أخطاء الإعلام لا تبرر قمعه
تاريخ النشر : 2017-02-06 10:25

تريد بعض النظم السياسية من وسائل الإعلام أن تعمل كأذرع دعاية لها، وأن تكتفى بتلميع القادة، ومهاجمة الخصوم، ونقل أقوال الساسة الرسميين حرفياً، أو تتهمها بـ«الخيانة» و«الفساد» و«الإضرار بالمصلحة الوطنية».

يريد البعض أن يتخذ من أخطاء وسائل الإعلام والإعلاميين ذريعة لكى يسكت النقد، ويخرس الصحافة، وهذا الأمر يحدث فى بعض الدول الديمقراطية المتقدمة، كما يحدث فى الدول المستبدة المتخلفة.

تخطئ وسائل الإعلام بكل تأكيد مثلها مثل أى فاعل سياسى أو اجتماعى آخر، وبين الإعلاميين أشخاص غير نزيهين مثلهم مثل أى جماعة بشرية، وبين مُلاك الصحف والفضائيات أشخاص غير أمناء وغير شرفاء مثلهم مثل مستثمرى أى قطاع آخر، لكن كل ذلك لا يبرر أبداً إسكات الإعلام، وإنما يحض على تنظيمه وترقية أدائه.

لا يمكن فصل الحال التى وصل إليها الإعلام فى مصر خلال السنوات الفائتة عن حال الارتباك والخلل التى نعيشها فى كافة المجالات.

وبوصفه صناعة، فإن معايير الجودة الخاصة به قد تكون متدنية كما هى الحال فى بقية الصناعات، وإذا نظرنا إليه على أنه خدمة، فإن التردى الذى ضرب الخدمات كلها لم يستثنه بالطبع، وباعتباره نشاطاً إنسانياً، فإن التراجع الذى أصاب كافة أنشطتنا الإنسانية قد طاله بكل تأكيد.

لكن الإشكال الكبير الذى يتعلق بملف الإعلام المصرى يكمن فى أنه صناعة أكثر تأثيراً من معظم الصناعات، ونشاط إنسانى أعمق وأهم من أنشطة كثيرة، وخدمة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، ومجال لصياغة الرأى العام، وبلورة المواقف، وتطوير السياسات، وتقييم الحكومات، وتحديد الأولويات الوطنية، وإدامة العقل العام أو خطفه وتسطيحه.

للأسف الشديد، فإن الإعلام المصرى خلال السنوات الأخيرة بات ميداناً للخطل والكثير من تدنى الأداء.

ستتحمل السلطات العامة مسئولية كبيرة عن حال الخلل التى يعانيها الإعلام الآن، لأنها تباطأت فى تنظيم المجال الإعلامى، وعاندت المطالب الرامية إلى تأمين الحريات، وأظهرت الحرص الكبير على تطويع الإعلام واستخدامه كأداة دعاية بدلاً من تحريره وتطويره ليصبح أداة استنارة.

وسيشارك الجمهور فى المسئولية بكل تأكيد، لأنه أظهر إفراطاً فى «تعاطى» المواد الإعلامية الرديئة، وراح يشجع الممارسات الحادة والمنفلتة، ويحتفى بها، ويروج لها، فى الوقت الذى انصرف فيه عن كثير من المبادرات المهنية المسئولة، ولم يساند أنماط الأداء الرشيد بالشكل الواجب.

وستسهم المؤسسات الأكاديمية، ومنظمات المجتمع المدنى المعنية، بقدر من المسئولية عن تردى الأداء الإعلامى العام، خصوصاً أن تلك الدرجة من التدنى لم يكن من السهل أبداً الوصول إليها إلا من خلال خريجين غير مؤهلين بما يكفى، ونظام «دقة عامة مجتمعية» قاصر ورخو، لم يقم بدوره فى المتابعة وإخضاع الأداء الإعلامى للتقييم ومساءلة المخطئين والمتجاوزين مجتمعياً وأخلاقياً على النحو اللازم.

لكن الإعلاميين والصحفيين يتحملون مسئولية كبيرة عن هذا التدنى، ومعهم بكل تأكيد هؤلاء الذين امتلكوا وسائل الإعلام الجماهيرية لتوظيفها فى خدمة مصالح مشبوهة، أو للتغطية على جرائمهم الجنائية، أو لغسل سمعتهم، أو لغسل أموالهم، أو لاتخاذ نقاط ارتكاز فعالة، تيسر لهم التأثير فى المجال العام والشأن السياسى بما يحقق أغراضاً غير معلومة.

الإعلام المملوك للدولة، بأشكاله المختلفة، كان أقل صخباً ومجاراة للخطل فى أنماط الأداء، لكنه لم يستطع أن يكون مصدر الاعتماد الرئيس للجمهور وفق بيان مهمته، وقد حرم المواطنين والدولة من نحو خمسة مليارات جنيه سنوياً، لم يحسن استخدامها لتقديم خدمات لائقة، ولم يتركها للدولة لإنفاقها فى أغراض أخرى أكثر إلحاحاً.

وبشكل عام، فقد أخفق الإعلام بشقيه الخاص والمملوك للدولة فى مخاطبة الخارج، فلم تمتلك مصر صوتاً يوصل ذرائعها وحججها إلى العالم بطريقة سلسة وفعالة فى أحلك الأوقات التى مرت بها خلال السنوات الخمس الفائتة.

كل هذا الصخب الذى صدع رؤوس الجمهور المصرى، وكل هذه المليارات، وكل هؤلاء المذيعين والمذيعات، ومنهم «المذيع القائد، والمذيع الفيلسوف، والمذيع الملهم، والمذيع المُعلم»، لم يوصلوا صوت مصر وذرائعها إلى خارج حدود البلاد.

ولولا بعض وسائل الإعلام الإقليمية النافذة، التى تصادف أن الدول التى تملكها كانت تريد مساندة بعض السياسات المصرية فى الأعوام الأخيرة، لكانت مصر بلا أى صوت فى إقليمها أو فى العالم.

ليس هذا فقط، لكن بعض الصحفيين والمذيعين المصريين نجح فى صناعة أزمات سياسية على أعلى مستوى، ليس لأنه يخدم تصوراً سياسياً محدداً، أو يعمل لمصلحة دولة أو تيار، ولكن فقط ليكسب عدداً أكبر من المشاهدات والتعليقات على برنامجه أو مقاله.

من المنصف أن يكون تقييم أى منظومة متكاملاً، بحيث يتناول مميزاتها، وعيوبها، والمخاطر التى تحدق بها، والفرص المتاحة أمامها.. لكن للأسف فإن مزايا صناعة الإعلام المصرية، كما الفرص المتاحة أمامها، تضيق، فى وقت تتسع فيه العيوب، وتتفاقم معها المخاطر.

ما زال هناك قطاع من الإعلاميين والصحفيين المصريين يقبضون على الجمر، ويحاولون المنافسة فى ميدان عشوائى بقواعد هشة.

بعض هؤلاء خرج من الميدان وجلس فى منزله، بعدما أدرك أن قدراته على السباحة ضد التيار أقل من أن تؤمن له الطفو، والبعض الآخر تم إغلاق المجال أمامه، وآخرون بدّلوا تبديلاً، حتى يمكنهم الاستمرار.

عدد قليل من وسائل الإعلام الخاصة والعامة ما زال يمتلك الاتجاه والرؤية ويحاول أن ينتصر للقيم الرشيدة، لكن الظروف لا تساعده، والسوق تضيق عليه، والواقع يضغطه ويرهقه.

الأسئلة التى يجب أن يطرحها المجال الإعلامى الوطنى على نفسه الآن بوضوح هى: هل أنا قادر على التمتع بثقة الجمهور واحترامه؟ هل أنا قادر على أن أخاطب العالم؟ هل أنا قادر على أن أحظى بتقدير الإقليم؟ هل أنا قادر على أن أنظم نفسى؟

سيكون اعتراف المجال الإعلامى بالقصور الذى ينطوى عليه ضرورة، لكى يدرك الجمهور أنه فى طريقه إلى الإصلاح، وسيكون امتلاك خريطة طريق واضحة ومنطقية لتحقيق الإصلاح هدفاً يجب العمل على تحقيقه.

كما سيكون اعتراف المجال السياسى بأهمية إتاحة القدر المناسب من الحرية للممارسة الإعلامية فى كل الظروف ضرورة أهم.

وفى كل الأحوال، فإن بيت الإعلاميين والصحفيين، الذى بدا أنه من «زجاج»، ليس حائلاً بينهم وبين إلقاء المخطئين بـ«حجارة» النقد، أو تسليط الضوء على مواطن العوار والخلل فى المجتمع والدولة.

لا يجوز القول إن وجود مخالفات وتجاوزات فى وزارة الداخلية يحتم على أفرادها التخلى عن دورهم فى كشف الجرائم وضبط المتجاوزين وإحالتهم إلى المحاكمات، ولا يمكن اعتبار أن الفساد فى وزارة التموين ينزع منها الحق فى ضبط السلع المغشوشة فى الأسواق.

الصحافة والإعلام فى مصر يعانيان قصوراً وعواراً شديدين، والجميع يبدو متفقاً على توجيه سهام الاتهام والتجريح للصناعة والعاملين بها، لكن استخدام تلك الذرائع لإسكات النقد، وإخراس الأصوات المختلفة، والقضاء على التنوع والتعدد كارثة كبيرة.

علينا أن نُقوّم الإعلام، وأن نحافظ على نزعته النقدية وتعدده وتنوعه فى آن.

عن الوطن المصرية