"الوطن" المصرية ترصد بالوثائق والشهادات: كيف صنعت المخابرات البريطانية تنظيم "الإخوان"
تاريخ النشر : 2014-02-24 10:25

مقر الجماعة الحالى فى شمال لندن مقر الجماعة الحالى فى شمال لندن

امد/ القاهرة: «يجب أن تفخر بريطانيا بنجاحها فى توفير ملاذ آمن لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين خلال العقود الثلاثة الماضية. كثير من هؤلاء الإخوان جاءونا هاربين من السجن والتعذيب فى بلدان يحكمها مستبدون فاسدون دعمهم الغرب بقوة حتى جاء الربيع العربى، الآن بعض هؤلاء يعودون إلى بلدانهم الأصلية للمساعدة فى بناء الديمقراطيات الجديدة ويحصنون بلدانهم ضد ديكتاتوريات محتملة فى المستقبل فى العالم العربى».. هذا ما كتبه الرئيس السابق لوحدة الاتصال بالمسلمين فى شرطة لندن، الدكتور روبرت لامبرت، فى مجلة «نيو استيتسمان» فى 5 ديسمبر 2011، كاشفًا عن علاقات لندن «الأزلية» بجماعة الإخوان منذ نشأتها، وإلى عامنا الحالى، الذى يهرع فيه قادة الإخوان بمساعدة من قطر للجوء إليها. ويمكن تتبع علاقة لندن بالجماعة من خلال عدة تواريخ مفصلية، توضح، بجلاء، أن الجماعة صناعة بريطانية 100%؛ ففى عام 1928 نشأت الجماعة فى منطقة الإسماعيلية تحت سمع وبصر سلطات الاحتلال البريطانى، وبدعم من أكبر رموز الاحتلال فى مصر، وهى شركة قناة السويس، التى موّلت الجماعة بـ500 جنيه فى بداياتها. فى عام 1955، وبعد إعلان «عبدالناصر» حظر الجماعة وملاحقة قادتها، اتخذ الإخوان من لندن مقراً لنشاطهم الدولى، ومنها إلى كثير من بلدان العالم.

وفى مطلع السبعينات أفرج «السادات» عن الإخوان وأعادهم للمسرح السياسى بضغط من لندن وواشنطن، بعد أن تلقى «السادات» رسالة عام 1972، عبر رئيس المخابرات السعودية كمال أدهم، فحواها: «إذا أردتَّ دعم الأمريكان فى صراعك مع إسرائيل فعليك بأمرين، أولهما: طرد الخبراء السوفيت، وثانيهما: الإفراج عن الإخوان». وفى عام 2005 ضغطت واشنطن ولندن على «مبارك» لإشراك الإخوان فى الحكم، وهى الضغوط التى أدت لدخول 88 إخوانياً للبرلمان، وبعد إسقاط نظام «مرسى» فى يوليو 2013 وحظر نشاط الجماعة سارع الإخوان بالعودة إلى بلدهم الأم، ليؤسسوا مقراً جديداً فى منطقة «كريكل وود» بشمال لندن؛ حيث يديرون حملتهم ضد الحكومة المصرية ويعيدون رسم مستقبل الجماعة مرة أخرى. ووصفت مجلة فورين بوليسى الأمريكية لندن بأنها «المكان الطبيعى لجماعة الإخوان خارج مصر»؛ فهى بالفعل المقر الرئيسى لموقع «إخوان أون لاين» باللغة الإنجليزية منذ تأسيسه عام 2005، لتقديم الجماعة كتنظيم صديق للغرب. كما أن لندن كانت مقراً لما سمى «مركز المعلومات العالمية» الذى أسسته الجماعة فى التسعينات بهدف توصيل رسالة الجماعة إلى وسائل الإعلام فى العالم، وفيها يقيم المتحدث باسم الإخوان لأوروبا، إبراهيم منير، خلفاً لكمال الهلباوى الذى عاش هناك أيضا لسنوات.

كما أن جمعة أمين، الذى يعالَج هناك، سعى مؤخرا للحصول على اللجوء السياسى. وفيها أقام خيرت الشاطر عدة سنوات فى منتصف الثمانينات، وهناك زامل عصام الحداد، الذى قضى سنوات طويلة فى لندن، قبل أن يعود مستشارا سياسيا للرئيس محمد مرسى، وتولى ابنه جهاد مهمة مخاطبة وسائل الإعلام العالمية، وينشط ابنه الآخر عبدالله فى جناح الإخوان فى لندن، الذى يضم عائلات كثيرة بعضها يمثل الجيلين الثانى والثالث لإخوان استقروا فى لندن منذ عقود.

وأشارت المجلة التى أجرت تحقيقا من داخل هذا المقر إلى هذا المقر الخفى فى دهاليز شمال لندن أصبح إحدى أكثر أذرع الجماعة نشاطا وتنسيقا مع مكاتبها فى مختلف دول العالم فى مصر والولايات المتحدة وأوروبا، فى إصدار بياناتهم وتنظيم احتجاجاتهم والاستعانة بمحامين بريطانيين مشاهير مثل مايكل مانسفيلد لملاحقة النظام المصرى الحالى.

وكان الشيخ يوسف القرضاوى زائرا منتظما لبريطانيا؛ فقد زارها 5 مرات فقط فى الفترة بين 1995 و1997. وعندما انتقد البعض دعوة عمدة لندن كين ليفنجستون لـ«القرضاوى» عام 2004 رد مقبول على، مستشار الشئون الخارجية للشئون الإسلامية فى الخارجية البريطانية، بأن «زيارة القرضاوى يمكن أن تكون مفيدة فى ضوء نفوذه، فيما يتعلق بأهداف سياساتنا الخارجية»، ويسعى الآن عدد كبير من قادة الإخوان وأصدقائهم ومنهم عضو بمكتب الإرشاد محمود حسين إلى اللجوء للندن بمساعدة من الدوحة التى تواجه ضغوطا عربية لتسليمهم لمصر.

تاريخ بريطانيا فى استغلال الجماعات الإسلامية قديم ويتجاوز 100 عام؛ ففى ظل الاحتلال البريطانى وتحت رعايته نشأت أكبر حركتين للإحياء الإسلامى السنى، هما: «حركة ديوباندى» فى شمال الهند عام 1866 (التى تأثر بها أبوالأعلى المودودى مؤسس الجماعة الإسلامية فى باكستان الذى ألهم الأفكار التكفيرية لسيد قطب لاحقا)، والإخوان المسلمون فى عام 1928.

قبل أن نشرع فى سرد تاريخ لندن فى دعم الجماعة، يجب أن نوضح أن علاقة الجماعة بلندن أو غيرها من العواصم الغربية لا تعنى أن الإخوان كانوا عملاء، بمعنى أنهم تحالفوا عن قناعة أو تحت إغراء المال ضد بلدانهم. الأدق أنه تم التلاعب بهم واستغلالهم طوال عقود لتحقيق تم مآرب لندن، سواء بعلم الإخوان، لاتفاق المصالح، أو دون علمهم.

ويلخص المؤرخ لديفيج فروميكين موقف بريطانيا من الجماعات الإسلامية المختلفة فى كتابه الشهير «السلام الذى يقضى على كل سلام» بأن «القادة البريطانيين كانوا يعتقدون دوما أن الإسلام يمكن التلاعب به واستغلاله بشراء قياداته الدينية أو الاحتيال عليهم».

ولأسباب كثيرة، كانت بريطانيا تجد ضالتها فى الإسلاميين، وأحد هذه الأسباب تركيز بعض هذه الجماعات، وعلى رأسها جماعة الإخوان، على العمل بالسياسة والخبرة المتراكمة للساسة الإنجليز فى فهم هذه الجماعات؛ فبريطانيا تتمتع منذ نهاية القرن الـ18 بنفوذ كبير على العالم الإسلامى؛ إذ شملت الإمبراطورية البريطانية أكثر من نصف شعوب العالم الإسلامى. ووفقا للمؤرخ المتخصص فى علاقة الإسلام بالإمبراطورية البريطانية فرانسيس روبنسون، فإن «بريطانيا سعت دوما لدعم سلطة إسلامية تقليدية كحصن لاستمرار سلطتها، وكثيرا ما سمحت باستمرار الشريعة والحكم الأصولى المتشدد، وهذا يساعد فى تفسير تقاعس المسلمين فى كثير من البلاد الإسلامية التى كان البريطانيون يحكمونها عن الاستجابة لدعوة الإمبراطور العثمانى للجهاد ضد بريطانيا، فى بداية الحرب العالمية الأولى».

ويضرب مؤلف كتاب «التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع المتطرفين الإسلاميين»، مارك كورتيس، عدة أمثلة على رغبة وقدرة بريطانيا على تطويع الإسلاميين والتعامل معهم، أولها: «خلافة سوكوتو» الإسلامية؛ ففى أوائل القرن الـ19 قام الشيخ عثمان بن فودى برفع لواء الجهاد لتجديد الإسلام، وتمكّن من توحيد إمارات الهوسا تحت سلطة مركزية واحدة ممثلة فى خلافة سوكوتو (1802-1903)، التى تأسست فى شمال نيجيريا وضمت 30 إمارة.

وفى ظل هذه الخلافة، أصبح الإسلام هو القوة السياسية العليا فى نيجيريا وطُبِّقت الشريعة فى أنحاء السلطنة. وقررت بريطانيا سحق هذا السلطان المتمرد بمدافعها، لكن بعد هزيمته بصورة وحشية عام 1902 فضّل الإنجليز الإبقاء على سلطان سوكوتو. وتحولت هذه الإمارة إلى نموذج لـ«الحكم غير المباشر»، كررته بريطانيا لاحقا فى مستعمرات أخرى.

وفى السودان، هزم البريطانيون الحركة المهدية عام 1898، لكن بحلول عشرينات القرن الماضى أصبحت بريطانيا تعتبر زعيمهم السيد عبدالرحمن «حليفاً يمكن أن يكفل لها ولاء سودانيين كثيرين».

طموح جماعة الإخوان السياسى كان على ما يبدو أكثر ما أغرى الإنجليز بالاهتمام بتنظيمهم. وفى تحليل مطول بعنوان «الإخوان.. وجوه كثيرة فى خدمة بلاط صاحبة الجلالة البريطانية»، يقرر الباحث الباكستانى رام تنيور ميترا أن المخابرات البريطانية اخترقت جماعة الإخوان منذ أيامها الأولى واستفادت منها، حتى عندما أرادت الجماعة دعم النازيين الألمان فى حربهم ضد بريطانيا، فبعد وقت قصير من تأسيس الجماعة، ظهرت على الساحة عميلة الاستخبارات البريطانية فريا ستارك، التى اكتسبت شهرة كبيرة فى وقت لاحق كمستشرقة كارهة لليهود ومعارضة للسياسات الاستعمارية الإنجليزية. لكن الحقيقة أن «ستارك» تعاونت مع المخابرات البريطانية لمجابهة النفوذ النازى فى عدن والقاهرة وبغداد، وأثناء وجودها فى القاهرة أنشأت جمعية «إخوان الحرية» لتتبع أنشطة الألمان فى شمال أفريقيا، وسرعان ما أجرت اتصالات مع «الإخوان» وأصبحت مصدراً لمعلومات لندن عن العديد من الحركات السياسية المختلفة التى ظهرت فى مصر، بمساعدة «البنا» وجماعته. وبعبارة أخرى «كانت جماعة الإخوان منذ بدايتها (عصفورة) لصالح المخابرات البريطانية»، على حد وصف الباحث.

ووفقاً للمدعى العام السابق فى وزارة الخارجية الأمريكية جون لوفتوس، الذى كتب كثيرا عن علاقة الإخوان بالنازيين، فقد «كان (مستر البنا) معجباً بشدة بكاتب نمساوى شاب يدعى أدولف هتلر، وكانت رسائله إلى هتلر تكشف عن دعم كبير لأفكاره. وعندما جاء هتلر إلى السلطة فى الثلاثينات من القرن العشرين، طلب من المخابرات النازية الاتصال بالبنا لمعرفة ما إذا كان يمكن له العمل معه». وازدهر التحالف السياسى والعسكرى بين الإخوان وألمانيا النازية، وأسفر عن زيارات رسمية للجماعة قام بها سفراء ألمانيا «الفعليون» ومشاريع مشتركة علنية وسرية بين الطرفين. وساعد مؤسسها حسن البنا فى توزيع الترجمات العربية من كتاب هتلر «كفاحى» وكتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، وبالتالى ساعد فى تأجيج العداء المتزايد تجاه اليهود ومؤيديهم الغربيين. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، عمل «البنا» على دعم تحالفاته مع هتلر وموسولينى، فأرسل لهما برسائل مع مبعوثين، وحثهما على مساعدته فى نضاله ضد البريطانيين والنظام الغربى للملك فاروق فى مصر. وعمل بالفعل جهاز المخابرات الخاص بالجماعة «المخترق من قِبَل المخابرات البريطانية» على إنشاء شبكة تجسس لألمانيا النازية فى جميع أنحاء العالم العربى، وجمع المعلومات عن أهم رموز النظام فى القاهرة وتحركات الجيش البريطانى، وتقديم هذه المعلومات وغيرها للألمان فى مقابل علاقات أوثق.

ووفقا لـ«لوفتوس»، فإن مفتى القدس، الحاج محمد أفندى أمين الحسينى، ممثل جماعة الإخوان فى فلسطين، لعب دورا حيويا فى الاتصال بهتلر. لكن كل ذلك كان يحدث تحت سمع وبصر المخابرات البريطانية التى كانت تسيطر على كل من فلسطين ومصر، بل إن تعيين «الحسينى» مفتيا جاء بقرار مباشر بين عامى 1917-1948 من البريطانيين رغم احتجاجات قوية من معظم العرب الفلسطينيين، وكذلك من المستوطنين اليهود على تعيينه.

ورغم الصلات القوية بين الحسينى والنازيين، فإن الإنجليز والصهيونيين عملوا على تصعيده، إذ لم يكن خفيا على المندوب السامى البريطانى فى فلسطين، السير هيربرت صموئيل -وهو يهودى صهيونى- حقيقة ميول «الحسينى» واتصالاته مع النازيين وكذلك دوره فى النضال ضد اليهود، وتحديدا فى مذبحة اليهود المعروفة بـ«عيد الفصح الدامى» فى القدس فى عام 1920. وبعد محاولة فاشلة لإطلاق انتفاضة مؤيدة للنازية فى العراق، هرب المفتى إلى أوروبا لحشد قوات عربية لخوض الحرب فى صفوف الرايخ الثالث. لكن الملفت للنظر وفقا لـ«لوفتوس» فإنه «على الرغم من كون الحسينى يعد مجرم حرب (من جانب بريطانيا) فإنها لم تلاحقه فى مصر التى جاء إليها بعد ذلك».

ووفقا لـ«مارك كورتيس» فى كتابه «التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع المتطرفين الإسلاميين». الذى اعتمد على الوثائق السرية الرسمية التى أفرجت عنها الحكومة البريطانية فقد حدث أول اتصال مباشر ومعلن بين مسئولين بريطانيين والإخوان فى عام 1941. بعده مباشرة، بدأت جماعة الإخوان مرحلتها التالية: إنشاء «الجهاز السرى». وبداية من عام 1941-1942، أسس الإخوان ذراعا استخباراتية، تحولت بسرعة إلى منظمة شبه عسكرية. ويشير «كورتيس» فى كتابه إلى أنه بحلول عام 1942، بدأت بريطانيا على وجه اليقين فى تمويل الإخوان. فى 18 مايو 1942، عقد مسئولو السفارة البريطانية اجتماعا مع وزير المالية المصرى أمين عثمان باشا، نوقشت فيه العلاقات مع الإخوان واتفق على أن «حكومة الوفد ستدفع سرا مساعدات مالية لجماعة الإخوان، بالإضافة إلى مساعدات أخرى للجماعة ستقدمها السفارة البريطانية، على أن تقوم الحكومة المصرية بزرع عملاء لها داخل الجماعة لمراقبة أنشطة الجماعة عن كثب وإطلاع الجانب البريطانى على هذه المعلومات.. ونحن، من جانبنا، سنطلع الحكومة على أى معلومات (تتعلق بالجماعة) نحصل عليها من المصادر البريطانية».

حسن الهضيبى «على اليمين» مع أحد ضيوف

بعد هزيمة النازيين واغتيال البنا فى عام 1949، ردا على اغتيال الجماعة لرئيس الوزراء المصرى فهمى النقراشى، ظلت علاقة الجماعة قائمة بقوة مع بريطانيا. فى أكتوبر عام 1951، أعلن المرشد الجديد حسن الهضيبى معارضته للعنف الذى تورطت فيه الجماعة بين عامى 1945و1949. لكن حدث أن دعا الإخوان فى عام 1951، إلى الجهاد ضد البريطانيين واستهداف ممتلكاتهم. ولكن هذه الدعوة كانت «مسرحية»، أو كما وصفها «رام تنيور ميترا» مثل «عروض السيرك للكلب والحصان». إذ ذكر تقرير للسفارة البريطانية من القاهرة فى أواخر 1951 أورده مارك كورتيس فى كتابه: «فإن جماعة الإخوان تمتلك منظمة إرهابية منذ مدة طويلة، ولم تفلح أبدا جهود الأمن فى القضاء عليها. لكن التقرير قلل من أهمية نوايا الإخوان فى استهداف الإنجليز»، مشيراً إلى أنهم «يخططون لإرسال إرهابيين إلى منطقة القناة، ولكنهم لا ينوون حقا قوات جلالة الملكة، أى القوات البريطانية».

وأشار تقرير آخر إلى أنه على الرغم من تورط الإخوان فى بعض الهجمات ضد البريطانيين، فإن هذا يرجع إلى تصرفات فردية أو «عدم انضباط»، ويتعارض مع سياسات قادة التنظيم. وتظهر الملفات السرية، التى أصبحت متاحة فيما بعد فى أرشيف الوثائق البريطانى، أن المسئولين البريطانيين حاولوا ترتيب لقاء مباشر مع حسن الهضيبى فى ديسمبر عام 1951. وعقدوا بالفعل عدة اجتماعات مع أحد مستشاريه، ويُدعى «فرخانى بك»، الذى لم تتوافر عنه معلومات تذكر، ولم يكن -على ما يبدو- عضوا فى جماعة الإخوان. وهناك مؤشرات عديدة فى الملفات السرية تؤكد أن قادة الإخوان، على الرغم من دعواتهم فى العلن لشن هجمات على البريطانيين، كانوا مستعدين تماما للقائهم سرا. وقبل هذا الوقت، ووفقا لمكاتبات وزارة الخارجية البريطانية، كانت الحكومة المصرية قد عرضت «رشاوى هائلة» لإغراء جماعة الإخوان بعدم التورط فى مزيد من العنف ضد النظام.

فى أوائل عام 1953 كان عبدالناصر مشغولا بإتمام الجلاء البريطانى من مصر مع اقتراب نهاية اتفاقية 1936، لكنه فوجئ بالجانب البريطانى يعقد اجتماعات مع الهضيبى. ولا يعرف أحد ما دار فى هذه الاجتماعات على وجه الدقة، لكن المؤرخ الشهير «ريتشارد ميتشل» كتب فيما بعد «أن الإخوان دخلوا فى هذه المفاوضات بطلب من البريطانيين ما أثار صعوبات لمفاوضى الحكومة المصرية، موفرة للجانب البريطانى أداة للتأثير على حكومة الثورة». وأدانت فى حينها حكومة عبدالناصر هذه الاجتماعات باعتبارها «مفاوضات سرية من وراء ظهر الثورة»، واتهم عبدالناصر الإنجليز بالتآمر مع الإخوان، واتهم الهضيبى بأنه قبل شروطا للجلاء تغل من أيدى الحكومة المصرية.

ووفقا لمذكرة اجتماع للسفارة البريطانية فى القاهرة بتاريخ 7 فبراير 1953 فإن قياديا إخوانيا يدعى «أبورقيق» قال للمستشار الشرفى للسفارة البريطانية «تريفوز إيفانز» إنه «إذا بحثت مصر فى كل أرجاء العالم عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا».. وفسرت السفارة هذه العبارة على وجود مجموعة من قادة الإخوان مستعدين للتعاون مع بريطانيا، وأضاف «إيفانز» فى برقية أرسلت بتاريخ 19 فبراير 1953 للخارجية البريطانية: «هذا التصريح وإن كان يدعو للدهشة فقد يفسره تزايد الطبقة الوسطى فى الجماعة مقارنة بالقيادة الشعبية فى الأساس فى أيام حسن البنا».

فى 26 يوليو 1956، أقدم عبدالناصر على ما كان ينبغى عليه القيام به قبل عقود: طرد المستعمرين البريطانيين من منطقة قناة السويس. وفى خطاب هادئ، وصفته لندن بـ«الهستيرى» فى 26 يوليو فى الإسكندرية، أعلن عبدالناصر عن تأميم قناة السويس، الذى لم يكن من الناحية القانونية البحتة أكثر من قرار لشراء حصص المساهمين الأجانب.

ويروى «ستيفن دورل» تفاصيل رد الفعل البريطانى على هذه الخطوة فى كتابه «داخل العالم السرى لاستخبارات صاحبة الجلالة» على النحو التالى: (فى تلك الليلة فى «داوننج ستريت» انفجر رئيس الوزراء البريطانى «أنتونى إيدن» غضبا واستدعى مجلس الحرب الذى ظل منعقدا حتى الرابعة فجرا. وفى هذا الاجتماع صرخ «إيدن» فى زملائه «لا يجب أن نسمح لناصر أن يضع يديه على قصبتنا الهوائية.. يجب أن ندمر هذا الـ«موسولينى المسلم». وأضاف إيدن: «أريد إزالته ولا يهمنى ما يمكن أن يترتب على ذلك من فوضى فى مصر. وكان رئيس الوزراء السابق ونستون تشرشل حاضرا فى هذا الاجتماع، فزاد النار اشتعالا حين قال يجب أن تخبر المصريين: «إذا أزعجونا مجددا بوقاحتهم سنطلق اليهود عليهم ليعيدوهم إلى الحضيض، والذى ما كان ينبغى لهم أن يخرجوا منها أبدا»).

وفى مكالمة أخرى غاضبة من بطء وتيرة الحملة ضد عبدالناصر، قال إيدن لأحد مساعديه -وفقا للمؤرخ «إيفلين شاك برا» فى كتابه «أصل أزمة السويس، يوميات وزارة الخارجية بين عامى 1951 و1956» الذى صدر فى عام1986: «ما كل هذا الهراء الذى أرسلتموه إلىّ؟ ما كل هذا الكلام الفارغ عن عزل ناصر أو «تحييده» كما تسمونه؟ أريد تدميره. ألا تفهمون؟ أريده أن يقتل». ولم يجد البريطانيون سوى حلفائهم الإخوان لتنفيذ هذه المهمة. وكانت محاولة اغتيال عبدالناصر فى 26 أكتوبر 1954 بداية لتصفية جماعة الإخوان فى مصر، لكن هذه التصفية كانت «انتكاسة للقوى الغربية التى أرادت التخلص من ناصر أو قتله».

ووفقا للباحث الباكستانى «ميترا» حظر الجماعة واعتقال ناصر لقادتها لم يقض عليها وأدى إلى انتشارها فى دول العالم، ومن تحت عباءتها خرجت جماعات أكثر تشددا بعد أن انتقل معظم الإخوان إلى المملكة العربية السعودية، وسوريا، وفى بعض الدول الغربية مثل ألمانيا الغربية. لكن لم تسهم دولة أكثر من بريطانيا فى احتضان هذا الجماعة بكل فروعها ومسمياتها. وحماية بريطانية لقادة الإرهاب الإسلامى بدأت منذ سنوات، لكن يصعب تحديد تاريخ محدد لبداية هذه العلاقة.

ويرصد «ميترا» 3 أسباب لشعبية الجماعة وبقائها رغم كل محاولات عبدالناصر وغيره لقمعها، أولاها أن الشعب المصرى لم يكن على علم تام بالقوى الحقيقة التى تتحكم فى جماعة الإخوان، ثايتها خطاب الجماعة الذى يبدو معارضا حقيقيا للقوى الاستعمارية الغربية والاحتلال الإسرائيلى لفلسطين. وثالثا اشتداد الحرب الباردة التى عززت من قيمة الجماعة بالنسبة للدول الغربية فى حربها ضد الاتحاد السوفيتى، فقد كان قسم من صناع القرار الغربى «يعتبر الإخوان السم الذى يمكن أن يقتل الشيوعيين». وقد اتضح هذا فى الثمانينات، عندما غزا الجيش السوفيتى أفغانستان، فأرسل الغرب (مدعوما من السعوديين وباقى دول الخليج) مجاهديه يلوحون بأعلام الجهاد الإسلامى. هؤلاء كانوا أتباع الإخوان، الذين عملوا تحت هياكل تنظيمية مختلفة.

ويعتقد كثير من المحللين والباحثين الغربيين أن الساسة البريطانيين كانوا يكرهون الإخوان ويحتقرونهم، بل ويعتبرونهم خطرا عليهم، لكن يمكن التلاعب بهم والاستفادة من تطرفهم مرحليا، ويوضح هذا الموقف مثلا رسالة للسفارة البريطانية فى الأردن فى أوائل عام 1957 تقول إن نشاط الإخوان «مثير للاضطرابات» وإن مطبوعاتهم الرسمية تعتبر البريطانيين والمسيحيين فى الأردن الهدفين الرئيسيين للمنظمة. ولاحظ سفير بريطانيا فى الأردن «تشارلز جونستون»، فى تقرير قدمه لوزارة الخارجية فى فبراير 1957 «أن تنظيم الإخوان فى الأردن تقوده مجموعة من المتعصبين المحليين ذوى العقلية الضيقة وأتباعهم من الأميين فى معظمهم»، لكن لديها ميزة أنها «تعارض أحزاب اليسار القوية، وأنها مثلما تهاجم البريطانيين والأمريكيين فإنها تهاجم الشيوعيين».

وبالفعل أثبت الإخوان أهميتهم لبريطانيا عندما ثارت أزمة بين حليفهم وأهم رجال الغرب فى المنطقة، الملك حسين، ورئيس وزرائه، سليمان النابلسى، الفائز فى أول انتخابات ديمقراطية فى الأردن فى 1957. فى هذا الخلاف وقف الإخوان مع الأمريكان والإنجليز والسعوديين ضد النابلسى الذى كان يرغب فى الاصطفاف مع سوريا وعبدالناصر لدحر النفوذ الغربى فى الأردن. ووفقا لمذكرة كتبها السفير البريطانى، تشارلز جونستون، فى عمان فإن «الإخوان فى الأردن ما زالوا على ولائهم لجلالته»، ورغم اعتبار كل الأحزاب السياسية غير قانونية سمح الملك حسين بمواصلة عملهم ظاهريا بسبب رسالتهم الدينية، لكن فى واقع الأمر بسبب أن الملك وحلفاءه اعتبروهم الأقدر على مواجهة اليساريين والعلمانيين، وناشد دعاة الإخوان أتباعهم مساعدة السلطات فى البحث عن مؤيدى الحكومة من الشيوعيين والقبض عليهم، وقيل إن الملك زود الإخوان بالسلاح لإرهاب المعارضة اليسارية فى مدينة أريحا، ومرة أخرى كتب جونستون: «إن الإخوان كانوا مفيدين للملك حسين فى أبريل باعتبارهم يمثلون منظمة الذراع القوية التى يمكن عند الضرورة إطلاقها على متطرفى الجناح اليسارى فى الشوارع».

هتلر

وتوظيف الإسلاميين لضرب الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان قصة معروفة الآن. لكن الذى لا يعرفه الكثيرون هو دور لندن فى توظيف هذه الجماعات، ومنها الإخوان. فعلى سبيل المثال المخابرات البريطانية هى من أطلقت «راديو كابول الحرة» فور الغزو السوفيتى لأفغانستان عام 1979. ومن أشرف عليه هو اللورد «نيكولاس بيت هيل»، مسئول مخابرات جهاز MI6 عن الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتى. كما أن هذا اللورد هو من أسس أيضاً ما يعرف بـ«لجنة أفغانستان الحرة» فى عام 1981 فى أعقاب زيارة قامت بها رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر و«بيت هيل» إلى الولايات المتحدة، وكان الهدف منها دعم المجاهدين. وقدمت الأموال من خلال هذه اللجنة لأجنحة «بيشاور السبعة» التى ضمت كل المجاهدين. وكان لأسامة بن لادن مكتب فى لندن يدير من خلاله أنشطة الجهاد من خلال ما عرف بلجنة الجهاد وقتها والتى ضمت الجماعة الإسلامية فى مصر، وتنظيم الجهاد فى اليمن، وجماعة الحديث الباكستانية، وجماعة الأنصار اللبنانية، والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، ومجموعة بيت الإمام فى الأردن، والجماعة الإسلامية فى الجزائر.

ولم يفقد الإخوان أهميتهم للندن فى فترة حكم الرئيس مبارك، فقد حرصوا دوماً على الاتصال بقادة الجماعة، خصوصاً بعدما بدأ يتصاعد القلق على مصير نظام «مبارك». ويوضح خطاب أرسله السفير السير ديريك بلامبلى، السفير البريطانى فى القاهرة، إلى السفير السابق فى القاهرة جون سويرز، بتاريخ يونيو 2005 (تسرب إلى مجلة نيوستيتسمان البريطانية، التى نشرته فى 20 فبراير 2006)، أن الهدف من الاتصال بالإخوان فى مصر مفيدة، لأننا «قد نحصل منهم على معلومات»، وهو ما يتسق مع استراتيجية لندن التى تقضى بتجنيد المتطرفين ليعملوا مرشدين لها. وأضاف: «إن مصلحة بريطانيا فى مصر تقضى بالضغط على نظام مبارك للنهوض بالإصلاح السياسى.. وإن الطريق لتحقيق هذه الغاية وعر وينطوى بلا شك على ممارسة الإخوان لقدر أكبر من الضغط على الشارع»، وهذا يعنى بوضوح -كما يقول مارك كورتيس- أن لندن تعتبر الإخوان أداة للتأثير لإحداث تغيير داخلى. ولم يقترح السفير دعم الإخوان بصورة مباشرة حتى لا تنسف لندن علاقتها بنظام «مبارك» تماماً، لكنه قال نصاً: «إذا قُمع الإخوان بشكل عدوانى، فإن الأمر يقتضى منا رداً».

وهناك دلائل قاطعة على أن دعم جماعة الإخوان بعد ثورات الربيع العربى لم يكن سياسة عفوية، بل قراراً استراتيجياً اتخذته لندن منذ عدة سنوات سبقت الربيع العربى، ففى أغسطس 2006 ألقى رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير خطاباً رسم فيه السياسة الخارجية لبريطانيا فى الشرق الأوسط، أمام مجلس الشئون العالمية فى لوس أنجلوس: «هناك قوس للتطرف يمتد حالياً عبر الشرق الأوسط، وتقضى هزيمته بإقامة تحالف للاعتدال يرسم مستقبلاً يمكن فيه للمسلمين واليهود والمسيحيين العرب والغربيين أن يحققوا التقدم»، وقال بشكل أكثر وضوحاً: «إن الشرق الأوسط يشهد صراعاً جوهرياً بين الإسلام الرجعى والإسلام المعتدل والسائد».

وفى نفس العام، نشرت مجلة «نيوا ستيتسمان» تقريراً كشف عن أن بريطانيا تخطط للانخراط مع جماعة الإخوان (التى تمثل لهم الإسلام المعتدل)، وأشارت المجلة البريطانية الرصينة أن مسئولاً بارزاً فى وزارة الخارجية عن الشئون الإسرائيلية والعربية وشمال أفريقيا، قدم مذكرة اقترح فيها على مسئولين كبار فى مختلف دوائر الحكومة البريطانية أن تنخرط مع الإسلام السياسى وتحديداً جماعة الإخوان فى مصر، وأوصى أن تحذو الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى حذو لندن. وكشفت «نيوا ستيتسمان» عن وجود دراسة أعدها جهاز المخابرات البريطانى MI6 أكد فيها للحكومة البريطانية أن «جماعة الإخوان لم تتورط فى عنف مباشر، على الرغم من أن بعض التبرعات ربما تجد طريقها لحركة حماس وجماعات إرهابية أخرى».

وتسربت لمجلة «نيوا ستيتسمان» أيضاً مذكرة مشتركة بين وزارتى الداخلية والخارجية البريطانيتين فى يوليو 2004 حول «العمل مع الجالية الإسلامية فى بريطانيا»، رأت أن من يقود الحركة الإصلاحية الدينية فى العالم الإسلامى هما جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية (الباكستانية)، وكلاهما يريد أن يتمسك بصحيح الدين، لكنهما «حركتان براجماتيتان»، ويمكن التعاون معهما، كما حدث بالفعل طوال العقود الماضية. وقد أوضح أحد معدى هذه المذكرة، وهو «أنجوس مكى»، من إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى وزارة الخارجية، أن معظم الحركات الإسلامية «حذرة من دوافع الغرب، لكنها مستعدة للتعامل معه»، وهى على عكس باقى القوى المعارضة «حسنة التنظيم»، كما أنها أقل فساداً من الأغلبية فى المجتمعات التى تعمل فيها، وبالتالى يجب التفكير فى توجيه موارد المعونة من خلالها.

وكانت هناك دراسة أهم كتبها «باسيلى إيستوود»، سفير بريطانيا السابق فى سوريا، و«رتشارد ميرفى»، مساعد وزير الخارجية فى إدارة الرئيس الأمريكى رونالد ريجان، بعنوان «يجب أن نتحدث إلى الإسلاميين السياسيين فى الشرق الأوسط وليس فى العراق وحده»، وأشارت هذه الدراسة، التى تُدُوولت ودرست بعناية فى دوائر صنع القرار الغربى، إلى «أنهما طوال عام كامل كانا على اتصال مطول مع ممثلين للإخوان وحماس وحزب الله، وانتهيا إلى وجود فرق بين الإسلاميين الراغبين فى التغيير بدون استخدام العنف وبين الجهاديين المتطرفين الذين يحملون السلاح»، وبعد ذلك قال المسئولان: «ينبغى على مجموعة الثمانية حالياً وربما بصورة غير مباشرة أن تبدأ فى الحوار مع هذه الحركات وأن تشركها فى مسيرة المجتمع المدنى فى مبادرة الشرق الأوسط الأكبر». وبعد كتابة هذه الدراسة بخمسة أشهر فاز الإخوان -بعد ضغط من واشنطن ولندن على الرئيس مبارك- فى نوفمبر 2005 بـ88 مقعداً فى الانتخابات البرلمانية.

ويعتقد «كورتيس» أن ما فعلته بريطانيا مع الإخوان كان هدفه أيضاً «تأمين نفسها فى حالة تغيير نظام مبارك أو سقوطه أو اندلاع ثورة»، ويضيف أن «بريطانيا لم تكن مشغولة إطلاقاً بمسألة الديمقراطية، ليس فقط بسبب تاريخ بريطانيا الطويل فى قمع الحكومات والحركات الشعبية فى المنطقة، بل أيضاً لأن هذه الحركات غالباً ما تكون أكثر عداء للغرب»، ويضيف أن «بريطانيا ما زالت تعتبر الإخوان قوة ردع ومصداً للقوى العلمانية والقومية واليسارية، ومنها حركة كفاية التى ظهرت فى عام 2004». وحتى أوائل 2010 لم يرد أى ذكر لـ«كفاية» فى البرلمان أو على موقع وزارة الخارجية البريطانية، وذلك دليل على بعد هذه الحركة عن شاشة رادار السياسة البريطانية، وربما يعتقدون أن الإخوان سد منيع أمام أى تغيير وطنى أكثر شعبية قد يمثل خطراً على مصالحهم.

والواقع أن دعم لندن لم يقتصر على جماعة الإخوان، بل امتد ليشمل كل أطياف الجماعات الأصولية. وكان الفرنسيون هم أول من أطلقوا على العاصمة البريطانية «لندنستان» فى التسعينات، بسبب عدد الجماعات المتطرفة التى تؤويها لندن تحت حماية حكومتها وأجهزة مخابراتها. فى هذه الفترة بدأت أجهزة الأمن الفرنسية تشعر بالقلق والإحباط جراء وجود متزايد للإسلاميين الجزائريين، الذين استخدموا لندن كقاعدة خلفية لشن حملة إرهابية ضد فرنسا. كانوا فى الغالب ينتمون لـ«الجماعة الإسلامية المسلحة»، التى اغتالت الرئيس الجزائرى «محمد بوضياف» فى يونيو 1992، وكانت هذه الجماعة تتلقى أوامرها من قادتها، من أمثال «أبومصعب» والشيخ أبوقتيبة، الذى منحته لندن اللجوء السياسى فى عام 1992 بعد صدور حكم بالإعدام عليه فى الجزائر لإدانته فى تفجير بمطار الجزائر، هذه القيادات كانت تعمل من خلال ما يعرف باسم «جماعة الأنصار» فى لندن.

وهناك أيضاً زعيم الجماعة الإسلامية المسلحة ومقرها لندن «أبوفارس»، الذى أشرف على عمليات ضد فرنسا. هذا الرجل منحته لندن حق اللجوء إلى بريطانيا فى عام 1992، بعد أن كان محكوماً عليه بالإعدام فى الجزائر لاعترافه بالمسئولية عن نفس العملية التى قتل فيها 9 أشخاص وأصيب 125 فى مطار العاصمة الجزائر، وكان متهما أيضاً بتفجير ثلاث محطات لمترو أنفاق باريس وسوق مفتوحة، وسعت فرنسا لمطالبة لندن بتسلم بعض الإرهابيين لصلتهم بتفجيرات فى باريس خلال الثمانينات، لكن السلطات البريطانية رفضت وأصرت على حقهم فى اللجوء، شريطة ألا يكونوا قد ارتكبوا أى جرائم على أراضيها.

ومن بين أشهر قيادات الإخوان الذين احتضنتهم لندن (التى تنوعت مستويات احتضانها؛ ما بين منح اللجوء السياسى فى بعض الحالات، والحق فى الإقامة إلى أجل غير مسمى، أو منح الجنسية).. استقبلت بريطانيا رئيس حزب النهضة التونسى «راشد الغنوشى» بعد مغادرته تونس، بعد استكماله حكماً بالسجن لإدانته من قبل حكومة «زين العابدين» فى جرائم إرهابية فى عام 1989. وأقام «الغنوشى» هناك 22 عاماً، ليعود لحكم تونس من خلال حزب النهضة عقب سقوط الرئيس زين العابدين بن على فى عام 2011.

وكانت لندن ملاذاً آمناً لعدد من أعضاء «الجماعة الليبية المقاتلة»، التى استعانت بأعضائها فى تصفية معمر القذافى فى عام 2011. ووفرت بريطانيا للسورى عمر بكرى فوستك (المعروف بعمر بكرى محمد)، الذى أسس مع فريد قاسم فرعاً جديداً لحزب التحرير فى عام 1986ملاذاً. عمر بكرى كان قد وصل إلى بريطانيا بعد طرده من المملكة العربية السعودية التى لجأ إليها هرباً من ملاحقات الرئيس الراحل حافظ الأسد، لكنه انخرط فى المملكة العربية السعودية فى مجموعة متشددة تسمى جماعة «المهاجرون». والآن حزب التحرير متورط فى عمليات إرهابية فى آسيا الوسطى، وباكستان، وشمال لبنان.

وفى التسعينات، اشتكت السلطات المصرية مراراً من إصرار لندن على توفير ملاذ آمن لعدد كبير من الجماعات المتطرفة، ومنهم قادة الجماعة الإسلامية الذين نفذوا مذبحة الأقصر الشهيرة، لكن السلطات البريطانية رفضت طلب المصريين بشكل متكرر. وفى 14 ديسمبر 1997، استدعى وزير الخارجية عمرو موسى السفير البريطانى لدى مصر «ديفيد بولترويك»، وسلمه مذكرة رسمية يطالب فيها الحكومة البريطانية بـ«التوقف عن توفير ملاذ آمن للإرهابيين، والتعاون مع مصر فى مكافحة الإرهاب». وفى مقابلة مع صحيفة التايمز اللندنية فى نفس اليوم، دعا «موسى» بريطانيا لـ«وقف تدفق الأموال من المتطرفين الإسلاميين فى لندن على الجماعات الإرهابية فى مصر، وحظر خطباء المساجد البريطانية الذين يدعون لاغتيال قادة أجانب»، وأضافت الصحيفة أن «موسى كان غاضباً جداً من تقارير تؤكد أن الجماعات المتطرفة التى تؤويها لندن أرسلت 2.5 مليون إسترلينى إلى الجماعة الإسلامية فى مصر».

واشتكى السعوديون عدة مرات إلى السلطات البريطانية من استضافتهم للمعارض محمد المسعرى، الذى يدعو لإسقاط آل سعود، وطالبوا بتسليمه إليهم بإصرار، وكان يقال إنه على صلة بأسامة بن لادن، الذى كان لديه مقر بحى ويمبلى الراقى بلندن. ووفقا لنفس المصادر، فإن لجنة «المشورة»، التى يديرها خالد فواز، كانت تابعة لـ«بن لادن»، وتتخذ من لندن مقراً لها.

طبعاً لم تكن هذه الاستضافة بلا مقابل، وقد توصل «مارك كورتيس»، بعد بحث طويل فى كتابه، إلى مآرب لندن من استضافة هذه الجماعات؛ أولها أن «أجهزة الاستخبارات البريطانية كانت مقتنعة بأن استضافة تشكيلة من المجموعات المتشددة فى لندن مفيدة لتعزيز سياسة فرِّق تسد القديمة للندن، فالأنشطة الإرهابية يمكنها أن تثير التوترات وتضع ضغوطاً على الدول بتقويض قياداتها أو تفريق الدول عن بعضها، وهى وظائف اعتبرتها لندن ضرورية فى أوقات معينة فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويشير «كورتيس» إلى عدة أمثلة، أشهرها الداعية أبوحمزة المصرى، الذى رفضت بريطانيا تسليمه للمصريين، ووفرت له كل الدعم والحماية على أرضها، فى مقابل أن تحصل منه على معلومات عن أنشطة الجماعات المتطرفة التى ترتاد مسجد «فنسيرى بارك» فى لندن، والذى كان «أبوحمزة» إماماً له لسنوات.

وثانيها: أن لندن اعتبرت وجود قادة هذه الجماعات على أراضيها «بوليصة تأمين» فى حال سقوط الأنظمة الهشة فى المنطقة، كما حدث بعد الربيع العربى. ويضرب مارك كورتيس مثالاً باستضافة لندن لـ«حركة الإصلاح الإسلامى» فى الجزيرة العربية، و«لجنة بن لادن للمشورة والإصلاح»، اعتقاداً من لندن أن هؤلاء قد يكونون قادة المستقبل فى حال سقوط نظام آل سعود. وهناك مثال أوضح، هو قادة إخوان مصر وتونس، الذين عادوا من لندن بعد الربيع العربى لحكم بلادهم.

ثالثاً: خدمت هذه الجماعات كأداة تأثير على السياسات الداخلية والخارجية لبلدان رئيسية، فوجود هذه الجماعات فى لندن «مكَّن المخابرات البريطانية من التجسس على أنشطتها، واكتساب شكل من قوة التأثير على السياسات الداخلية لبلدانها الأصلية»، وعلى سبيل المثال، استخدمت لندن مكتب «بن لادن» فى منتصف التسعينات كأداة ضغط على النظام السعودى. رابعاً: استخدمت لندن هذه الجماعات لتحطيم الدول، كما فعلت فى كوسوفو فى مطلع التسعينات، والاتحاد السوفيتى بدعم المجاهدين الشيشان. خامساً: استخدام الحكومة البريطانية بعض الإسلاميين على أراضيها بشكل مباشر لتصفية زعامات غير مرغوب فيها، وعلى سبيل المثال، فضح ضابط المخابرات البريطانية MI6 السابق ديفيد شيلر، تكليف أجهزة الأمن البريطانية لجماعة إرهابية إسلامية مقرها لندن باغتيال الزعيم الليبى معمر القذافى فى فبراير عام 1996. وسادساً، وهو الأهم: ساعدت هذه الجماعات فى الإبقاء على منطقة الشرق الأوسط مقسمة وضعيفة بشكل يمكن الغرب من استنزاف ثرواتها دون معارضة تذكر من القوى الوطنية. وأوضح مثال على ذلك، الدور الذى لعبته هذه الجماعات فى التخلص من رئيس الوزراء الإيرانى محمد مصدق، الذى هدد مصالح بريطانيا والولايات المتحدة فى نفط بلاده فى الخمسينات. ولخص العميل البريطانى والمؤلف الشهير «جون كولمان» حقيقة الإخوان بالنسبة للغرب بكلمات قاسية، قال فيها: «الإخوان طائفة ماسونية سرية نشأت بدعم من رواد المخابرات البريطانية، من أمثال تى إى لورنس وبرتراند راسل وسانت جون فيلبى، بهدف «الإبقاء على منطقة الشرق الأوسط متخلفة حتى يتمكنوا من نهب مواردها من النفط».