«المواطنة» في فكر وممارسة القوميين والإسلاميين
تاريخ النشر : 2014-02-17 10:04

مفهوم "المواطنة" بحسب ما تواضعت عليه قواعد الديمقراطية، وثوابت الدولة المدنية، والمبادئ الدستورية، وقيم ومواثيق حقوق الإنسان، يقوم على التساوي الشامل لجميع المواطنين، أبناء المجتمع الواحد، على تعدد مشاربهم السياسية واختلافاتهم الدينية والمذهبية، في حقوقهم وواجباتهم، من غير أي تمييز يتعلق بالدين أو المذهب أو اللون أو الجنس أو غيره من التمايزات غير القانونية.
لكن هذا المفهوم الواضح والمحدود والذي تقوم عليه الدولة الوطنية المعاصرة، في دول العالم المزدهرة كافة، لا يحظى بهذا القبول في أدبيات ومفاهيم التيارين السياسيين: القومي والإسلامي، إذ ينحصر مفهوم المواطنة في أدبيات وممارسات التيارين في مفهوم إقصائي للآخرين، غير المنتمين إليهما، سواء في التمييز بين العربي وغير العربي لدى القوميين أو التمييز بين المسلم المنتمي للتنظيم وإيثاره بالامتيازات والمغانم عن المسلم غير المنتمي للتنظيم، أو حتى بالتمييز بين المسلم وغير المسلم ليقتصر مفهوم "المواطنة" فكراً وممارسة على المنتمين دون الآخرين.
وهذا ما لاحظناه بوضوح خلال ممارسات القوميين للسلطة في إقصائهم للأقليات العرقية غير العربية مثل "الأكراد" وغيرهم، وكذلك ما ثبت في تجارب الإسلاميين في السلطة، سنّة وشيعة، في تقربهم للأعضاء المنتمين إليهم وإبعادهم للقوى الوطنية الأخرى من المناصب القيادية.
وكذلك يتفق التنظيمان السياسيان في توسيع مفهوم المواطنة ليعبر حدود الأوطان، والإطار الوطني الجامع لأبناء المجتمع الواحد إلى إطار أوسع وأشمل، فيتسع المفهوم لدى القوميين ليشمل الإطار القومي الجامع للدول العربية مجسداً فيه "الدولة القومية الواحدة" بناء على أن الحدود القُطرية من صنع المستعمر المتآمر الذي رسم الحدود القطرية ليمنع توحد العرب في دولة قومية واحدة، بينما يتسع المفهوم ويتمدد في فكر الإسلاميين ليشمل الإطار الإسلامي الجامع للمسلمين في الدول الإسلامية كافة، سعياً وراء إحياء فكرة "دولة الخلافة" التي سقطت على يد كمال أتاتورك عام 1923، وقد هز هذا السقوط العالم الإسلامي كله في حينه.
لقد لعب هذان التياران السياسيان العريضان على امتداد أكثر من نصف قرن، دوراً بارزاً، في تشويه مفهوم "المواطنة" في عقول ونفسيات قطاع عريض من الجماهير العربية في توظيف أيديولوجي لمفهوم المواطنة والوطنية معاً، وهي الفكرة المحورية الرئيسية التي اتفق عليها النقيضان، ودارت حولها الأدبيات الفكرية والسياسية.
ينقل الكاتب اللبناني كرم الحلو عن أحد القوميين البارزين قوله: "الدولة القُطرية هي لعنة في حياة الأمة العربية، إنها مصدر العذاب والمعاناة والشؤم والمسخ، إنها تمثل - عاهة- تعوق نمو الأمة الطبيعي". لقد غفل القوميون العرب، أن رسم الحدود لم يكن لمصلحة استعمارية بمقدار ما كان ترجمة لتوازنات أهلية وعصبية راسخة، تمتد جذورها إلى ما قبل الحالة الاستعمارية بأزمان طويلة، يعود إلى الزمن العثماني، وآخر إلى الزمن العباسي والأموي، طبقاً لحازم صاغية في كتابه "وداع العروبة"، بل إن المستعمر المتهم بالتفرقة، اختصت مصلحته تاريخياً - في حالات عديدة- في تشجيع ودفع العرب إلى تكوين تجمعات سياسية موحدة كما فعل في توحيد الهند مثلاً. وفي الناحية الإسلامية ينقل مشاري الزايدي - الكاتب السعودي- عن إسلامي خليجي قوله: "لست والحمد لله من دعاة القُطرية، ولا من منظري الإقليمية أو القومية، بل أتشرف برفع راية الأهمية الإسلامية مع كل مسلم، وكل أرض يعبد فيها الله وحده، فهي أرضي وبلدي".
ولا يعنى مفهوم المواطنة أو الانتماء الوطني فحسب، الانتماءات والولاءات الأخرى للإنسان، مثل انتماء الإنسان الفطري للقرية أو المحلة أو حسب الإنسان لمسقط رأسه وحنينه إليه، أو انتمائه لقبيلته وعشيرته، كما لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال مصادرة الانتماء الديني للمسلم في الإطار الإسلامي الواسع، كذلك لا يمنع الانتماء الوطني الانتماء الأيديولوجي أو الحزبي أو السياسي، ولكن المقصود أن يكون للانتماء الوطني الأعلوية والأولوية على الانتماءات والولاءات الأخرى كافة ما دون الوطنية وما فوقها.
لكن القضية ليست في تحديد مفهوم "المواطنة" المتساوية ولا أن الدساتير العربية ومنها الخليجية قد نصت على حقوق المواطنة، المهم ترجمة المفهوم في مناهج تعليمية ومنابر دينية وإعلامية ومؤسسات ثقافية تفسح المجال للتعددية السياسية والمذهبية والدينية، كما يقتضي تفصيل المفهوم أن تنأى السلطات عن تبني خيارات مذهبية أو أيدلوجية أو طائفية أو قبلية، بمعنى تجنب الدولة أي معاملة تمييزية في المناصب والوظائف والامتيازات لفئة على حساب أخرى.

عن الجريدة الكويتية