مبادرة دحلان للإنقاذ الوطني ... كيف نترجمها مشروعاً وطنياً جامعاً
تاريخ النشر : 2017-01-06 15:24

وقّعت فصائل العمل الوطني الفلسطيني تفاهمات عدّة منذ وقوع الانقسام في العام 2007، وتنقّلت الوفود بين عواصم الدنيا، وتحديداً وفود حركتي فتح وحماس، وسبقت الانقسام كذلك تفاهمات مختلفة واتفاقات، جرت في أكثر من مكان، أبرزها تفاهمات القاهرة في العام 2005، وأكثرها حضوراً وثيقة الوفاق الوطني التي وقعها أسرانا في سجون الاحتلال في العام 2006، ثم كانت تفاهمات صنعاء والخرطوم وتونس والقاهرة وجنيف والدوحة والشاطئ ثم الدوحة تارة أخرى، وأخيراً ينتظر الفلسطينيون بقليل من الحماسة وكثير من الملل لقاءات العصف الفكري المنتظرة في موسكو، ضمن سلسلة لا تنتهي من حوارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا يصح فيها إلا تعبير "حوار الطرشان"!

مدخلات خاطئة

يُعد اعتبار كل فصيل فلسطيني نفسه أنه يمثل "الحق المطلق" وأن "الآخر الفلسطيني" يمثل الباطل المطلق هو المدخل الرئيسي لفهم مدخلات العملية التحاورية بين الأطراف الفلسطينية، وبالأخص طرفي الانقسام، فتح وحماس، وطالما كانت هذه هي منطلقات كل طرف، فإن النتيجة المحتومة هي عدم الاتفاق، ولو جرى الاتفاق، فإن النتيجة المحتومة للتنفيذ هي الفشل، وقد عبرّت سنوات الانقسام البغيض عن صوابية الرأي القائل بأن فتح وحماس وحدهما لن يتفقا، وأن التدخلات الاقليمية بينهما هي تدخلات تسعى لتغليب مصالح طرفٍ على طرف، أو تحقيق مصالح للطرف الراعي للحوار، أو على الأقل اعتقاد أحد الطرفين بأن الوسيط لا يكترث لمواقف هذا الطرف ومصالحه، وهذه بالحتم تعتبر عاملاً إضافياً ساهم على مدى سنوات في تعطيل الوفاق وتعزيز الانقسام وتراجع فرص المصالحة الوطنية.

تشخيصٌ دقيق

جاء خطاب القيادي الفلسطيني محمد دحلان بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لانطلاقة حركة فتح ليضع الكثير من النقاط على الحروف، وحملت عباراته ومفرداته توصيفاً ربما كان الأدق للحالة الفلسطينية في زمن التيه السياسي الذي تعيشه القضية الفلسطينية، ولم يتحدث بلغة الفصيل والحزب أو لغة الفرد، بل كان تعبير "كلنا" حاضر بقوة في ثنايا الخطاب، لم يقل في الخطاب أنه على حق وغيره على باطل، كان يتساءل أين أصبنا وأين أخطأنا، وكأننا به يحمل نفسه جزءاً من مسؤولية المشهد الراهن، رغم ابتعاده عن ممارسة العمل ضمن مهمات رسمية منذ ما يزيد عن الأعوام الستة، حملت معها الكثير من الأحداث الجسام والمنعطفات الخطرة في المسار السياسي الفلسطيني، ثم جاء الرجلُ على هموم الناس وأوجاعهم، ولم يتحدث بلغة الجغرافيا المقيتة، فجعل من هموم القدس وأهلها مدخلاً لمناقشة أزمات الواقع، ثم انتقل للضفة المحتلة والقطاع المحتل، بذات النبرة الصوتية، على الرغم من إدراكه أن غزة تعاني ظروفاً استثنائية تتعلق بكل مفردات العيش اليومي للإنسان الفلسطيني، ولم يُغفل الخطاب الأوضاع المأساوية التي يعيشها فلسطينيو الشتات، ليخاطب في كلمته الكل الفلسطيني، في مختلف أماكن تواجده وأينما حطت رحال الفلسطينيين.

إطلالةٌ جديدة

لم يتحدث (أبو فادي) بلهجة المتشمّت، ليقول للساسة في بلادي "أرايتم!! لقد كنت على حق عندما قلت أن كل ما تقدمونه للناس هو منجزات وطنية، بينما أنتم تسيرون في طريقٍ يقود إلى العدم"، ولم يتفوه بحرفٍ يُفهم منه أن يسعى إلى منصبٍ أو موقعٍ ما في الحركة الوطنية، ولم تفوح من خطابه عبارات النرجسية والأنا وإيثار الذات، بل كان خطاباً يؤثر المناضلين والأسرى والمواطن العادي، كان يستطيع أن يتملق رجال الأمن في بلادنا بعباراتٍ تجعلهم يطمئنون إلى أنه ربما يفكر مجدداً (وهو الذي ساهم في إحداث نقلة نوعية في رواتبهم في الماضي) بزيادة مخصصاتهم، لكنه تحدث بلسان حال الضمير الوطني الذي يشاهد (حصة الأمن) من الموازنة العامة للسلطة والتي تزيد عن حصص التعليم والصحة والزراعة والصناعة مجتمعة، على الرغم من أن أكبر مسؤول فلسطيني لا يستطيع أن يمر عبر حاجزٍ إسرائيلي إلا بموافقة من ضابط إسرائيلي برتبة ملازم!!، وعلى الرغم من أن جيب عسكري إسرائيلي يستطيع التوغل في المنطقة (أ) واختطاف أي مواطن فلسطيني من منزله دون أن تتحرك بندقية فلسطينية لمنع هذا العدوان السافر، لكنه مع الأسف، زمن التنسيق الأمني المقدس!!.

مقاربة الوطن والمواطن

تعد المقاربة التي قدمها القيادي دحلان في خطابه الجامع مدخلاً مناسباً لفهم برنامج العمل الوطني الذي ينبغي أن يكون خيار الفلسطينيين جميعاً في المرحلة القادمة، مقاربة تلتفت إلى الاحتلال بروح التصدي لمخططاته والدفاع عن الأرض في وجه من يحاول اغتصابها على مدار الساعة، وتلتفت للمواطن الفلسطيني البسيط، الذي يستحق العناية والرعاية وفرص العيش الكريم، وهي أوجب اشتراطات العقد الاجتماعي بين السلطة ومواطنيها، وهي مقاربة لا تجعلنا نقاوم في الفضاء فالأقدام يجب أن تبقى طيلة الوقت على الأرض، والعيون شاخصة بقوة تجاه الحق السليب، وبما لا يجعل من هذه المقاومة انتحاراً وهدماً وتدميراً للمكتسبات الوطنية، وفي ذات الوقت لا تجعل المستوطن ينام ملء جفونه في أرض اغتصبها من أصحابها الأصليين.

عرض (أبو فادي) موقفه من النهج الحالي السائد في حركة فتح، في ظل التفرد والاستحواذ على القرار والخروج عن كل مواثيق الحركة وأنظمتها في جُملٍ ثلاث، أولها عدم الاعتراف بمخرجات مؤتمر المقاطعة على اعتبار أن المدخلات غير الحركية وغير النظامية وغير المنطقية لا يمكن أن تعطي مخرجاتٍ يُبنى عليها حركياً او وطنياً، وثانيها عد السعي إلى إحداث انشاق في صفوف الحركة، فأم الولد لا يمكن أن تسمح بتقطيع أوصال ابنها تحت أي ظرف، وثالثها أن البقاء في فتح هو الغاية وأن الوسيلة هي الإصلاح بذات النهج الديمقراطي الذي تربى عليه أبناء فتح منذ انطلاقتها وحتى يومنا هذا.

معالجة وطنية

قدّم القيادي دحلان في خطابه وصفة نظنها "سحرية" لمعالجة الحالة الوطنية في هذه المرحلة، وهي وصفة إن دلّت على شيء، فإنما تدل على أنه توقف عند كل حرفٍ وكل مفردة، وعالج الموقف بعين الخبير والمتخصص والممارس للفعل السياسي على مدى عقود، لتكون المعالجة التي قدمها نتاجاً لخبرات متراكمة في الشأن الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي، وهو أمر يندر توفره في الشخصيات السياسية التي عرفناها منذ نشأة قضيتنا الوطنية وحتى يومنا هذا، والشاهد هنا ليس مدحاً في الرجل، فمريديه كُثُر، والمعجبين به، من داخل فتح ومن خارجها كُثُر أيضاً، وإنما يعنينا هنا قدرته على توصيف الحالة وتشخيص الواقع وتقديم المعالجة اللازمة في خطابٍ جامعٍ موحَّدٍ وموحِّد، يرسم لنا خارطة طريقٍ من الوضوح والأهلية للتطبيق بمكان، فالقدس وقضايا أهلها لا يجب أن تغيب عن ذهن المسؤول والقائد، وبقاء سيرتها حيّة، ليس بالشعارات والخطابات الرنانة وإنما بالفعل والسلوك على الأرض، ثم الإعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية، وهو أمر لا يعني إلغاء اتفاقية أوسلو وتدمير منجزات المشروع الوطني الفلسطيني، ولا تعني إعلان الحرب على أحد، لكنها مرحلة انتهت، والآن جاء دور البحث في مآلات المشهد السياسي في أعقاب انتهاء هذه الحقبة التي يريدها المحتلون أبدية ودائمة، ثم الذهاب أبعد من ذلك بالذهاب إلى الأمم المتحدة مجدداً وطلب العضوية الكاملة لفلسطين في الجمعية العامة، وإعلانها دولة تحت الاحتلال وطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ثم انهاء الانقسام الوطني بكل تفاصيله، لأن مصيبة الانقسام ما بعدها مصيبة، والتوقف الفوري عن المفاوضات العدمية بما في ذلك التعاون الأمني المسمى افتراءً "تنسيق"، والعودة إلى المجموعة العربية لتفعيل الدور القومي في رعاية القضية الفلسطينية ومساندة كفاح شعبنا من أجل الاستقلال، ثم عقد المجلس الوطني على أسسٍ غير اقصائية وبمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي بالوزن الذي تتمتعان به شعبياً في أوساط الفلسطينيين، بما يؤسس لتمثيلٍ عادل لكل فصائل العمل الوطني الفلسطيني في بيت الفلسطينيين الجامع "منظمة التحرير الفلسطينية".

مهمات عاجلة

ولأن هذه المهمات ليست سهلة ولأنها تحتاج إلى بعض الوقت قبل إنجازها، حدد القيادي دحلان مهماتٍ عاجلةٍ أمام الفلسطينيين في المرحلة المقبلة، قصيرة المدى، بدأها بتفعيل المجلس التشريعي، وبناء منظومة عدالة ومؤسسات قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية ووقف التعيينات المخالفة للقانون في سلك القضاء، وكف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في الحياة التنظيمية والسياسية للفصائل الفلسطينية، وإفساح المجال أمام الحريات الفردية والسياسية، وهو أمر سيوفر المدخل الطبيعي للاندماج الجبهوي بين مختلف فصائل العمل الوطني استعداداً للمواجهة الصعبة مع المحتل ومشاريعه التي تُجهز على كل معطيات العملية الكفاحية للشعب الفلسطيني.

ماذا بعد!!

يُخشى على خطة الانقاذ الوطني التي قدمها القيادي محمد دحلان أن تنضم إلى قائمة طويلة وغير حصرية لمبادرات ومقترحات ورؤى قُدّمت لمعالجة الواقع الكارثي الذي تعيشه القضية الفلسطينية، والأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، فقد جرت العادة أن يمتدح الكُتاب والباحثون والمحللون والساسة المبادرات الوطنية حال إعلانها، من باب "درء الشبهات" وحتى لا يتحمل أحدٌ مسؤولية إفشالها أو تعطيلها، وحتى لا تقع مبادرة الانقاذ الوطني ضحية التجاهل أو النسيان، خصوصاً وأن خصومها كُثُر، ممن يعتقدون أننا نعيش في الفردوس وأن الحالة الوطنية في أبهى صورها ومراحلها، ويسمعون مقابل ما يقدمونه من أوهام تصفيقاً حاداً وصاخباً تتمايل معه الأجساد والعقول، فإنه يتوجب على القيادي دحلان أن يذهب باتجاه تجسيد مبادرته فعلاً وسلوكاً، ونقترح في هذا الشأن الخطوات الآتية:

1.       أن يُصار إلى بناء رأي عام فلسطيني مساند ومناصر للمبادرة، على مختلف المستويات، ومختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، خصوصاً الشباب، باعتبار أن القيادي دحلان يتمتع برصيدٍ من المحبة والثقة من هذا الجيل بالتحديد، ويعقدون عليه الأمل في أن تتغير حياتهم للأفضل إن كان له نصيبٌ من المسؤولية عن انهاء أشكال عدة من همومهم الحياتية.

2.       تنظيم ورشات عملٍ وندوات وطاولاتٍ مستديرة تجمع أهل الرأي والمفكرين والباحثين والمحللين والإعلاميين والمثقفين يتناولون فيها ما ورد في المبادرة من أفكارٍ ومقترحاتٍ محددة، ويُجمعون أمرهم في نصوصٍ محددة تعمّق الرؤية الوطنية وتحدد آليات الفعل المطلوبة كي تتحقق الوحدة الوطنية الكاملة على برنامجٍ جامعٍ يمثل الكل الفلسطيني.

3.       تنظيم استطلاع رأيٍ مسؤول يتناول مبادرة الانقاذ الوطني، تشرف عليه مؤسسة بحثية رصينة، ويصل إلى أكبر عينة ممكنة من الفلسطينيين في الوطن والشتات، ويحلل بياناته خبراء ومختصون في استطلاعات الرأي، وتُنشر نتائجه فوراً وعلى الملأ، لتكون هذه النتائج حُجة على السياسيين في فلسطين.

4.       الشروع في حوارٍ فوريٍ مع مختلف قوى العمل الوطني الفلسطيني، بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، للحصول على موافقتها وتأييدها للمبادرة، وتفويض المتحاورين مع القوى المختلفة بالوصول إلى صيغٍ محددة تقيم تقارباً مع الكل الوطني في صياغة المرحلة الجديدة والبرنامج الجديد، ليحمله الجميع إلى المجلس الوطني في حال انعقاده بحضور الجميع ودون اقصاء، فالمشتركات مع برامج الفصائل كثيرة، والتقاطعات مع مختلف المبادرات كبيرة، بما فيها مبادرة الأمين العام للجهاد الإسلامي، ويمكن، دون كبير عناء أن تلتقي هذه المبادرة مع سواها من المبادرات في برنامج يُجمع عليه الفلسطينيون.

5.       ابقاء الباب مفتوحاً أمام كل الفتحاويين ليصبحوا شركاء مع هذه المبادرة، فتيار الإصلاح في فتح لم يأت ليُقصي الناس، وليس لديه عداء مسبق مع أحد، فقد ورد في الخطاب أن هناك تقدير عميق لمناضلين شاركوا في مؤتمر المقاطعة نتيجة حساباتٍ معينة أو مواقف معينة، والباب مشرعٌ على مصراعيه ليجتمع الكل الفتحاوي على برنامج يعيد للحركة هيبتها ودورها الطليعي في الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال.

بهذه الخطوات يمكن أن يبدأ حوارٌ فلسطينيٌ مسؤول وشامل، يؤسس لمصالحةٍ وطنيةٍ ويستنهض الشعب الفلسطيني للعودة إلى مربع الفعل الكفاحي، ويمنح الفلسطينيين جميعاً حقوقاً متساوية في العيش الكريم والعدالة المطلقة في ظل نظامٍ سياسي يفعّل مبدأ الفصل بين السلطات ويكرس مبدأ سيادة القانون، وتجتمع فيه الكلمة في ظرفٍ نحو أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة، على أسسٍ من الشراكة لا المحاصصة، والايثار لا الأثرة.

إعلامي وباحث في الشؤون السياسية