مستنقع التسريبات
تاريخ النشر : 2014-02-15 10:15

استمرار ما يحدث فى بعض وسائل الإعلام، من نشر لتسريبات، أمر فى غاية الغرابة وغير مفهوم حتى هذه اللحظة، ولا يكشف عن شىء سوى، استهانة حقيقية بقيم أخلاقية أصيلة، وخرق واضح لأسس مهنية إجبارية، والغريب أن جميع أطراف عمليات نشر التسريبات يعتبرون ذلك بطولة وإنجازا مهنيا رفيع المستوى، وبالطبع الأمر فى الاتجاه المعاكس تماما، وربما لم يلحظ البعض أن قصة التسريبات بدأت منذ فترة طويلة، بدأت بمبارك ولم تتوقف عند مرسى، مرورا بوزير الدفاع عبدالفتاح السيسى، وربما أيضا لم يلحظ الكافة، حتى الذين أصبحوا ضحايا للتسريبات فيما بعد، أنهم صمتوا جميعا على ذلك فيما يشبه الموافقة على هذا العمل، ولكن بعد أن طالت التسريبات غالبية من كل الاتجاهات بدأ الجميع فى الصراخ والاعتراض، فمثلا حينما طالت التسريبات مبارك المريض، لم يتحدث أحد عن ما فعله الأطباء بتسريب خصوصيات مريضهم السجين، ولم يتوقف قادة الرأى العام عندها، وغالبا هذا ما شجع الجميع فى الاستمرار فى ممارسة هذه اللعبة السخيفة، ومن المحتمل أن يكون صمت البعض فى البداية، هو ما دفع الرأى العام لعدم الالتفات لصراخهم الآن.

اللافت للنظر، أن جميع الأطراف متورطة فى هذه اللعبة، فتسريبات السيسى مثلا، سأل الناس: كيف تم تسريبها، ولم يسأل أحد: لماذا يتم نشرها، تماما مثل حدثت تسريبات مبارك، ثم كانت الطامة الكبرى بنشر تسريبات حوار بين متهم ومحاميه، حتى لو كان هذا المتهم رئيس جمهورية، فيبقى متهما له جميع الحقوق والحماية فى الدفاع عن نفسه، تماما مثل مبارك، لم يكن من الواجب أبدا نشر تسريبات عنه من فراش مرضه، ناهيك عن المكالمات الشخصية للنشطاء، وكل هذه التسريبات تكشف عوارا حقيقيا عند جميع الأطراف، بما فى ذلك قطاع لا يستهان به من الرأى العام انشغل بها حقا، وتعامل مع ما احتوته دون أن يتوقف لحظة أمام عدم أخلاقية ما يحدث، طالما أنه يخدم أهداف معسكره.

فى كل الأحوال تبقى قضية فى غاية الخطورة تتعلق بوسائل الإعلام التى ساهمت بنشر هذه التسريبات، دون أن تسأل نفسها عن مشروعية ذلك، أو مدى ملائمته المهنية، أو حتى ما أهمية أو فائدة ذلك للرأى العام، سوى المزيد من إثارة البلبلة، وتمكين التشوهات من المشهد العام، وهى تشويهات تصيب الجميع، بما فى ذلك الإعلام، الذى لا يدرى حجم خسارته مما فعل، وأعتقد أن من فعلوا ذلك لم يسألوا أنفسهم عن موقف الجماهير، وهل حقا ما يفعلونه يحذب الرأى العام للإعلام، أم ــ للأسف الشديد ــ يصرفهم عنه بشدة، ويقضى على ما تبقى من مصداقيته.

التسريبات، ليست نميمة لتسلية مشاهدين أو قراء، بل ضرب عنيف فى أعمدة سياسية وإعلامية، ولا أبالغ لو قلت وأمنية أيضا، إلى جانب أنها اعتداء وحشى على الحريات الشخصية، وتجاوز فى حق مرضى ومتهمين، ومسئولين، واستهزاء فج بالدستور الذى يحمى هذه الحريات ويصونها ويضعها فى مرتبة عالية، والحالة على بعضها تكشف عن انهيار أخلاقى لا يليق بثورة يناير، ورغم كل ذلك تبقى القضية فى حجر الإعلام أولا وأخيرا، والذى بات مطالبا باتخاذ موقف حاسم حيال هذه التسريبات، مع الإسراع فى وضع مواثيق الشرف التى تضمن وتصون الحريات الشخصية، فحرية الصحافة لا تعنى أبدا انتهاك حقوق الآخرين، ولا صحافة حقيقية، بلا التزام بمعايير وأخلاقيات نعرفها جميعا، ولكن لا نتحدث عنها إلا حينما تصيبنا نيرانها، وهذا ما جعل التسريبات تتشجع وتجد لها مكانة متفوقة فى حياتنا السياسية والإعلامية.. فالجميع كانوا شركاء فى الجريمة، وعليهم الآن أن يتشاركوا فى الخروج بنا من هذا المستنقع.

عن "الشروق"المصرية