حصلتُ على مساعدة زواج من الجبهة بحدود ألف ليرة لبنانية، وكنت أتقاضى 700 ليرة لبنانية راتبا شهريا كمتفرغ، أي ما يعادل ثلث الراتب الذي كنت أتقاضاه من عملي في مركز الأبحاث. نوال كان لديها بعض المدخرات من عملها في الكويت، وضعته في حساب لها في بنك لبناني. وبدأنا نفكر كيف نرتب حياتنا المشتركة في شقتي الصغيرة.

(2)

الانتقال إلى دمشق والعمل في لجنة المناطق المحتلة

بعد ثلاثة أيام على زواجنا فاجأني المكتب السياسي للجبهة بقرار نقلي الفوري للعمل في لجنة المناطق المحتلة، والتي مقرها دمشق. وهكذا تركت نوال وحيدة في شقتي الصغيرة، وغادرت إلى دمشق للتعرف على مسؤولياتي الجديدة. كنت آتي لزيارتها بين فترة وأخرى، حتى قررنا الانتقال للعيش في دمشق، بعد حوالي أربعة أشهر من زواجنا، حملت خلالها نوال بطفلنا الأول، ولكن لم يكن له حظ من الحياة، حيث لسبب ما طرحته قبل أن يأخذ ملامحه الأولى. شعرت وإياها بألم وحزن كبيرين على فقدان أول جنين لنا، وجيد أنني كنت معها عندما تعرضت لهذا الحادث الأليم.

كنا ليلة الحادث معا، ذهبنا إلى السينما وعدنا متأخرين إلى الشقة. نوال كانت فرحة بالحمل بطفلنا الأول، الذي مضى عليه حوالي شهرين. كانت نوال تتساءل باستمرار كيف سنرتب أمورنا في هذه الشقة الصغيرة مع مجيء طفلنا، أين سنضع سرير الطفل. وكنت أُطمئنها بأني لن أتركها لوحدها، وإننا قد ننتقل كلانا للإقامة في دمشق، ونستأجر شقة أوسع، تتسع لنا والطفل. كانت نوال مترددة في الانتقال إلى دمشق، ولا تحبذ أن تكون بعيدة عن أهلها في صور. بالنسبة لها بيروت هي المدينة التي عاشت فيها سنواتها الدراسية في الجامعة اللبنانية، ولها ذكريات فيها، إضافة إلى أن بيروت قريبة من صور حيث تقيم أسرتها، في حين أن التنقل بين دمشق وبيروت صعب بالنسبة لفلسطيني يحمل وثيقة سفر لبنانية. ولكن ما جرى في الصباح أقنعها بالانتقال إلى دمشق.

نمنا ليلتها دون أن يعكر مزاجنا شيء. نوال لم تكن تشعر بأي شيء غير عادي، نامت مطمئنة على طفلها، ونمت أحلم بالطفل الذي بدأ يعيش معنا ويحتل حيزا من تفكيرنا. في الصباح عندما استيقظنا لاحظت نوال بقعة دم كبيرة على ثوبها وعلى ملاءة السرير. ارتعبت، خشيت أن يكون أصابها نزيف، تحسست بطنها لتطمئن على طفلها، هدأت من روعها وهرعت إلى جارتنا اللبنانية أم شكري للقدوم وقلت لها: رجاء جارتنا أن تأتي لأن نوال على ما يبدو تعاني من نزيف. أسرعت بالمجيء ولما شاهدت الوضع: قالت لا تخافوا، مجرد إجهاض بسيط، وأشارت إلى كتلة صغيرة من اللحم صغيرة ميزتها وسط بقعة الدم. نوال ارتعبت، أجهشت بالبكاء تبكي طفلها الأول. أم شكري لاطفتها وهي تقول لها: لا تخافي، هذا الأمر يحدث في الكثير من الأحيان مع أول طفل. وتوجهت إليَّ قائلة: من المفيد نقلها إلى المستشفى حالا خوفا من أي مضاعفات. وفعلا انتقلت وإياها بسيارتي إلى مستشفى البربير القريب منا. تم إدخالها فورا إلى غرفة العمليات بعد أن عاينها الطبيب، وأجرى لها عملية تنظيف للرحم من أي بقايا لا تزال عالقة في الرحم. بقيت يومين في المستشفى، وغادرت وهي تبكي طفلها. بعد عدة أسابيع انتقلنا إلى دمشق. كنت خلال هذه الفترة أبحث عن شقة مناسبة لإقامتنا الجديدة.

العثور على شقة في دمشق وفي منطقة المزة حيث مكاتب الجبهة حينها لم يكن سهلا. عثرت على شقة بأجرة مناسبة تتفق والمعايير التي تحددها الجبهة كسقف للأجرة، في الطابق الثاني عشر في إحدى البنايات العسكرية في المزة. الشقة كبيرة وغير ملائمة لنا، ولكني استأجرتها على أمل أن أجد شقة غيرها وعلى مهل. صاحب الشقة ضابط كبير في الجيش السوري، أصر أن يذكر في عقد الإيجار أنها مفروشة، مع أنها غير ذلك، حتى يتمكن وفق القانون السوري، إخراجنا منها أو يزيد أجرتها في أي وقت يشاء. وأخذت بفرش الشقة بما تيسر من أثاث ممكن، من بدل قيمة أثاث شقتنا في بيروت الذي دفعته الجبهة، حيث أسكنت أحد الرفاق فيها.

كان نقل كتبي والتي كانت بالمئات، من الشقة إلى سكني الجديد في دمشق، من أبرز المشاكل التي واجهتني. عبأتها في كراتين ونقلتها على دفعات. وفي دمشق عندما أوصيت أحد النجارين على صنع مكتبة للكتب، أنجز، بعكس ما طلبته، مكتبة كبيرة من قطعة واحدة، وجدنا صعوبة كبيرة في نقلها وإدخالها الشقة. وكانت تلك المكتبة بما تحويه من كتب أحد أبرز المشكلات التي كانت تواجهني لدى تغيير إقامتنا من شقة إلى أخرى.

البنايات العسكرية عبارة عن خمس بنايات كبيرة متقاربة ومقامة حديثا، على أرض منبسطة كانت مزروعة بالصُبار، تم البناء على قطعة صغيرة من الأرض، والقسم الأكبر بقي على حاله مزروعا بالصبار، بعد إحاطة البنايات بسور من جميع الجهات مع الإبقاء على مدخل يفتح على الشارع الرئيسي. كل بناية كانت تتألف من 12 طابقنا، وكل طابق من شقتين كبيرتين. بَنَت المؤسسة العسكرية السورية هذه البنايات لإسكان كبار ضباط الجيش السوري. لكل بناية مصعدان، أحدهما واسع لنقل الأثاث، والآخر عادي المصعدان في غالب الأحيان معطلان، ذلك أن البنايات جديدة، وعمليات التشطيب الداخلية في بعضها كان جاريا استكمالها.

كنا نواجه مشكلة في الصعود إلى الشقة عندما يكون كلا المصعدين معطلين. وباتت المشكلة أصعب عندما حملت نوال من جديد، حيث كان غير مسموح لها صعود هذا الدرج الطويل بناء على تعليمات الطبيب، وكنا ننتظر أحيانا ساعات حتى يتم إصلاح أحد المصعدين. لكن ما عوضنا عن كل هذه الإزعاجات أننا وُفقنا بجار جيد في الشقة المقابلة. كان جارنا ضابط سوري علوي برتبة مقدم في الجيش السوري، كان هو وزوجته من ألطف الناس. توثقت علافتنا بهذه الأسرة اللطيفة، سواء الزوجة التي وثقت علاقتها مع زوجتي، أو الزوج الذي كان يدعوني دائما للمشاركة في حفلات العشاء التي كان يقيمها في بيته ويدعو إليها كبار الضباط في الجيش السوري، حيث تعرفت على عدد منهم، وكان الأمر لا يخلو من بعض النقاشات الحامية، نسبيا، مع بعضهم حول بعض الأمور السياسية.

بعد أن استقر وضعنا في مقامنا الجديد، بحثنا عن طبيب نسائي للإشراف على وضع نوال الصحي بناء على نصيحة الطبيب الذي عالجها في بيروت. دلنا أحد الرفاق على طبيب نسائي معروف ويعمل في مستشفى السادات في المزة. عندما زرناه وشرحنا له الوضع نصحنا أن نؤجل أي حمل جديد بضعة أشهر، ووصف لنوال بعض الأدوية. لكن بالرغم من تحذير الطبيب، تفاجأت نوال بعد بضعة أسابيع قليلة أنها حامل، فاضطر الطبيب أن يصف لها بعض الأدوية المثبتة للحمل حتى لا تجهض من جديد. ومرت الأشهر والجنين ينمو ويكبر ويتشبث برحم أمه ونوال تداري حملها وتتعهده بالعناية والحب. كانت تلك الأيام من أيام حياتنا الجميلة

في أحد الأيام، يوم 16/6/1986 ونوال حامل في شهرها السابع، وبينما كنت ونوال في سيارتي، (رينو 5 التي اشتريتها قبل قدومي إلى دمشق بدل سيارة الفولكس فاجن) على طريق دمشق-القدم في طريقنا إلى مسبح النخيل في يوم صيفي شديد الحرارة، صدمتنا شاحنة مسرعة، حطمت سيارتنا الصغيرة وقذفت بها بعيدا. كانت الصدمة قوية، لم أَعِ على حالي إلا وأنا مقذوف خارج السيارة ممدا على الأرض، نوال أطبقت عليها السيارة. صرخت أناديها، تجمهر كثيرون، وتم نقلي ونوال، بعد أن أخرجوها من السيارة، إلى مستشفى السادات في المزة والقريب من مكتب الجبهة، بناء على طلبي. كان كلانا بكامل وعيه، على الرغم من شدة الصدمة. أنا أُصبت بكسر في رجلي اليسرى وبعض الجروح، ونوال أصابها كسور في بعض أضلاعها. كانت لدينا خشية أن يكون طفلنا أصابه مكروه، وعندما وصلنا المستشفى كان همنا الأساسي قبل كل شيء أن نطمئن على سلامة طفلنا، وارتاح كلانا عندما أعلمنا الطبيب، بعد أن أجرى الفحوصات اللازمة، أن طفلنا بخير ولم يصبه أي مكروه يؤثر على سلامته. حضر عدد من الرفاق إلى المستشفى للاطمئنان علينا.

مكثنا في المستشفى عدة أيام. عدنا إلى البيت، أنا بعكازتين أجرجر رجلي المكسورة، ونوال تعاني من بقايا أوجاع في أضلعها، وكلانا قلق على صحة وسلامة طفلنا. كنت ونوال قد خمنا "هكذا" قبل الحادث أن المولود سيكون ولدا، وسميناه حتى قبل ولادته يزن. عشنا شهرين تقريبا ونحن قلقون على سلامته. بطن نوال تكبر والأمل يكبر، كل ساعة نصغي إلى نبضات قلبه ونتحسس حركته في بطن أمه. وعندما قرب موعد ولادته، كنا قلقين كيف سنتدبر أمرنا إذا ما فاجأ المخاض نوال ليلا ونحن في هذه الشقة العالية، وفي وقت قد يكون المصعد معطلا وليس لدينا هاتف لاستدعاء سيارة أو الاتصال بأحد الرفاق. ولكن الأمور تمت بسلام، اشتد المخاض على نوال عصر يوم 31/8، كان المصعد يعمل وجاء أحد الرفاق بسيارته وتم نقلها إلى المستشفى، لتلد طفلها بعد عدة ساعات في الساعة الثانية والعشرين إلا عشرين دقيقة مساء. سمعت صرخته الأولى وهو يغادر رحم أمه، وأنا أنتظره بعكاكيزي على باب غرفة الولادة، فقلت في نفسي جاء يزن. وعندما خرجت الممرضة لتزف لي البشرى وتبارك لي بالمولود الجديد وأنه ولد، دمعت عيناي وشكرت ربي.

لم تطل إقامتنا في هذه الشقة العالية، فبعد أشهر قليلة من ولادة يزن، وبعد حوالي سنة وبضعة أشهر تقريبا من إقامتنا في هذه الشقة، قررت قيادة الجبهة نقل مقراتها من المزة إلى مخيم اليرموك، وانتقال سكن جميع الرفاق القاطنين فيها وعائلاتهم إلى مخيم اليرموك أيضا. تم استئجار مقر للجنة المناطق المحتلة في حي التضامن القريب من المخيم ويكاد يكون جزءا منه، واشترت الجبهة عددا من الشقق الصغيرة في مخيم اليرموك، مساحة الواحدة منها لا تزيد عن 70 إلى 80 مترا مربعا لسكن الرفاق. انتقلنا إلى إحدى هذه الشقق. كانت في بناية صغيرة من الطوب غير مكتملة البناء، فيها طابق تحت أرضي غير مكتمل وطابق ثاني فيه شقتين، أقمنا في واحدة، والأخرى لم تكن مسكونة. وفي هذه الشقة المرعبة نوعا ما، والتي كانت تعج بالجرادين والأوساخ، شهدنا الخطوات الأولى ليزن وهو يخطو خطواته الأولى واقفا. كان ذلك يوم عيد ميلاده الأول. وتلك اللحظة كانت من أجمل لحظات حياتنا.

بعد حوالي شهرين، غادرنا هذه الشقة المرعبة، واستأجرنا شقة على مقربة منها، واسعة نسبيا، أنظف وأقل رعبا، كانت لصديق أعرفه سابقا. قضينا فيها عدة سنوات من حياتنا في دمشق.

بعد حوالي ثلاثة أشهر من ولادة يزن، تم تأمين عمل لنوال كمترجمة في قسم الإحصاء الفلسطيني في الدائرة الاقتصادية في منظمة التحرير الفلسطينية بواسطة الصديق الدكتور وليد القمحاوي، رئيس الصندوق القومي الفلسطيني. وللعناية بالطفل يزن أثناء مغادرة نوال للعمل، دلنا أحد الأصدقاء على امرأة فلسطينية "أم ناصر" من مخيم اليرموك لرعايته أثناء غيابنا. كانت المرأة تحضر يوميا وندفع لها شهريا مبلغا يعادل تقريبا معظم ما كانت تتقاضاه نوال من عملها. وللعناية بيزن طبيا، دلني الرفاق على طبيب الأطفال ألبرت نخمان، وهو طبيب يهودي سوري، كان يشرف على العناية بأطفال بعض الرفاق.

أضفى وجود يزن جوا جديدا من الأمل والفرحة والربكة على حياتنا، كانت فرحتنا بوجوده معنا كبيرة وعالية. كان شغلنا الشاغل ليلا ونهارا. ودائما الطفل الأول يحظى بعناية واهتمام كبيرين من أبويه، وحتى من أفراد الأسرة الآخرين. مارست هوايتي بالتصوير بالتقاط الكثير من الصور ليزن ولأخته نورا التي أهلت علينا وأنارت حياتنا بعد حوالي سنة ونصف تقريبا من ولادة يزن. حيث تمت ولادتها في مستشفى التوفيق بدمشق مساء يوم 29/3/1983، في الساعة الثانية وعشرين إلا عشرين دقيقة، أي بالدقيقة والساعة نفسها لولادة يزن.

كانت رغبتنا أنا ونوال بعد ولادة يزن، أن يكون طفلنا الثاني بنتا، لأنه قررنا سويا أن نكتفي بطفلين. الطبيب النسائي الذي كان يشرف على نوال أثناء حملها، كان يرغب أن يكون مولودنا طفلا، لأنه كان يعاني من عقدة أن معظم من كان يولدنهن من النساء كن يلدن بناتا، ولأنه ولَّد رفيقتين قبل نوال أنجبتا بنتين، فكان يخشى أن تتشاءم منه النساء مع توالي ولادة البنات. عندما كانت نوال تذهب إليه في مراجعاتها الدورية، كان يقول لها: "أنك ستلدين ولدا، لأن حركات طفلك قوية، وهذا مؤشر على أنه ولد". ولكن نوال كانت تقول له ضاحكة: أنا أشعر وأحس أنها بنت ولي رغبة أن تكون بنتا. لم اشهد نوال نشيطة ومشرقة كما شهدتها وهي حامل بطفلنا الثاني. كانت دائما في كامل نشاطها وإشراقها، وكأن طفلها يضفي عليها الكثير من الحيوية والنشاط، وكنت وإياها نتحسس دائما ضرباته وحركاته. أحيانا كنا نشك أن يكون بنتا لعنف ضرباته، ولكن عقلي الباطني كان يقول لي أنه سيكون بنتا. وجاءت نورا طفلة قوية وبصحة جيدة، أضفت على حياتنا الكثير من الحيوية والفرح. وكان يوم ميلادها من أجمل وأسعد أيامنا. عندما خرج الطبيب ليهنئني بولادتها وسلامتها وسلامة أمها. استغرب بشائر الفرح التي علت وجهي، وقال: أنت الرجل الوحيد الذي شاهدته يفرح لولادة بنت له.

من حسنات قدومنا للإقامة في مخيم اليرموك، أننا وفقنا بأسرة فلسطينية طيبة كانت تسكن في بيت من طابق واحد أمام البناية التي نسكن فيها. الزوج كان عاملا يتسم بالبساطة وحسن الخلق. زوجته "أم سهير" إنسانة لطيفة لديها أربع بنات، أنجبت لاحقا طفلا أسمته محمد. كانت بمثابة حاضنة لنورا، عندما كانت نوال تذهب لعملها. وبعد أن بلغ عمرها السنة، وضعناها وأخاها يزن في حضانة أطفال في المخيم أقامتها الجبهة الشعبية، قبل أن نرسلهما لاحقا إلى روضة الخالصة التي تقع قريبا من مكان سكننا.

عندما حاولت أن استخرج شهادة ميلاد ليزن ونورا، رفضت السلطات المعنية ذلك بحجة أن وثيقة الزواج اللبنانية التي بحوزتنا ليست مصدقة من كافة السلطات المعنية في لبنان حسب الأصول. فعقدنا زواجنا مرة أخرى تحت مسمى تثبيت زواج وتثبيت شرعية أبوتنا لهما بحضور مأذون شرعي وشاهدين.