ابومنيف: رحل احد رجال الانتفاضة الاولى
تاريخ النشر : 2017-02-11 10:32

  مات حسن عواد ابو منيف ، لا اعرف لماذا يلاحقني الموت ،ها هو يخطف حبيبا اخر

ماذا تريد مني ايها الموت؟!

تربطني بابي منيف علاقة خاصة ، لا اعرف كيف بدأت، ولماذا كانت هذه العلاقة،

هل كنا نحب بعضنا البعض الى هذا الحد، ام كنا معجبين ببعضنا البعض، رغم فارق السن بيننا

هو يكبرني بعشر سنوات او يزيد، وببضع سنتمترات في الطول ايضا

قد اكون معجبا ببعض مزاياه وصفاته الشخصية.......

المهم، رأيته اول مرة وهو عائدا/هاربا من امتحان التوجيهي في ٥ يونيو ١٩٦٧

ولعت الدنيا، الحرب قامت، لم تنتظر جولدا مائير، رئيسة وزراء اسرائيل، كم يوما حتى يكمل طلاب التوجيهي امتحاناتهم، استعجلت وقامت بالحرب الدفاعية،

كل حروب اسرائيل دفاعية، تهجم وتحتل وتقتل وتصرخ وتبكي، كله في آنٍ واحد، لكننا لا نقابل ذلك الا بمزيد من الكذب والصراخ

ايام قليلة، حتى كانت اسرائيل قد احتلت مساحة كبيرة من دنيا العرب

رأيت حسن ابو منيف مرة ثانية، رأيته فجرا ومن بعيد، وهو يحمل بوقجته عائدا من الجنوب، يمشي مهرولا على شاطئ البحر ، لم تصدقني امي اني رأيت حسن. حاول حسن هو وكثير من الشباب والرجال ان يخترقوا السياج والحدود هربا باتجاه مصر، ولكن الدبابات الاسرائيلية منعتهم، شكرا للدبابات الاسرائيلية وشكرا لغبائها، لو سمحت اسرائيل في تلك الايام الهجرة للناس، لفرغ القطاع من اغلب سكانه

رجع حسن ابو منيف مشيا على الاقدام، بينما كنت انا ووالدتي وعددا من اخوتي نقضي الليلة الاولى في احراش خانيونس، بعد ان هربنا من قصف دبابات اسرائيل لمخيم خانيونس، عقابا له على مقاومة وتصدي حاكمه الضابط المصري بمدفعه لطائرات اسرائيل، بالرغم من سكوت كل مدافع الجو والارض على كل الجبهات العربية، لكن خانيونس لا تعرف الصمت ولا الاستكانة، لذلك كنا نهتف ونحن اطفال "خانيونس يا بور سعيد كفاحك كفاح مجيد"

رجعنا من احراش خانيونس الى المخيم المطوق بالدبابات والاليات والجنود المدججين بالسلاح، وصوت الضابط الاسرائيلي الذي ينده على الرجال والشباب من عمر ١٥ الى ٦٠ سنة، للخروج الى ملعب خانيونس وهم رافعين ايديهم،

خرج حسن واخيه حسين الذي سبقه الى الموت، خرجا ولم يعودا مثل الكثير من اقرانهم

تم ترحيل الشباب الى مصر، ولم يعود حسن ابو منيف الا بعد سنوات مع الصليب الاحمر

رجع حسن الى المخيم، الكساد كان ومازال يعم حياة المخيم، يجتمع الختيارية على لعب "الدريس" طول اليوم "كش كلبك، خذ بالك من كلبك" لا شغله ولا عمله. اما الشباب فيلعبون "رفرفة" سلخ كفوف على الايدي المتعاكسة فوق الرقبة المنحنية الى اسفل، كان حسن ابو منيف احد ابطال هذه اللعبه بيده الطويلة والناشفة، لم تكن يد حسن فقط هي الناشفة، كما لم تكن الايدي تكفي احيانا، فيستخدمون الشاحوط!!!

يد حسن الناشفة وايادي الشباب اليابسة كانت جاهزة للعمل في ورش ومصانع اسرائيل للبناء، عندما فتحت اسرائيل ابوابها امام الفلسطينيين للعمل في المزارع والمصانع وورش البناء والمطاعم والبلديات وتنظيف الشوارع، عمل في اسرائيل الاف الشباب والرجال والنساء، عمرنا ارض اسرائيل واقمنا المباني الشاهقات واتسعت البيارات واشتغلت المصانع وزاد انتاجها، عملا كنا في امس الحاجة له وكانوا هم ايضا محتاجين له لاهداف اقتصادية واهداف سياسية، اسرائيل استغنت اخيرا عن عمال قطاع غزة بعد ان تخرج منها الاف المهنين خاصة في مجال البناء، يتحسر العمال على تلك الايام بعد رجع اغلبهم ليجلس على قارعة الطريق يندب حظه العاثر، يتذكر تلك الايام الجميلة ومعاملة ابناء العم للعمال مقارنة بمعاملة الاهل وذوي القربى؟!

في المرة الثالثة، رايت حسن بعدما رجع من مصر، ارادوا ان يزوجوه من احدى قريباته،

ذهبت العائلة الى ديرالبلح حيث بيت العروس، وهربت انا وعبدالحي اخ العريس الصغير والمرحوم ابن العم عبدالرؤوف، مشيا على الاقدام على شاطئ البحر من خانيونس الى ديرالبلح،

وصلنا عصرا قبل ان ينفض السامر، وصلنا بملابسنا الممزقة واجسادنا التعبانة وصوت الطنين في أذاننا

في اليوم التالي ، كانت لي اول علقة من ابي بقشاطه الذي يربطه على كرشه عقابا على ذهابي الى البحر!

لم يستطع احد ان يبارك لحسن، من كان يقول له مبروك كان يجيبه ...........

هذا هو حسن، هذا ليس غريبا عليه ، لم يكن ليبقى في البيت في الاعياد او المناسبات ، كان يهرب الى الاحراش، يتصايد العصافير والحساسين، كان عاشقا لها،

حسن طلق الدنيا منذ زمن بعيد، منذ ان مات ابوه وتركه ولدا صغيرا هو واخويه واخته جميلة

تركهم وحيدين لامهم حليمة، ام حسن، التي ناضلت وكابدت كل شقاء الدنيا وما فيها حتى تستطيع ان تحمي هذه الاسرة

كان لجميلة بعد ان كبرت ماكينة خياطة تساعد امها فيها على مصروف البيت

وكان الحاج ابراهيم ابو زهدي هو الراعي والحارس لعائلة ابنته، لم يتركهم يوما، كان يأتي راكبا حمارته من معن شرق خانيونس حيث يسكن الى مخيم خانيونس حيث بيت ابنته حليمه

لم يترك الحاج ابراهيم عائلة بنته يوما، كنا نراه في المخيم اكثر مما نراه في بيته في معن، كان جدا ووالدا في نفس الوقت، كان رجلا ومثالا للوفاء والاخلاص

عرفت حسن كثيرا في لعبة الشدة، حسن كان يحب لعب الهندرمي والمصرية، حسن لا يحب ان ينغلب، لكنه للاسف كان في الاغلب ينغلب وينهي اللعبة بان يُحرق ويرمي ورق الشدة

هذا ما حدث في احدى ليالي الانتفاضة الاولى، كنا نجتمع في بيتنا ليلا ، يسهر شباب الحارة لنلعب الشدة ، انتصف الليل وفجأة انغلب حسن، رمى الورق وهمَّ حسن واقفا، ترك الشباب بيتنا، وبعد دقائق معدودة، واذ بدوريات الجيش الاسرائيلي الراجلة والمحمولة تملأ ازقة المخيم، وصوت طرق الابواب يصم الاذان، وصراخ بعض الشباب يسمعه القاصي والداني، وصوت العريس اياد ابو شمالة الذي كان واحدا من السهرانين في بيتنا يُقطع نياط القلب بعد ان ضربه ضابط المخابرات الاسرائيلي ابو رامي بركبته في خصيتيه، ليلة طويلة تخللها قذف جنود اسرائيل بالحجارة ليلا، واعتقال العديد من الشباب، وجر فضل ابو شماله وسحله امام البيت.

رأيت حسن مرة اخرى عندما كان احد لعيبة فريق كرة السلة في خانيونس، حسن كان يعشق الرياضة ويحب الشباب

عاش ومات شابا، لم يبعد عن الشباب بل بقي بينهم رغم فارق السن، الشباب يحبون حسن

والمخيم ايضا يحب حسن، هذا المخيم الذي كان حسن يحرثه بقدميه جريا خلف دوريات جيش اسرائيل

رغم عمره المتقدم، الا ان حسن ابو منيف كان من احد الشباب الذين يواصلون الليل مع النهار في قذف دوريات اسرائيل بالحجارة

حسن ابو منيف والمبعد يونس ابو العبد والشهيد إكريم ابوفتحي وموزة ابو وائل وصلوحه وووووو تعرفهم شوارع وازقة بلوك G

رجال الانتفاضة الاولى، ابطال كسر منع التجول، يخرج حسن ويُكَبر بصوته الجهوري، الله اكبر، فيخرج مئات الشباب من منازلهم متحدين دوريات جيش اسرائيل وبنادقهم الموجهة الى الصدور

المخيم مازال يذكر حسن ويشهد له ....المخيم مازال وفيا لابطال الانتفاضة الاولى،

رجال لم تكن لهم حسابات كثيرة، كما انهم لم يهتموا كثيرا بمصالحهم الخاصة....

اليوم الخميس ٩ فبراير/شباط ٢٠١٧، كان المخيم على موعد مع تشييع جنازة احد احبائه، شارك في الجنازة شباب الانتفاضة الاولى من ابناء جيل حسن ابو منيف وشباب الانتفاضات القادمة،

بيت العزاء الذي عمه الالاف من ابناء خانيونس يشهد ايضا على حب الناس لابنائهم المخلصين.....

مات حسن ابو منيف فجأة دون سابق انذار،

هذه هي الموتة الثانية لابومنيف، قبل ١٥ سنة تعرض لسكتة قلبية وفقد الوعي لايام متواصلة، لكنه لم يمت

اليوم، تسحر ابو منيف ليصوم الخميس، كما تعود ولكنه مات

استيقظ ليلا ، سقط من طوله، فارقت روحه الحياة

مات دون ان يسبب متاعب لاحد، لم يُتعب احد في دنياه ولا في موته

مات احد ابناء المخيم، مات صديق الشباب،

مات عاشق العصافير والحساسين والحمام، مات من طلق الدنيا منذ زمن بعيد

فقد مخيم خانيونس احد معالمه

مات حسن عن عمر ٧١ سنة، كم عام عاش ابو منيف؟!

الرحمة لروح حسن محمد عواد/ابو منيف