سيرة وطن سيرة حياة ح6
تاريخ النشر : 2017-04-29 15:09

عشت في بيروت زمن الحرب الأهلية

(2)

بعد أسابيع قليلة من قدومي إلى بيروت اتصلت بالرفيق والصديق د. أسعد عبد الرحمن، الذي كان يعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني، شرحت له وضعي وعبرت له عن رغبتي في أن أجد عملا في المركز. رحب بالفكرة وقدمني بعد أيام إلى الدكتور أنيس الصايغ، مدير عام المركز. شرحت للدكتور الصايغ وضعي وعبرت له عن رغبتي في أن أنضم إلى أسرة المركز كباحث حيث بذهني بعض الأفكار والموضوعات. الدكتور الصايغ كما بدا لي لأول وهلة، شخصية دمثة يتكلم ببطء وبصوت يكاد يُسمع، يشعرك بالثقة والاطمئنان. رحب بانضمامي إلى أسرة المركز، واقترح عليَّ كبداية أن أشارك الزملاء في تحرير "اليوميات الفلسطينية"، (شرح لي عنها وآلية العمل فيها)، إضافة إلى إمكانية أن أساهم في تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" التي يصدرها المركز والكتابة فيها، إذا شئت، وبعد ذلك نرى ما يمكن عمله. وافقت على الفكرة كبداية، بالرغم من أنها اقل مما كنت أطمح إليه.

وهكذا، وجدت عملا في مركز الأبحاث الفلسطيني، وبدأ مسار جديد في حياتي. لم يكن قراري هذا سهلا في حينه، لأنه ليس سهلا الانفكاك، ولو مؤقتا، عن حياة سياسية حافلة لسنوات طويلة. ولكني في النهاية قررت أن أدخل تجربة جديدة في حياتي، وأتفرغ لكتابة العديد من القضايا الفكرية التي كنت أفكر بها خلال سجني.

مركز الأبحاث الفلسطيني من أهم المراكز البحثية والفكرية التي تُعنى بالقضايا والشؤون الفلسطينية بالإضافة إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية. أنشأته منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 في بيروت، وتولى مسؤوليته عند إنشائه فايز الصايغ، وخلفه عام 1966 أخوه الدكتور أنيس الصايغ، الذي أضفى عليه الكثير من وهج فكره، جاعلا منه واحدا من أهم الصروح الفكرية لدراسة القضية الفلسطينية بجوانبها المختلفة. وقد استقطب المركز العديد من المفكرين والأكاديميين، فلسطينيين وعربأ، إما كمتفرغين عاملين في المركز، أو باحثين يجرى تكليفهم بإعداد دراسات وأبحاث حول مواضيع شتى تتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية والقوى الاستعمارية.

"اليوميات الفلسطينية" التي عملت محررا فيها في البداية ثم استلمت رئاسة تحريرها بعد عدة أشهر، هي سجل يومي للأحداث التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، تصدر في مجلدات نصف سنوية، بعد أن يقوم محررو اليوميات بتجميع هذه الأحداث من قصاصات الأرشيف الصحفي المستخلصة من العديد من المصادر الإعلامية وتدوينها مرتبة يوما بيوم على قصاصات ورقية صغيرة، ليتم تجميعها لاحقا مرتبة باليوم والشهر والسنة، وإصدارها في مجلد نصف سنوي. ومن المحررين الذين عاصرت العمل معهم في اليوميات، سهيل الناطور، هدى عسيران، إنعام عبد الهادي وفريال عبد الرحمن. والكتاب والأدباء والمفكرين الذين عاصرت العمل معهم في المركز كثر، أذكر منهم، محمود درويش والياس خوري والياس سحاب واسعد عبد الرحمن وإبراهيم العابد وجميل هلال وعصام سخنيني وبيان الحوت وليلى الحسيني، أمينة المكتبة وسليم بركات وناشئ طه وحمدان بدر وصبري جريس وعبد الحفيظ محارب وتوفيق فياض وبلال الحسن ويوسف حمدان وغازي خورشيد وغازي دانيال وفيصل دراج وهاني مندس، وآخرون كثر.

يضم المركز إضافة إلى قسم اليوميات الفلسطينية، قسم البحوث والدراسات الفلسطينية، قسم الدراسات الإسرائيلية، نشرة رصد إذاعة إسرائيل، إضافة إلى المكتبة والأرشيف الصحفي وقسم الوثائق، الذي كان يضم الكثير من الوثائق الفلسطينية الأصلية، كأوراق الحاج أمين الحسيني وفوزي القاوقجي وغيرهم.

إضافة إلى المركز كمؤسسة فكرية وبحثية، أصدر المركز عام 1971 مجلة "شؤون فلسطينية" والتي كانت من أهم المنابر الفكرية والبحثية الفلسطينية. وكانت برئاسة محمود درويش، وكنت من المشاركين في تحريرها والكتابة فيها خلال عملي في المركز

المركز كان مستهدفا من إسرائيل بأشخاصه ومبناه وما يحتويه من كتب ووثائق وغيرها. فاستهدف رئيسه الدكتور أنيس الصايغ بطرد ملغوم عام 1972 فانفجر بين يديه، ليقطع عددا من أصابعه ويصيب جزءا من سمعه وبصره. وفي ظهيرة يوم 14/12/1974 بينما كنت في المركز مع باقي العاملين، جرى استهداف المركز بأربعة صواريخ نم نصبها في أرض خلاء قرب المركز، فأصابت ثلاثة منها المكتبة، ألحقت بها دمارا هائلا، مزق الكتب والمخطوطات وأحالها إلى كتل من الأوراق الممزقة والمحروقة، ولم يُصب أحد من العاملين. وقد جرى استهداف مواقع فلسطينية أخرى في الوقت نفسه والطريقة نفسها، حيث جرى استهداف مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في كورنيش المزرعة في بيروت، وموقع لحركة فتح.

وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان إثر الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان والمقاومة الفلسطينية في 6/6/ 1982، قامت القوات الإسرائيلية في 15/9/1982، باقتحام المركز لدى اجتياحها بيروت، واستولت على كل محتوياته من كتب ووثائق وأرشيف صحفي وغيرها، وشحنتها إلى إسرائيل. واضطرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى نقل مركز الأبحاث إلى قبرص بعد ان تعرض إلى هجمات ومضايقات من قبل القوى اليمينية اللبنانية، حيث تعرض صباح يوم 5/2/1983 إلى عملية تفجيرية بتفجير سيارة ملغمة أمام المركز أودت بحياة ثمانية من العاملين فيه، هم الباحثة حنا شاهين، صباح كردية، صبحي علوان، منى خطاب، سناء عودة، سليم العيساوي، محمد عزام وبهاء منصور، إضافة إلى جرح عدد آخر من العاملين والجيران. وبعد ذلك بحوالي شهرين، وتحديدا في يوم 23/4/1983 قامت قوات من الجيش اللبناني بتطويق المركز وأخت تضيق على العاملين فيه، ما حدا بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى إقفال المركز بعد عدة أسابيع في شهر حزيران عام 1983، ونقلته إلى قبرص حيث واصل العمل من موقعه الجديد لعدة سنوات. وعاد لمواصلة عمله في فلسطين من مقره الجديد في رام الله أواسط العام 2011.

عندما وصلت إلى بيروت أواخر العام 1973 كان الوضع فيها هادئا، إلى حد ما، باستثناء بعض المناوشات الصغيرة هنا وهناك، وخاصة بين الأطراف اللبنانية. بيروت كانت لا تزال تزهو بصورتها كعاصمة للانفتاح الفكري، وملجأ للعديد من المعارضين السياسيين العرب وغيرهم. دور السينما تعرض أحدث الأفلام. مسرحيات فيروز تصدح في صالة البيكاديلي. مقاهي بيروت المنتشرة في الروشة وفي شارع الحمراء تعج بالزبائن، السياسيون لهم مقهاهم الخاص "الدولتشي فيتا"، والمثقفون والصحفيون لهم مقاهيهم. مطاعم البيتزا الكثيرة في الروشة ملتقى للكثيرين في الأمسيات. شاطئ بيروت في الأوزاعي كان يعج برواده من رجال ونساء وأطفال في فصل الصيف، لا حدود أو تدخل فيما يلبسون أو لا يلبسون. ومن لا يرغب في الذهاب إلى البحر يصعد إلى الجبل، يتمتع بهوائه النقي، يزور مغارة جعيتا، إحدى أجمل إبداعات الطبيعة. ومن يرغب في تناول وجبة سمك طازج، يذهب إلى منطقة الخيزران بين صيدا وصور، حيث تنتشر مطاعم السمك على طول الشاطئ. ولمن يأسره منظر الثلج المتراكم على السفوح والمرتفعات، يذهب إلى بكفيا وبرمانا، يتزلج إذا شاء، أو يلهو بالثلج مع أطفاله وأصدقائه. إنها بيروت الواحدة، لا شرقية وغربية كما قسمتها الحرب لاحقا. إنها بيروت الجميلة بناسها وبالحياة فيها.

كان يحلو لي أن أتناول فنجان قهوة مع بعض الأصدقاء في إحدى مقاهي الروشة، وبخاصة مقهى السن رايز (Sun Rise)، أو تناول صحن فول في الصباح الباكر في مطعم مروش. ولاحقا دلني أحد الأصدقاء على بيت لامرأة لبنانية "زكية" تقدم وجبات طعام بيتي وبأسعار معقولة، ولعدد محدود من مثقفين ومدرسين في الجامعة الأميركية وبناء على حجز مسبق يوميا. البيت عبارة عن شقة واسعة في بناية صغيرة في آخر شارع السادات المتفرع من شارع الحمراء وقريب من مركز الأبحاث. اعتدت بعد انتهاء عملي في المركز على تناول وجبات الغذاء في أحيان كثيرة عند زكية، التي كانت تحرص أن نتناول وجباتنا في جو عائلي، وكأننا أسرة واحدة.

أثناء عملي في مركز الأبحاث ربطتني صداقة عميقة مع الزميلة إنعام عبد الهادي، المحررة في اليوميات الفلسطينية ومطلقة القائد الفتحاوي، هاني الحسن ولها منه ابنة صغيرة لطيفة اسمها "عزة"، (تعمل مخرجة سينمائية حاليا). كانت تقيم وطفلتها في شقة صغيرة مفروشة في بناية في منطقة الروشة. كانت شقتها ملتقى للكثيرين من أهالي نابلس القادمين من الضفة الغربية، رجالا ونساء. وكنت في كثير من الأحيان أقوم بزيارتها والتقي بضيوفها. ومن خلالها تعرفت على الروائية ابنة نابلس، سحر خليفة. كانت في بداية نشاطها الروائي. كتبت أولى رواياتها "الصبار" عن حياة المرأة الفلسطينية في ظل الاحتلال وما تتعرض له من اضطهاد يكاد يكون مثلثا، من المجتمع والأسرة والاحتلال. كانت الرواية نسخة أولية قبل النشر. قرأت الرواية وناقشتها معها وشجعتها على نشرها. كنت أتفق معها في كثير من القضايا، واختلف معها في بعض منطلقاتها الفكرية، حيث كنت أجدها نسوية أكثر من اللازم. كانت تنتقي شخوص رواياتها النسوية بعناية، وتقدم نماذج من المرأة المكافحة الصبورة. معظم شخوصها الروائية من الرجال باهتة وسلبية، ولا تترك مساحة لشخوص ذكورية إيجابية. تتالت رواياتها بعد ذلك بكثافة عالية، لتضعها في مقدمة الروائيين الفلسطينيين، إن لم تكن من أبرزهم، كنت ألتقيها كلما قدمت إلى بيروت ونتناقش في مشروعاتها الروائية.

كما تعرفت أثناء عملي في المركز على بعض الفتيات، وربطني بالبعض منهن صداقات عادية، كاد بعضها أن يتحول إلى مشروع زواج، لولا أنني كنت أتردد وأتراجع في اللحظات الأخيرة، ليس هروبا من الزواج أو رفضا للارتباط بعلاقة جدية، ولكني كنت أتهيب من حياة الزواج الرتيبة. وأحيانا كنت أتساءل بيني وبين نفسي، ولكن إلى متى؟

منطقة الفاكهاني حيث المقرات الرئيسية للقيادة الفلسطينية ولفصائل المقاومة على مختلف اتجاهاتها، كانت تشكل مركز حركة ونشاط دائم للفلسطينيين الذين وفدوا إلى لبنان من الأردن، وغيرهم من مثقفين وصحفيين فلسطينيين وعرب. بعد انتهاء عملي في مركز الأبحاث، كنت أتواجد في هذه المنطقة، للقاء الأصدقاء والتداول حول آخر الأخبار والمستجدات السياسية. مطعم "توليدو" في أول شارع أبي شاكر من جهة جامعة بيروت العربية، كان يقدم وجبات طعام بأسعار معقولة، وكان المكان المفضل للكثيرين ليس لتناول وجبة طعام فقط، وإنما أيضا لعقد حلقات النقاش أثناء تناول الطعام حول البرنامج السياسي المرحلي وغيره من الشؤون السياسية والفكرية.

هذا الجو المريح والإنساني سرعان ما تبدد مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث بدت بيروت كمدينة أشباح، التنقل فيها بات صعبا ومحفوفا بالمخاطر، وانتشر فيها المسلحون، يتحكمون بحياة الناس، ويفرضون عليهم نمط حياة جديد ولا إنساني.

كنت أذهب إلى المركز يوميا، أغادر شقتي باكرا بعد تناول وجبة فطور خفيفة، وتصفح الجرائد اليومية " النهار والسفير" أهم صحيفتين لبنانيتين، حيث تعاقدت مع موزع جرائد لتزويدي بهما باكرا كل يوم. قبل أن اقتني سيارة صغيرة كنت يوميا أقطع شارع أبو شاكر وصولا إلى جسر الكولا، حيث سيارات السرفيس التي تعمل على خط الكولا-كورنيش الروشة وشارع الحمرا. كانت سيارات "السرفيس" الصغيرة وسيلة التنقل العام الوحيدة في بيروت، وبربع ليرة لبنانية للراكب الواحد. الدولار الأميركي كان في ذلك الوقت يعادل ليرتين لبنانيتين. في بداية عملي في المركز كنت أتقاضى 700 ليرة لبنانية، وارتفع لاحقا إلى حوالي 1900 ليرة عندما أنهيت عملي في مركز الأبحاث أواخر عام 1978. بعد حوالي سنة من عملي في المركز، اقتنيت سيارة "فولكس فاجن" صغيرة، وأمن لي صديق رخصة سواقة مزورة، كما أمن لي أيضا، وثيقة سفر لبنانية مزورة، وهي الوثيقة التي كانت تُصرف للاجئين الفلسطينيين في لبنان.

أسرة المركز كانت مشكلة من فلسطينيين، منهم فلسطينيون من الداخل الفلسطيني "مناطق الـــ 48" وهم العاملون في قسم الدراسات الإسرائيلية، مثل صبري جريس وعبد الحفيظ محارب، إضافة إلى بعض اللبنانيين، مثل غازي دانيال الذي كان يتولى قسم الشؤون الإدارية. بعض العاملين كانوا مفرغين على الصندوق القومي الفلسطيني، وبعضهم بموجب عقود سنوية، إضافة إلى بعض الباحثين المكلفين بإعداد دراسات وأبحاث لقاء مكافأة مقطوعة. وكان درويش الأبيض، مدير الصندوق القومي الفلسطيني والمعروف بدقته، يشرف من مركزه في دمشق على حسابات المركز ويدقق بها بانتظام.

إضافة إلى الصندوق القومي كمصدر مالي للصرف على نشاطات المركز وتغطية الرواتب الشهرية للعاملين. كان المركز يتلقى سنويا ما قيمته 150 ألف دولار من الجامعة العربية لتغطية نفقات مجلة "شؤون فلسطينية" التي كان المركز يصدرها شهريا. وحيث أن مالية المجلة لم تكن تخضع لتدقيق الصندوق القومي، كان الدكتور أنيس الصايغ يتصرف بطريقة أو أخرى وبشكل فردي، بجزء بسيط من هذا المبلغ، بدفع علاوات إضافية محدودة لبعض العاملين في المركز، إما لاستمالتهم أو اعتقادا منه أن ما يتلقاه الواحد منهم كراتب قليل.

كان عملي كرئيس لتحرير "اليوميات الفلسطينية" يستهلك الكثير من الوقت والجهد. كنت أقوم بمراجعة القصاصات الورقية التي يعدها المحررون، بتدقيقها لغويا، والتدقيق بصحة ومصداقية الأخبار والمعلومات التي تتضمنها، وأحيانا أضطر لمراجعة المعلومة أو الخبر من المصدر الذي اعتمده المحرر، حيث أن كل محرر كان يذكر في نهاية كل خبر أو معلومة المصدر الذي استند إليه من الأرشيف الصحفي. بعد ذلك وبعد إنجاز ما مجموعه ستة أشهر، يتولى مسؤول الشؤون الإدارية إرسالها إلى المطبعة، والتدقيق في المادة المطبوعة قبل إجازة تجميعها وإصدارها في مجلد نصف سنوي.

كانت مجلة "شؤون فلسطينية" من أهم المنابر الفكرية، وكانت مفتوحة للكثيرين من الكتاب، فلسطينيين وعربا وغيرهم. وكان من المحررين فيها من غير العاملين في المركز، الكاتب اللبناني إلياس خوري، وإلياس سحاب، والكاتب السوري الكردي سليم بركات. كانت المجلة تصدر شهريا وبانتظام، حتى في ظل اشتداد أوار الحرب في لبنان. كان العدد الشهري يشتمل على العديد من الأبحاث والدراسات ذات الصلة بالشأن الفلسطيني، إضافة إلى مراجعة لأحد الكتب والتقارير الدورية عن النشاط العسكري والنشاطات السياسية للمقاومة الفلسطينية. كانت المجلة تقدم مكافاة شهرية بقينة 250 ليرة لبنانية عن كل مقال، و150 ليرة لبنانية عن كل مراجعة لكتاب أو تقرير. كنت أكتب فيها شهريا بانتظام، تقريبا.

أواخر العام 1976 حصلت تغييرات في المركز. استقال الدكتور أنيس الصايغ وخلفه محمود درويش وغادره بعض العاملين، منهم إبراهيم العابد الذي كان على علاقة قوية مع الدكتور أنيس. محمود درويش بحكم طبيعته كشاعر لا يطيق العمل الإداري، شكل هيئة من ثلاثة من العاملين في المركز لمساعدته في متابعة أعمال المركز، من بلال الحسن نائبا له، ومني مساعدا له للشؤون الإدارية والمالية، وعصام سخنيني مساعدا له لشؤون البحث والدراسات، مع احتفاظ كلينا بمسؤولياته السابقة.

اعتاد محمود درويش على أن نلتقي صباح كل يوم في مكتبة، سواء كهيئة ثلاثية أو بمشاركة آخرين مثل إلياس خوري، للتداول في شؤون المركز وما يستجد من أحداث سياسية. وكان من عادته أن يشاورنا في مقاله الافتتاحي الذي كان يكتبه لمجلة شؤون فلسطينية، وأحيانا كان يتلو علينا مقاطع من آخر قصائده، وكان يستمع بانتباه إلى أي ملاحظة من أي منا. وبشكل عام، كان التعاطي مع محمود سلسا وتسوده الألفة، ولكنه كان يتذمر من حين لآخر حول وجوده في المركز ويقول: أنا كفاية عليَّ المجلة، وسأتحدث مع "أبو عمار" لإعفائي من هذه المهمة."

بعد أن استقال بلال الحسن ليعمل في جريدة "السفير" التي تأسست حديثا بمسؤولية طلال سلمان. نفذ محمود ما كان يفكر به. ففي منتصف عام 1978، أقدم وبشكل مفاجئ ودون التشاور مع أحد، على الطلب من الرئيس ياسر عرفات إعفاءه من هذه المسؤولية، واقترح بدلا عنه صبري جريس، الذي كان يتولى مسؤولية قسم الدراسات الإسرائيلية في المركز. لم يرتح الكثير من العاملين في المركز إلى تعيين صبري جريس، بحكم ما هو معروف عنه من تزمت إداري شكلي وولع بإصدار التعليمات. من ناحيتي، كان صعبا التفاهم مع صبري، فقدمت استقالتي من المركز بعد أسابيع قليلة من تعيينه، لأبحث عن مسار جديد لحياتي.

عملت في مركز الأبحاث حوالي أربع سنوات من بداية العام 1974 إلى نهاية العام 1978، كانت من أخصب سنوات حياتي فكريا وكتابيا، عملت خلالها على إنجاز العديد من المشاريع الكتابية التي كانت تختمر في ذهني منذ فترة. وخلال هذه الفترة واظبت على صلتي بالأحداث التي كانت تعصف في لبنان، من خلال صلاتي الواسعة مع عدد واسع من قيادات فصائل المقاومة وكوادرها.

بالإضافة إلى ما كنت أكتبه وأنشره في مجلة "شؤون فلسطينية" وفي العديد من نشريات وصحف فصائل المقاومة الفلسطينية، مثل "فلسطين" الثورة، ومجلتي "الحرية" و "إلى الأمام" وأحيانا في جريدة "السفير" ومجلة "دراسات عربية" اللبنانيتين، أنجزت ونشرت العديد من الدراسات والكتب، منها كتابي "شهادات على جدران زنزانة" عن تجربتي الاعتقالية في الأردن، قام الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين بنشره عام 1975، ودراستي الموسعة عن "صحافة المقاومة الفلسطينية في عشر سنوات" بمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاق المقاومة الفلسطينية عام 1975، تم نشره في مجلة شؤون فلسطينية في العدد (41/42، العام 1975)، والدراسة الموسعة عن “مواقف الأحزاب الشيوعية والقومية العربية (1948_1973) من القضية الفلسطينية"، تم نشرها في مجلة "دراسات عربية"، (في ثلاثة أعداد متتالية عام 1977). ثم الدراسة المعمقة عن انتفاضة يوم الأرض في الداخل الفلسطيني في30/3/1976 (شؤون فلسطينية، العدد 57، عام 1976).

بالإضافة إلى هذه الدراسات وغيرها، نشرت كراسين، أحدهما عن "أحداث الأشهر العشرة الأولى من الحرب الأهلية في لبنان"، جمعت فيه مقالاتي العديدة عن هذه الأحداث. والآخر عن "المتغيرات في العلاقات الأردنية الفلسطينية منذ النكبة عام 1948 حتى العام 1975"، جمعت فيه مقالاتي عن هذا الموضوع والمنشور معظمها في مجلة "شؤون فلسطينية". وكتاب آخر بعنوان "سياستان إزاء حرب تشرين/أكتوبر والتسوية" ضم مجموع المقالات والموضوعات التي نشرتها في عدد من المنابر الإعلامية، حول حرب تشرين/أكتوبر وما تلاها من أحداث. كان من المفترض أن تنشر هذا الكتاب "دار الطليعة" اللبنانية، ولكن ظروف الحرب حالت دون نشره.

مشروعي وإنجازي الكتابي الأكبر، كان كتابي عن "المرأة الفلسطينية والثورة"، نشره مركز الأبحاث الفلسطيني عام 1977، وهو أول كتاب فلسطيني موسع ومعمق عن المرأة الفلسطينية، عن واقعها وما تتعرض له من اضطهاد مزدوج، سواء قبل الثورة أو بعدها، وكيف أثرت الثورة الفلسطينية على هذا الواقع، وما هي العوامل التي يمكن أن تساعد المرأة الفلسطينية على تعميق مكتسباتها التي حققتها بفعل الثورة، قبل أن تطرأ ظروف جديدة تسلبها ما حققته من مكتسبات، كما حصل مع المرأة الجزائرية بعد انتصار الثورة الجزائرية. الكتاب لاقى قبولا واسعا، وأعيد طباعته عدة مرات في الأراضي المحتلة، وكان مرشدا ومرجعا لأكثر من جيل من النساء، وربما من الرجال الذين يؤمنون بحقوق المرأة في الحرية والمساواة الاجتماعية وغيرها.

الكتاب كان حصيلة جهد نظري وفكري وتتبع لمسار واقع المرأة الفلسطينية والعربية في واقعها الحالي وخلال عقود سابقة، وتضمن دراسة ميدانية تحليلية استندت إلى استمارة من مئة سؤال توجهت بها إلى عينة عشوائية من رجال ونساء لاستكشاف مواقفهم من قضية المرأة. استغرق إعداد الكتاب أكثر من سنة، في وقت كانت فيه الحرب الأهلية في لبنان على أشدها. عملت معي ولمدة ستة أشهر الأخت سهير جرار، كمساعدة باحث للمساعدة في تعبئة الاستمارات وتفريغها.

الكتاب الآخر الذي كنت أحلم بإنجازه منذ كنت في المعتقل، كان حول "دولة فلسطين العلمانية الديمقراطية" على كامل أرض فلسطين التاريخية. لقد بدأت أوسع مطالعاتي وبحثي حول الموضوع، ووضعت مخططات الكتاب الأولية وأنا أعمل في المركز، وحصلت على موافقة أولية على تفرغي في مركز الأبحاث لأعداده. لكن لم يعد ممكنا مواصلة العمل على الكتاب بعد استقالتي من المركز وانخراطي في الحياة السياسية.

بعد أشهر قليلة من وجودي في بيروت، لحق بي أخي محمد الذي كان يعمل فني مختبر في مستشفى لوزميلا في عمان. وجد عملا في الهلال الأحمر الفلسطيني وأقام معي في الشقة. أخي الآخر الأصغر فرج الله، ذهب إلى سورية بعد انتهاء دراسته الثانوية عام 1972 للبحث عن منحة دراسية. تعثرت أموره ولم يحصل على أي منحة، ولما قدمت إلى بيروت كان لا يزال موجودا في دمشق، طلبت منه أن يعود إلى نابلس، وأني سأبعث وراءه بعد تدبير منحة دراسية له في إحدى البلدان الاشتراكية.

لم يطل غياب فرج، عاد بعد أشهر قليلة مصطحبا معه والدتي وأختي الصغرى خولة. فوجئت بزيارة الوالدة، وأكبرت فيها قطعها هذه المسافة الطويلة من نابلس إلى بيروت بما فيها من مشاق لزيارتي، وبخاصة أنها تعاني من السكري ومن تضخم في عضلة القلب. كنت أخشى عليها عدم قدرتها على احتمال أجواء الحرب التي اشتد أوارها في لبنان، عرضتها على أشهر الأطباء في بيروت، نصحوها بالراحة وعدم إجهاد نفسها.

خلال وجود الوالدة كانت تلح عليَّ بالزواج مثل كل الأمهات عندما يكبر الأولاد، الذكور أو الإناث. وكنت أخشى على الوالدة من كثرة انشغالها بمسألة زواجي، وبخاصة أن قلبها الضعيف لا يتحمل الصدمات، وحتى أطمئنها قلت لها ألا تقلق وأنني على وشك الزواج من فتاة سأعرفك عليها. ولذلك اتفقت مع صديقة لي أن تتظاهر بأنها خطيبتي. فقدمتها للوالدة على أنها خطيبتي وأننا ننتظر الوقت المناسب للزواج. وجه الوالدة تهلل بالفرح، ضمت الصبية إلى صدرها وغمرتها بقبلاتها ودمعات الفرح تنساب من عينيها، وبخاصة أن الصديقة أتقنت دورها. أصرت الوالدة على أن تكون ضيفتها يوميا على الغداء أو العشاء، كي تذوقها الأكلات النابلسية الشهية. وتعرفها على طرق إعدادها. وكان وجود الوالدة وأكلاتها التي تتصدر وجباتنا يوميا، مناسبة للعديد من أصدقائي كي ينالوا نصيبا من هذه الأكلات.

أقامت الوالدة عندي بضعة أسابيع وعادت بصحبة أخي فرج، بعد أن أنجزت نذرها التي نذرته بعد اعتقالي في الأردن، بالتضحية بكبش للفقراء، وأن أقوم بالمرور فوقه بعد ذبحه كما هي العادة. ولم تغادر إلا بعد أن أخذت وعدا قاطعا مني بأن لا أتأخر في زواجي. فوعدتها بذلك.

جاءت الوالدة لزياتي بعد حوالي عشرين شهرا. وزيارتها هذه المرة لم تخل من طرافة، وحكاية تستحق أن تروى. قبل مغادرة الصديقة إنعام عبد الهادي بيروت لزيارة الأهل في نابلس، أوصيتها أن تزور الوالدة، وإن أمكن أن تصطحبها معها لدى عودتها إلى بيروت لأن لديها مراجعة مع الطبيب. أوفت إنعام بوعدها، زارت الوالدة وقدمت لها البالطو الذي أرسلته معها لها، واتفقت معها على موعد السفر لاصطحابها معها إلى بيروت. غادرت إنعام والوالدة والصديقة سحر خليفة نابلس متوجهات إلى عمان ومن ثم إلى بيروت. عبور الجسر من الضفة، حيث يتحكم الإسرائيليون بحركة السفر والمسافرين، إلى الجانب الأردني، شاق ومُتعب. بعد أنهت الوالدة إجراءات المغادرة، بحثت عن حقيبتها فلم تجدها، ومرت الساعات وهي تبحث مع إنعام وسحر عن الحقيبة. الوالدة رفضت المغادرة قبل العثور على حقيبتها، ولأن الوقت ضيق والجسر سيغلق، اضطرت إنعام وسحر للمغادرة بدون الوالدة، مع احتمال أن الوالدة قد تضطر للعودة إلى نابلس، كما أخبرتني إنعام لدى عودتها.

ولكن، على ما يبدو أن الوالدة لم تيأس، فبعد طول انتظار، عثرت على حقيبتها قبل أن يقفل الجسر بلحظات، فتجرأت ولحقت بآخر باص إلى الجانب الأردني، ولتكمل مشوارها إلى بيروت لوحدها. والطرافة ليست هنا، وإنما عندما وصلت الوالدة إلى بيروت، لم يكن بحوزتها عنوان شقتي أو مكان عملي، فكل ما تتذكره أننا تغذينا معا خلال زيارتها الأولى في مطعم أبو نواس القريب من البيت حيث أقيم، وكنت أتناول غذائي فيه أحيانا. تذكرت اسم المطعم وطلبت من سائق تكسي أن يوصلها إلى المطعم. دخلت إلى المطعم لتسأل صاحبه عني، وعبثا حاولت تذكيره بي، وعندما يئست وقفت قبالة المطعم، تتفحص وجوه المارة لعلها تلمحني، ومضى الوقت والشمس قاربت على الغروب، دون نتيجة، ولكن لحسن الصدف، ولأن قلب الأم دليلها، كما يقولون، مر أحد الأصدقاء الذي يعرف أمي من زيارتها الأولى. عندما لمحها استغرب وقوفها لوحدها، فاقترب منها يسألها، فلما روت له حكايتها ضحك كثيرا واصطحبها إلى البيت. ولحسن الصدف أنني كنت حينها في البيت أفكر مليا بالوالدة، مرجحا احتمال عودتها إلى نابلس، مستبعدا أي احتمال بإمكان مواصلة سفرها إلى بيروت لوحدها. قطع حبل أفكاري قرع جرس الباب، ولما فتحت الباب تفاجأت بالوالدة تقف أمامي بكامل جلالها وعظمتها وابتسامتها التي تنير وجهها كأنها آلهة إغريقية، والصديق يختبئ خلفها باسما. كدت لا أصدق عيني.

عندما روت لي الوالدة قصتها، كنت أستمع إليها وهي تروي تفاصيل رحلتها الطويلة، وكلي دهشة واستغراب، بشجاعة الوالدة وجرأتها على مواصلة سفرها لوحدها. وكنت أتساءل كيف واتتها الجرأة والقوة على هذه المغامرة اللطيفة، وأن تأتي إلى بيروت وحدها، وهي لا تعرف كيف يمكنها أن تجدني وهي لا تتذكر إلا اسم مطعم تغذينا فيه مرة قبل أكثر من سنة. إنهن الأمهات قاهرات المستحيل، أحيانا.

خلال وجود الوالدة كانت مسألة زواجي شغلها الشاغل يوميا، وبخاصة بعد أن أعلمتها أني أنهيت علاقتي مع الفتاة التي عرفتها عليها في زيارتها السابقة. وحتى أُطمئنها أنني جاد بزواجي، أسرعت بخطبتي للصديقة سلوى (صحفية فلسطينية تقيم في لبنان)، التي ربطتني بها علاقة جادة منذ أشهر، بحضورها وحضور الأخ ناجي علوش، "أبو ابراهيم" والفاضلة زوجته وبعض الأصدقاء.

وبعد أن أنجزت الوالدة مهمتها "المقدسة"، وبعد ما يزيد على شهرين من إقامتها وبعد مراجعة الطبيب، الذي أسَرَّ لي أن صحتها ليست على ما يرام، عادت إلى نابلس وهي راضية ومطمئنة، وبعد أن اطمأنت أنني سأتزوج حقا.

بعد أسابيع قليلة من مغادرتها وصلني النبأ المؤلم بوفاتها، وكان ألمي الأشد أني لم أشارك إخوتي والعائلة وداعها الأخير. رحمة الله عليك يا والدتي، كنت دائما القلب الحنون والصدر الدافئ الذي يحتضن فلذات كبدك. تسهرين على المريض وتركضين وراء الغائب، وتفرحين لمن تزوج، وتضغطين على من لم يتزوج بعد ليتزوج. أنت جوهرة الحياة ونورها، أنت القلب الذي لا يتعب وإن هده المرض. لك مني كل الحب والرحمة، في حياتك وفي مثواك الأخير.

أخي علي الذي كان يعمل في ليبيا، كان يزورني في إجازاته السنوية، لمتابعة نشر مطبوعاته، حيث صدر له في تلك الفترة عن "دار الآداب" كتابه القيم "التراث الفلسطيني والطبقات"، وهو دراسة معمقة في الأمثال الشعبية الفلسطينية من زاوية طبقية، كما صدر له أكثر من ديوان شعري ودراسة في الموروث الشعبي الفلسطيني، بعضها صدر عن "دار العودة"، وبعضها عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

أواسط العام 1976، جاءني علي بعد أن استقال من عمله في ليبيا، وقال لي: "لم أعد أطيق حياة المنفى يا أخي، وبما أنه معي تصريح يسمح لي بالعودة إلى الوطن فأنا عائد إلى الوطن." وعندما عاد اعتقله الأمن الإسرائيلي عدة أشهر. ليواصل بعد خروجه من المعتقل مسيرة جديدة في حياته في مجال العمل الصحفي في الداخل، وفي الكتابة والتأليف، حيث بلغ مجموع ما أصدره في حياته حوالي أربعين كتابا في مواضيع مختلفة. والتقيته مرتين بعد عودته. مرة في بيروت عندما أتى للمشاركة في المؤتمر الثاني للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطيني الثاني الذي عقد في تونس في شهر آذار 1977، والمرة الثانية عندما زارني في دمشق وهو عائد من روما بعد مشاركته في فعالية ثقافية ضمن وفد فلسطيني، شهد خلالها اغتيال الموساد الإسرائيلي للأخ ماجد أبو شرار في روما في 9/10/1981.

خلال وجودي في بيروت تعرفت على عدد واسع من الكتاب والصحفيين، فلسطينيين ولبنانيين وعرب. وتوثقت علاقاتي مع الأخ ناجي علوش، الأمين العام للاتحاد العام والصحفيين الفلسطينيين ونائبه الأخ حنا مقبل "أبو ثائر"، وكنت أشارك في الكثير من النشاطات والفعاليات الثقافية التي يقيمها الاتحاد. شاركت في المؤتمر الثاني للاتحاد الذي عُقد في تونس في شهر آذار عام 1977، وكنت شاهدا على العديد من المهازل الذي شهدها المؤتمر. كما شاركت في المؤتمر الثالث للاتحاد الذي عُقد في بيروت في شهر إبريل عام 1980، والذي شهد صراعا وخلافات فتحاوية لإزاحة الأخ ناجي علوش عن الأمانة العامة للاتحاد. وفي النهاية تم التوافق بين الأعضاء الفتحاويين على استحداث منصب رئيس الاتحاد بالإضافة إلى منصب الأمين العام، وتم انتخاب الشاعر المخضرم عبد الكريم الكرمي، "أبو سلمى" لرئاسة الاتحاد والأخ يحيى يخلف أمينا عاما، وتم التوافق بين فصائل المقاومة على باقي أعضاء الأمانة. وعمليا فإن الاتحاد سواء في عضويته أو في تشكيل هيئاته القيادية، كان أبعد ما يكون عن المهنية، وكانت المعايير السياسية والكوتات الفصائلية تحكم اختيار أعضاء هيئاته القيادية.

في شهر يوليو 1978 كنت مبعوثا عن الاتحاد للتضامن مع الشعب القبرصي في الذكرى الرابعة لتقسيم جزيرة قبرص بعد الغزو التركي في20/7/1974 واحتلال القسم الشمالي من الجزيرة وإقامة حكومة موالية لتركيا فيها. وقد التقيت خلالها بعدد كبير من الصحفيين الأجانب شرحت فيها الأبعاد المختلفة لقضيتنا الوطنية، كما التقينا كصحفيين ومتضامنين مع الرئيس القبرص مكاريوس.

كنت من المبادرين لعقد المؤتمر التوحيدي للاتحاد، والذي تم عقده في شهر شباط 1987 في الجزائر، لإنهاء حالة الانقسام الذي عاشها الاتحاد بعد المؤتمر الانقسامي الذي انفردت بعقده حركة فتح عام 1984، بعد حالة الانقسام الذي عانته حركة فتح عام 1983. وقد تم التوافق بين الفصائل على الأمانة العامة الجديدة برئاسة محمود درويش، وكنت عضوا فيها.

ظروف العمل خلال الفترة التي كنت أعمل فيها في مركز الأبحاث في بيروت، كانت صعبة وقاسية، في ظل الحروب التي اشتعلت في لبنان، سواء حروب بعض الأنظمة العربية ووكلائهم في لبنان ضد بعضهم البعض على الساحة اللبنانية التي كانت مفتوحة لشتى التدخلات، وبخاصة التدخلات السورية العراقية التي كانت تتحول إلى اشتباكات مسلحة بين وكلاء الطرفين في لبنان، أو الحرب الأهلية اللبنانية-اللبنانية التي وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها طرفا فيها. وما زاد الطين بلة، الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة على المخيمات الفلسطينية وقواعد المقاومة في البقاع والجنوب اللبناني. وقد اضطرت المقاومة الفلسطينية، والتي كانت تعاني من حصار شديد، عربي ودولي، إلى إعلان التعبئة العامة واستقدام المئات من الطلاب الفلسطينيين الدارسين في الجامعات في الخارج إلى لبنان للمشاركة في الدفاع عن المقاومة، ضد الحروب المتعددة التي اشتعلت ضدها لتصفيتها، وجرى تشكيل ما بات يُعرف بـــ "الكتيبة الطلابية" التي ضمت طلابا فلسطينيين ولبنانيين وعرب. وقد كان لهذا الكتيبة الذي انتمى معظم تشكيلاتها إلى حركة "فتح" نشاطات فكرية وعسكرية فاعلة.

وإني لأتساءل بعد هذه السنين الطويلة، هل كان ممكنا أن تنأى المقاومة الفلسطينية بنفسها عن الانخراط المباشر في الحرب الأهلية التي اندلعت بين المارونية السياسية ممثلة بشكل أساسي بحزب الكتائب اللبنانية، الشيخ بيار الجميل، وحزب الأحرار اللبناني، كميل شمعون، والحركة الوطنية اللبنانية على مختلف تشكيلاتها واتجاهاتها، أم أن الظروف السياسية المستجدة بعد حرب تشرين/أكتوبر، كانت أقوى منها، لأنها كانت معنية بنصرة الحركة الوطنية اللبنانية، التي دعمت الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان ودافعت عنه، إضافة إلى أنها كحركة مقاومة، وكوجود فلسطيني في لبنان، كان مستهدفا تصفيتها وشطبها من المعادلة السياسية.

لقد وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها منخرطة في الحرب بعد "مجزرة باص عين الرمانة" في 13 نيسان 1975، التي نجم عنها مقتل 27 شخصا وإصابة آخرين. وهي المجزرة التي ارتكبتها عناصر من الكتائب اللبنانية، عندما نصبوا كمينا لباص كان يقل حوالي خمسين شخصا من الفلسطينيين عائدين إلى مخيم تل الزعتر، بعد مشاركتهم في احتفال أقامته الجبهة الشعبية-القيادة العامة بمناسبة الذكرى الأولى لعملية الخالصة.

منذ تلك المجزرة التهبت الساحة اللبنانية بحرب قذرة، كان يتم القتل فيها على الهوية، وانقسمت بيروت إلى شطرين، الشرقية تحت سيطرة المارونية السياسية، والغربية حيث المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية. كانت قذائف المدفعية والصواريخ تنهال بدون تمييز على الأحياء المدنية من الطرفين في البيروتتين. لم يعد السير آمنا ولم يعد حتى البقاء في البيوت آمنا، وباتت بيوت الدرج الداخلية في البنايات، هي المناطق الأكثر أمانا لحماية الأطفال، حيث لا تتوفر ملاجئ. ولكن اللبنانيين على عاداتهم اللطيفة، يحافظون على مرحهم وحبهم للاستمتاع بالحياة، حتى في أحلك الظروف. كانوا في الأمسيات، يفترشون بيوت الدرج وينصبون الموائد التي تزخر بالمازات على شتى أنواعها، ويسلون أنفسهم بعدد من كاسات العرق، يبددون فيها زهقهم وقرفهم. والطريف أن هذه السهرات كانت فرصة للقاء الجيران مع بعضهم، نساء ورجالا، حيث كانوا يتمازحون ويتبادلون النكات عن الحرب، بما فيها النكات غير المحتشمة. وكنت عندما أعود آخر الليل إلى شقتي الصغيرة، أشاركهم أجواءهم المرحة هذه.

تم مع بداية اندلاع الحرب تشكيل القوات المشتركة من فصائل المقاومة الفلسطينية وفصائل وتشكيلات مسلحة وطنية لبنانية، وكان الرئيس ياسر عرفات هو القائد الفعلي الممسك بزمام توجيه وقيادة العمليات العسكرية التي شملت كل الأراضي اللبنانية. وعندما تمددت الحرب إلى منطقة الجبل، انتشرت في المنطقة كتائب من المقاومة الفلسطينية بقيادة القائد العسكري الفتحاوي، موسى العملة "أبو خالد"، في ترشيش وضهور الشوير وعاليه وغيرها. وكنت في كثير من الأحيان أتردد إلى هذه المنطقة وألتقي بالأخ أبو خالد، ونتبادل الآراء حول الحرب في لبنان وتطوراتها المحتملة، وبخاصة أن العملة كان من أبرز الكوادر الفتحاوية ذات التوجهات الوطنية اليسارية.

الحرب تواصلت تحصد البشر وتدمر البنايات. الأسواق القديمة والتاريخية في وسط بيروت تحولت إلى ركام من الأتربة والحجارة، والفنادق الفخمة في الروشة دُمرت ونُهبت محتوياتها، والبنوك في المنطقة نُهبت. وجرى فرز سكاني رهيب، وامتلأت بيروت الغربية بالمهجرين من المناطق المسيحية. المخيمات الفلسطينية الواقعة في المناطق المسيحية، تعرضت لاعتداءات شرسة ومتواصلة من قوات "الجبهة اللبنانية" والمشكلة من الأحزاب المسيحية المارونية المنخرطة في الحرب، مثل حزبي الكتائب والأحرار وغيرهم. مخيما ضبي وجسر الباشا، جري تهجير معظم سكانهما من الفلسطينيين على الرغم من أنهم في غالبيتهم مسيحيون، وقد قُتل وجرح المئات من المهجرين من مخيم ضبي، عندما ألقت الطائرات الإسرائيلية في 6/8/1982 قنبلة فراغية على بناية عكر التي لجأوا إليها بعد تهجيرهم، وأحالتها وساكنيها إلى دمار شامل.

أما مخيم تل الزعتر الذي كان يقطنه ما يزيد على عشرين ألف من الفلسطينيين وما يزيد على 15 ألفا من اللبنانيين، بدا يتعرض لهجمات متتالية من قوات الكتائب اللبنانية وحلفائها بهدف تهجير سكانه. وتعرض بعد الاجتياح السوري للبنان، لحصار دام وعمليات قصف عنيفة متواصلة لمدة 52 يوما. وعندما تم التوصل لاتفاق في 14/8/1976 بواسطة الصليب الأحمر لمغادرة من تبقى من سكانه، دون التعرض لهم بأذى، غدرت بهم قوات الكتائب المارونية التي كانت تحاصرهم أثناء المغادرة، وأعملت فيهم قتلا وتذبيحا، مما فاقم عدد قتلى المخيم إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف. وقد ردت المقاومة الفلسطينية على هذه المجزرة الدامية باقتحام بلدة الدامور الواقعة بين بيروت وصيدا وغالبية سكانها من المسيحيين، وأجبرت أهلها على الرحيل، وأسكنت مكانهم المهجرين من مخيم تل الزعتر، من فلسطينيين ولبنانيين.

وتواصلت الحرب، من بيروت إلى الشمال وإلى جبل لبنان حيث سيطر الدروز، وقاموا بتهجير سكانه من المسيحيين إلى جزين والمناطق المسيحية.

إسرائيل وبعض العرب، وبخاصة سورية دعموا المارونية السياسية. وبحجة منع تقسيم لبنان وإنهاء الحرب الأهلية، اجتاحت القوات السورية في بداية شهر حزيران عام 1976 لبنان بتواطؤ أميركي إسرائيلي، لكن بشرط ألا تتقدم القوات السورية أبعد من نهر الزهراني، لأن المنطقة ما بعد الزهراني، وعلى بعد 40 كيلومترا حتى الحدود اللبنانية-الإسرائيلية منطقة نفوذ إسرائيلية. وبات السوري هو المسيطر والحاكم في لبنان، حتى بعد مجيء ما يسمى قوات الردع العربية عام 1977، التي لم تغير من واقع الأمر شيئا. حيث ظل النظام السوري هو المسيطر والمتحكم في الوضع في لبنان. وفي يوم 16/3/1977، جرى اغتيال كمال جنبلاط، الزعيم الوطني اللبناني ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي والحليف القوي للمقاومة الفلسطينية، على طريق الشوف وعلى مقربة من حاجز للقوات السورية، ما يشير إلى دور أو تواطؤ سوري في عملية اغتياله الجبانة.

إسرائيل التي كان تراقب الوضع، كثفت من غاراتها الجوية على المخيمات الفلسطينية حيث وُجدت، في بيروت وغيرها من المناطق، وعلى قواعد المقاومة في الجنوب والبقاع. وفي شهر آذار عام 1978 قامت بعملية عسكرية واسعة "عملية الليطاني"، حيث اجتاحت بقوات كبيرة جنوب لبنان حتى حدود نهر الليطاني ووصلت إلى مشارف مدينة صور، وقامت بتهجير أكثر من 200 ألف شخص من سكان المنطقة، وقتل ما يزيد على ألف، ودفع مقاتلي المقاومة إلى ما بعد الليطاني، وحولت هذه المنطقة إلى حزام أمني عازل تحت سيطرتها العسكرية المباشرة، واتخذت من ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة المنشق عن الجيش اللبناني، سعد حداد، والمكون من عناصر مسيحية متعاونة مع إسرائيل وانشقت عن الجيش اللبناني، واجهة لسيطرتها وتحكمها في المنطقة,

استمر الوضع على هذا الحال حتى الحرب العدوانية على لبنان في 6/6/1982، التي أدت بعد صمود باسل للمقاومة الفلسطينية وحلفائها من اللبنانيين استمر حوالي ثلاثة أشهر، إلى خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت والجنوب اللبناني، وفقا لاتفاق تم التوصل إليه بواسطة المبعوث الأميركي، فيليب حبيب. لكن شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي واصل حربه العدوانية بعد مغادرة المقاتلين الفلسطينيين بأيام قليلة، واقتحم بيروت وحاصر مخيماتها، ليعقب ذلك قيام قوات الكتائب اللبنانية، بتواطؤ ودعم من القوات الإسرائيلية، بارتكاب أبشع مجزرة ضد الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت يومَي 16 و17/9/1982 ومقتل حوالي ثلاثة آلاف فلسطيني غدرا وهم نيام في بيوتهم.

بالرغم من الغزو الإسرائيلي ومجيء قوات دولية أميركية وفرنسية إلى لبنان، للحد من الحرب الناشبة بين اللبنانيين أنفسهم، كما ادعوا، تواصلت الحرب وعمليات المقاومة المسلحة التي وجهت ضربات قاصمة لكل من القوات الأميركية والقوات الفرنسية، مما أدى إلى انسحاب الطرفين السريع. ولم تسلم القوات الإسرائيلية من الضربات القوية من المقاومة، وجرى إفشال مخططها في تركيب حكومة لبنانية موالية لإسرائيل بزعامة بشير الجميل، الذي جرى اغتياله في 14/9/1982. ولم تتوقف الحرب بين الأطراف اللبنانية إلا بعد سنوات، بموجب اتفاق الطائف الذي تم التوصل إليه برعاية سعودية في 30/9/1989.

لقد كانت هذه السنوات التي عشتها في بيروت، من أكثر السنوات إيلاما ومعاناة وقسوة في حياتي. فليس سهلا أن يعيش الإنسان مع هذه الأعداد الكبيرة من الناس التي تتساقط يوميا قتلى وجرحى، مع الصواريخ والقذائف العمياء التي تتساقط في كل مكان وفي كل ساعة، تحصد النساء والأطفال وهم نيام في بيوتهم. ومع هذه الأعداد الكبيرة من المهجرين. كان التنقل في بيروت خطرا. المذيع اللبناني شريف الأخوي كان يعلن يوميا بين ساعة وأخرى، نشرة عن أحوال أمن الطرق، يسترشد بها المواطنون في تنقلاتهم. وانتشرت في شارع الحمرا والروشة، البسطات التي تبيع شتى أنواع المسروقات من أثاث وغيره المسروقة أو المنهوبة من البيوت التي جرى تهجير أهاليها.

كنت أعود في ساعة متأخرة من الليل إلى شقتي الصغيرة، أسجل في دفتر يومياتي أحداث اليوم، وأكتب على ضوء الشموع مقالاتي، وأفكر في هذه الحرب المجنونة وأتساءل بيني وبين نفسي، هل قدر الشعب الفلسطيني أن يعيش هذه الحروب المتواصلة، حروبا مع أشقائه العرب، وحروبا ضد مغتصبي أرضه والمتآمرين على وجوده، من أجل أن يستعيد حقه في الحياة.