حكايات من زمن الوالى .. العنكبوت العجوز
تاريخ النشر : 2016-12-25 16:15

ليست هذه زيارة جديدة للتاريخ،. لكنها نزهة فى سنوات حكم والى مصر الأعظم محمد على.

قراءة محبة لحقبة بالغة الأهمية فى تاريخ المحروسة، نقلتها من عصر إلى عصر، بفضل همة والى وجسارة شعب، فلم يكن ممكناً لحاكم مهما بلغت قدراته وتسامقت أحلامه، أن يحقق شيئاً دون شعب تمتد جذوره إلى ما قبل التاريخ، عرف الحضارة والمدنية وقت أن كانت الدنيا ترزح فى غمامات من الظلام والهمجية.

هذا ما أدركه محمد على نفسه حين بدأ تكوين جيشه -الذى كان نواة مشروعه التحديثى- اعتمادًا على عناصر غير مصرية، لكنه سرعان ما انتبه إلى أن هذا الجيش، لا يمكن إلا أن يكون مصرياً، ولا يمكن لجنوده إلا أن يكونوا من أبناء الفلاحين.

أحد أيام صيف 1848، قبل شهور قلائل من وفاته.. ممر طويل وسط قاعة تعج بالزائرين ينتظرون السماح لهم بالمثول بين يدى الباشا.

فى الداخل، فى حجرة الاستقبال الفسيحة جداً، يجلس الباشا على أريكته وقد ثنى فخذه اليسرى أسفل ساقه اليمنى، وارتكز بكفه فوق ركبته ممسكاً بمسبحة طويلة، وقد خبا شعاع عينيه الثاقبتين الذكيتين اللتين اعتاد أن يقتحم بهما زائريه، وطريقته المميزة فى وضع العمامة فوق رأسه، بحيث تخفى جبهته وتتبدى عيناه تحتها ببريقها الأخاذ.

فى خلوته، يهذى الباشا بكلمات غير مفهومة، بدت لزائريه القليلين الذين سمح لهم بالدخول كما لو كانت أسى على حلم إمبراطورى تسرب من بين أصابعه.

كانت الإمبراطورية العثمانية تتآكل، واستعدت قوى أوروبا الكبرى لاقتسام ممالكها، لكن محمد على كان له رأى آخر.

بدا صوت الباشا الآن أكثر وضوحاً، كلماته واضحة ونبراته جلية صاخبة، يداه القصيرتان ترتعشان بعنف، وقد انتفض واقفاً يصرخ غير عابئ بكل من حوله: أنا أهم رجل فى الدولة العثمانية كلها، أنا من أعدت المدينتين المقدستين إلى المؤمنين الحقيقيين، وأرسلت جيوشى المنتصرة إلى مناطق لم تعرف من قبل سلطة السيد الأعظم، وإلى مناطق لم تكن قد سمعت بعد عن البارود، وسوف يفتح ابنى وذراعى اليمنى إبراهيم «المورة» وفى اللحظة التى ستتوج فيها مهمته بالنجاح، سأستدعيه وأعيد هذه الأراضى إلى سيدها الشرعى، سأستدعى قواتى لتعود وأدرب مجندين جدداً، وأستكمل آلياتى، وحينئذ سأنتزع باشويتى دمشق وعكا، سوف أكوّن جيشاً عظيماً ولن أتوقف إلا عند دجلة والفرات، سأغزو اليمن وأسيطر على باب المندب وسواكن، ستغطى قواتى كل شبر فى الجزيرة العربية، وسأرفع راياتى على الخليج الفارسى.

«حتى العام 1838، وأثناء الحملة على سوريا التى استمرت من 1831 حتى 1841، لم يكن الباشا قد اتخذ قراراً بالتخلص نهائياً من السيادة العثمانية، لم يكن يستطيع أن يتخيل نفسه والياً منبوذاً عاصياً للسلطان، كان يحلو له أن يرى نفسه يعمل من داخل الدولة العثمانية لا ضدها. ورغم أن الأمور كانت تتدهور بسرعة بين السلطان العثمانى ومحمد على بسبب الانتصارات التى حققها إبراهيم باشا، الذى كان على بعد 100 ميل فقط من إسطنبول، وبرغم أن السلطان جرّد محمد على وابنه من مناصبهما وألقابهما وحذف اسميهما من القائمة السنوية للحكام منذ العام 1832، فإن محمد على حتى 1838 لم يكن يرى نفسه سوى جزء من الإمبراطورية العثمانية».

 

لكن ثمة تفسيراً آخر للحالة التى بدا عليها لوالى..

يردد العامة وخدم السراى أن الباشا الكبير وقع فى غرام فتاة صغيرة خطفت قلبه وعقله وتركته على هذه الحال من الهذيان والهوس، لكن هذه الرواية لم تجد سنداً يدعمها وأضيفت إلى سلسلة أخرى من الأساطير بعضها صنعها الباشا بنفسه، كى يضفى هالة من القداسة على مسيرته.. من بينها فكرة قدومه إلى مصر من بلديه «قولة»، ذلك الثغر الصغير فى ألبانيا، تقول الأسطورة إن محمد على كان محجماً عن مغادرة بلدته حتى التقى واحداً من شيوخ المتصوفة الذى رأى النصر مكتوباً على جبينهن فشجعه على السفر.

والحقيقة أن محمد على لم يكن باستطاعته السفر إلى مصر، لأنه لم يكن يملك المال اللازم للرحلة فبرغم عمله بالتجارة فإنه لم يكن غنياً، وقد أقرضه تاجر أرمنى يدعى «أجيازار أميرا» ما يحتاجه.

بين الأساطير التى أشاعها الوالى عن نفسه أيضًا ادعاءه أنه عانى اليتم فى سن مبكرة، وأن طوسون شقيق أبيه هو الذى تولى تربيته، وهذا غير صحيح، فقد نشأ محمد على فى بيت أبيه، وحين توفى أبوه إبراهيم أغا كان محمد على فى سن العشرين، ناضجاً ومتزوجاً من أرملة توفى زوجها قبل أن يدخل بها، وهى ذريعة استخدمها أعداؤه ضده ليثبتوا أن إبراهيم أكبر أبنائه ليس ابنه، ومن ثم لا يحق له خلفته فى حكم مصر، وبقيت أمينة هى الزوجة الشرعية الوحيدة لمحمد على برغم اتخاذه عدداً كبيراً من السرارى وأنجبت له ثلاثة أبناء، هم: إبراهيم وأحمد طوسون وإسماعيل كامل، وابنتين هما توحيدة ونازلى، وبخلاف أبنائه من أمينة كان لمحمد على 17 ولداً و13 بنتاً ورزق بآخر طفلين له وهو فى الثالثة والستين ولم يعش من أبنائه من بعده إلا سعيد وعبدالحليم ومحمد على الصغير ومن البنات نازلى التى تزوجت من محمد بك الدفتردار.

اخترع محمد على هذه القصة ليكتب لنفسه ماضياً يليق بحياته الجديدة، وليظهر لأولاده التباين بين ظروفهم وظروفه، فهم نشأوا فى كنف أب عظيم حقق إنجازات كبيرة تجعلهم فخورين به، بعكسه هو الذى نشأ يتيماً لا سند له فى الحياة، إلا أنه بإرادته ونبوغه، ارتفع إلى أعلى آيات الشهرة والمجد.

حتى تاريخ ميلاده، اخترعه محمد على ليكون فى نفس العام الذى ولد فيه معشوقه ومثله الأعلى نابليون بونابرت 1769، برغم إجماع المؤرخين على أنه ولد فى العام 1770.

فيما يتعلق بصفاته الشخصية، فقد أجمع من قابله من المصريين والرحالة الأجانب على أدبه الجمّ ونظافته وبساطة ملبسه.

كانت له ضحكة قصيرة مكتومة وكان يتجول برفق وهدوء فى جنبات قصره حتى إن الخدم كانوا يفاجأون به، كان يتجسس على الجميع حتى أولاده، بنفسه أو عبر عيون زرعها فى كل مكان، لم يكن يثق بأحد، لكنه كان محباً للأجانب واعتبرهم رجال أعمال جديرين بالثقة، وقد دعا كثيرين منهم للاستقرار فى مصر والاستثمار بها، منحهم حمايته وأغمض عينيه عن بعضهم عندما علم أنهم يجمعون الأموال لتمويل حرب الاستقلال ضد السلطان العثمانى.

أحاط الباشا نفسه بخبراء إنجليز وفرنسيين وأرمن وطليان، أراد أن يستفيد من مواهبهم منذ البداية، كان أحدهم يسرى على الوالى بقراءة بعض رسائله..

 

إلى السلطان العثمانى بعد 7 سنوات من ولايتك يا مولاى:

لقد رزقنى الله ثلاثة أبناء أعزاء إلى نفسى كحياتى وبصرى ولا أستطيع أن أفترق عن أحدهم ثانية واحدة، ورغم ذلك فقد أرسلت أكبر أولادى إلى السودان لمطاردة المماليك ولم أره منذ ستة أشهر، وأوكلت إلى ابنى الثانى مهمة الحجاز وعلى الرغم من أن فراقى عن أولادى يمزق قلبى فقد فعلت ذلك خدمة لسيدى.

 

وإلى ابنك الغالى إبراهيم:

ولدى أنا أحبك أنت وأخاك إسماعيل، أنتما الروح لبدنى والنور لعينى، ورغم ذلك أرسلتكما إلى هذه الأراضى البائسة وحملتكما عبئاً ثقيلاً، لكى نحقق لأنفسنا ولعائلتنا الشهرة والمقام العالى.

وإلى إبراهيم أيضًا يعاتبه على استخدامه عبارة «سر عسكر عربستان» أى قائد الجيوش العربية فى التوقيع على رسائله:

أكتفى بالتوقيع فقط بإبراهيم، كما فخر أبوك باسم محمد على مجرداً من أى لقب، ووجه حماسك إلى اكتساب سمعة طيبة من خلال المنجزات الإيجابية وسوف يصبح اسمك محفوراً فى صفحات الزمان.

 

وإلى إسماعيل تعاتبه على قسوته فى التعامل مع قبائل السودان:

إنه من المعروف جيداً بين الحكام الذى يهتدون بالعقل، أن الطريق إلى اكتساب حب شعوبهم، إنما يكون من خلال نشر العدل، ومن الواضح أنه لا يوجد حاكم يستطيع فعل أى شىء بغير العدل، وقد كان من واجبك أن تكتسب ثقة القبائل بالشفقة وحسن المعاملة، ألم تسمع عما يكون عليه سلوك الناس فى أوقات الحرب، ألم تسمع كيف كان الفرنسيون عادلين فى مصر، ألم تعد تذكر العدل والشفقة التى أبداها الإنجليز منذ وقت ليس ببعيد. يا إسماعيل إذا اخترت أن تحب نفسك أكثر من حبك لرجالك، فإننى لن أحبك، إذا لم تلتفت إلى كلماتى فإننى أقسم أن أعيدك ثم أسجنك فى كوخ صغير لأن العار لا يمكن السكوت عليه.

 

وإلى سعيد تحثه على التواضع والتعلم:

هل تذكر إننى قلت لك إن ملك إنجلترا قد خدم فى البحرية الإنجليزية برتبة ملازم، وتدرج فى الرتب مثل كل الضباط الآخرين حتى أصبح أدميرالاً، وبعد ذلك بقليل أصبح ملكاً، فطالما كنت على ظهر السفينة فتذكر أنك لست إلا مجرد ملازم، وعليك أن تقوم بالمهام التى تكلف بها وأن تتعلم فنون البحر وعلومه، وأن تطيع رؤساءك من الضباط، لقد وصلت إلى مسامعى شائعات مفادها أنك لا تقف انتباهاً لرؤسائك يا ولدى، أنت لست سوى ضابط صغير على سفينة ويجب أن تعامل كذلك، وحين تغادر السفينة، فأنت ابن محمد على، وعلى الجميع أن يخضعوا لك ويطيعوك ويحترموك، وكلما زدت من علمك ومعرفتك كلما صيتك، يا ولدى لقد تربى أبوك تربية حسنة منذ صباه، وبمضى الوقت أصبح الأخلاق الحميدة طبيعة ثانية له، إذا لم يتحل الشاب بالأخلاق الحميدة فى صباه فإنه يصبح مجرداً من الصفات الإنسانية ويوصف فى أحسن الأحوال بأنه بوهيمى، إنك مصاب بلعنة صفة الغرور المذمومة، حذار يا بنى، التمس صفة التواضع.

كان الخادم يواصل قراءة مراسلات الوالى ليسرى عنه وربما لإنعاش ذاكرته التى أنهكتها الحروب والصراعات والمؤامرات والمطامع، حين انتفض الوالى واقفاً وقد لمعت عيناه واتسعتا وانطلقت يداه تلوحان فى الهواء وتضربان يميناً ويساراً عدواً متوهماً..

أطلق الوالى تهديده ثم تكوم من جديد فى ركن الأريكة وهو يردد وسط ارتعاشات شفتيه وجسده: تركى حمار.. مصرى خنزير ابن خنزير.. تركى حمار.. مصرى خنزير ابن خنزير وواصل الخادم قراءة المراسلات.

كثيرا ما تلقى موظفو محمد على تهديدات بالإلقاء فى البحر أو الدفن أحياء أو قطع الرؤوس أو الوضع فوق خازوق أو نتف شعر اللحية شعرة شعرة، وهى تهديدات وإن لم تنفذ، فإنها أبقتهم فى حالة يقظة دائمة ورغبة فى الإنجاز والعمل.

 

الوفد المصرية