قضايا للنقاش قبل المؤتمر السابع لحركة فتح
تاريخ النشر : 2016-11-28 19:36

ثمة مشروع إقليمي كبير وقوي، يدبّ بحمولته الدّاهمة، ويستبيح كل شيء، ويسعى، ضمن ما يسعى إليه ، إلى تفريغ حركة فتح من محتواها الوطني والحضاري والإنساني، لتصبح أداةً طيّعة ، تساهم في ترتيب المشهد القادم، الذي سنكون على هامشه، ولا حضور لنا فيه . علاوة على أن كل الضغوطات التاريخية، والممّرات الإجبارية التي وجدت فتح نفسها مضطرة للدخول فيها، وكذلك هوامش الخطأ والسلبية التي تنامت على ضفاف الحركة .. كلّها عملت على محاصرة فتح وصدّها والعمل على تخلّيها عن أهدافها، ووصولها إلى حالة من الذبول والوَهَن،  وجعلها استطالةً لن يتعاطى معها أحد، ما لم تثبت انسجامها معه ومع تطلعاته المُعاكسة لتطلعاتنا .. وإلاّ فإنها ستتلقّى المزيد من التهميش والتفتيت والضربات والتغريب ، ما يجعل كل كوادر فتح على بيّنة مفادها أن المؤتمر السابع هو الأكثر خطورة، وأمام امتحان ستكون فتح من بعده ؛ إمّا حاضرة بروحها الأولى، أو مُلقاة على رصيف الفراغ والعجز والتلاشي .

إن حركة فتح صاحبة الريادة والإرْث والصنائع البيضاء، لا تستحق مثل هذا المصير التراجيدي المُحدْق، وتتطلب منّا، في هذه اللحظة، وعلى عكس الذين قفزوا من السفينة، بحثاً عن المصلحة والذات، أن نقول ما نعتقد أنه يصبّ في مصلحة إحياء وإنهاض وترميم حركة فتح، لتتولى مهماتها التاريخية، وتجيب على الأسئلة الكبيرة والتحديات.

إن الشعب الفلسطيني برمّته يتطلع بأمل كبير إلى المؤتمر السابع، ولن يقبل شعبنا من فتح ، بأقلّ من إجابة شافية وواضحة مفادها بأن فتح ستظلّ مُعَبّرةً وحاملةً لأحلام اللاجئين والقدس والشهداء والجرحى والمعتقلين ، وأن حمولة اللحظة الآنية لن تغلبها وتكسر ظهرها !

إنّ فتح في تبنّيها لتطلعات شعبنا الفلسطيني، إنما تؤسّس لنظرية تاريخية غير مسبوقة، كما أنها تقدم وفاءها الواجب لأرواح أولئك الذين سقطوا عالياً، دفاعاً عن المبادئ والأهداف والثوابت، ولا نريد أن نتوقّع عكس ذلك، حتى تظلّ أرواح الشهداء راقدة بسلام ورضى .

واعتقد أن ثمة سؤالاً جوهرياً يختصر الأمر برمّته، وهو برسْم كل عضو في المؤتمر السابع : هل تقبل أن تكون أداة أو ذراعاً أو رقماً، يتمّ استخدامه لتمرير مشروع تصفية فتح ؟ أم ينبغي أن يسمعك المؤتمر، وتكون لديك وجهة نظر محددة وموضوعية وواضحة، وتشعر بالمساواة مع كل الأعضاء، وأن أحداً لا يستطيع أن يأخذ دورك وصوتك وقرارك ؟ أو، بلغة أُخرى: هل ستكون الاجتماعات نقاشاً هادئاً، يصل فيه المجتمعون إلى قرارات جامعة تُعيد تعريف الحركة بمفرداتها الأصيلة ، بعيداً عن الاصطفاف المشبوه وفسح المجال للمُتَسلّلين لقضم استقلالية فتح وفرْض الوصاية المُريبة عليها ، بالمال المستَورَد واستدخال  رجالات الاحتلال وأزْلامه الناتئين ؟ وهل سنشهد الإيقاع نفسه لأوركسترا القوى المُعادية التي تآمرت على رمزنا ياسر عرفات ثمّ نسمح بإعادة تمثيل المشهد ذاته ، أمام أبصارنا وبصمْتنا العاجز،  على القيادة الحالية ، تحت دعاوي الحفاظ على فتح أو درْءاً لمخاطرٍ تتهدّدها ؟

وإذا ما وجدنا بعض الأصوات الإقليمية أو المحيطة أو المحلّية تنادي بِلَمْلَمة حركة فتح وتجميع قواها ، فإن هذه الأصوات تريد لفتح أن تكون قوية إلى حدٍّ ما ، لا لنفسها ، ولكن لمواجهة توجّهات فكرية وسياسية سلفيّة وغير ليبرالية ، أو لاستدخال رجالاتها المأجورين لتقود فتح حيث تريد تلك الدول والأصوات ، رغم أن المطلوب من هذه الأصوات أن تسعى لِلَمْلَمة الوضع الداخلي وإعادة الُّلحمة والوحدة والمصالحة بين كل الأطياف والمكوّنات الفكرية والنُخب الفلسطينية ، على أساس برنامج الحدّ الأدنى ، وتقديم الدعم المتواصل والعمليّ غير المشروط للمرابطين المدافعين عن مقدّسات الأُمّة ، وليس لترقيع جانب صغير في ثوب الحالة الفلسطينية ، وفرض الشروط وإنزال الفرَمانات المشبوهة.

إن الفتحاويين مدعوّون للمحافظة على مناعة فتح الوطنية ، وعدم السماح باستلاب قرارها النابع من رؤيتها وعقلها ومصالح شعبها، لإعادة صقل وحماية المفاهيم الأساسية، التي ميّزت حركة فتح، وجعلتها رائدة جاذبة ونافذة وعظيمة، ونعني بذلك مفاهيم التعددية والحريّة والاستقلالية، جنباً إلى جنب العطاء غير المحدود والتضحية البليغة، في جميع مراحل ومواقع النضال الفلسطيني .

كما أنهم مدعووّن إلى البَدْء بمرحلة جديدة ، تتعلّق بتخليص كل عناصر الحركة من الارتماء الرّخيص في أحضان الشُبهات الإقليمية  ومن شوائب الانتماء العشائري والجهويّ، والتركيز على وضع كل الأعضاء في مَرْجل إعادة الصياغة، ليكون لدى فتح عناصر أكثر نقاءً وأكثر امتلاءً ومعرفة وأهليّة، أي أن يتم التركيز على النوع والكَيْف، بعيداً عن التجميع الكميّ والاستقطاب المالي والجغرافي والقبَلي، ولا يتمّ ذلك وقيادة الحركة تتعرّض للضغوطات والابتزازات وللاستزلام وشراء الذمم والتجييش، في لحظة تاريخية تعجّ بالتحديات الهائلة على كل الصعد والمستويات .

وإن أصحاب الاصطفاف والاستقطابات المُمضّة، يدفعون المؤتمر السابع نحو تقسيم "الكعكة" بين الأمراء والمدعومين والمتنفّذين، بدل تغليب الأجندة الأساسية التي ينتظرها الناس، وبدل تمتين فتح، لتصبح أكثر قدرة على المجابهة والثبات، والانطلاق من جديد.

كما أن فتح التي نهضت على منجزات وبطولات فذّة وعبقرية، وعلى دماء رموزها التاريخيين ومعاناتهم في الخنادق والمعتقلات، وأن فتح التي تمتلك سرّاً أسطورياً يستطيع أن يجمع كل غبارها المتناثر ليصبح سبيكة صلبة وقت الشدائد، وأن فتح التي تتعرّض للتفسّخ، من قِبل شرذمةٍ تقبض وتصرف كما يبدو، هذه الأيام، هي فتح التي تتلمّس طريق العودة إلى روحها الأولى الساطعة والجامعة، وستستطيع فتح أن تنجح للإجابة على الأسئلة التي تتقدّم نحوها،لأن بوصلتها متّجهة نحو القدس، إلى أن ترفع العلَم على سارية الأسوار والقباب، ولأنها ستشيع فضاء التعبير الحرّ والعدل والميزان في مؤتمرها. وأعتقد أن فتح هي الأكثر أهليّة وجدارة، عبر كوادرها المناضلين التطهّريين، الذين ورثوا الآباء ولم ينزلوا عن الجبل، لأن يقولوا للجميع دون استثناء، إن فتح ما زالت ممسكة بالثوابت وحارسة للأحلام، مثلما هي غير قابلة للتجريف والتكيّف لتكون على مقاس هذه القوة أو تلك الدولة أو الإقليم .

وتعي فتح أن المأسَسة هي أساس المُعافاة والحصانة لأي جسم تتمّ إدارته ، ثُمّ إن القبول بالتخلّي عن أيّ حقٍ ، مهما كانت الذرائع والمُرافعات والمبررات ، سيفتح الباب لتنازلات قادمة على الطريق.

إن فتح التي جاءت منسجمة مع فِطْرة الفلسطيني ، جعلت كلَّ الشعب الفلسطيني فتحاوياً، وتركت له مطلق الحرية ألّا يكون فتحاوياً ، متى يشاء ! إن هذه العبقرية هي سلاح ذو حدّين أيضاً ، ويتطلّب اقتراحاً فكرياً لم تنجزه فتح نظرياً ، وفقاً للفكرة العملية التي هي بالأساس فكرة نظرية قابلة للتطبيق ، لأن السلوك العملي الخالي من المكوّن النظري ليس أكثر من ارتجال. وعليه فإن فتح التي تدرك أخطاءها بوضوح ، دون تجميل أو إنكار، ستضع البلسم المطلوب لكي لا تنجرح أو تتلوّث ثانيةَ بالمدفوعين تخريباً إلى  صفوفها ،  أو بالتراجع أو العجز .

إن كل شيء، وبالذات المتناقضات تتساوى، في زمن الهزيمة والانهيارات، وكذلك تنمحي الفروق والخصوصيات، وقد يتراءى للبعض أن المناضل في زمن الجَزْر والانكسار يتساوى بالمتنازل والبائع . إن وجهات النظر المتعارضة، تجد كل منهما لنفسها مرافعة وجيهة، تصدّ بها مرافعة الأخرى، حتى يجد المرء نفسه حيراناً ضائعاً أمام براهين الطرفين المتغايرة، ما يؤكد أن وجهة نظر المُغْرِض لها قوة وجهة نظر المُقاوم، في زمن الارتباك والالتباس. عدا عن أن المنطق الساذج سيقول بأن هاتين هما وجهتا نظر، لا فضل لواحدة على أخرى، ولا يمكن إدانة واحدة وتشريف الثانية . وهذا ما يجعل المهمة أمام عناصر فتح صعبة إلى حدّ كبير، ما يعني ضرورة التروّي قبل الحسم، والتدقيق في المصطلح قبل الموافقة أو المعارضة .

وإذا اعتقد البعض أن فتح قد لعبت دوراً في غاية الأهمية، في تشكيل مجتمعها، من أجل فكرة التعايش وقبول الآخر، وقبول تقسيم الوطن التاريخي، على ما فيه من ألم وتنازل غير مضمون، بسبب سقوط التاريخ على كاهل فتح، فإن المجتمع الإسرائيلي، في المقابل، ومنذ أوسلو، حتى الآن، وبالذات اليمين الإسرائيلي المتطرّف والمتوحّش والدموي والتلمودي، قد ذهب بعيداً في التنكّر للحقّ الفلسطيني والوجود الفلسطيني، بل أكثر من ذلك، فإن التيار الصهيوني العريض وهوامشه اليمينية، قد أذاب الهوامش اليسارية منه، بحيث تحوّلت النُخب الإسرائيلية الحاكمة والمثقفة إلى داعية للاستيطان والطرد والقتل والحرق والابتلاع وإعادة الاحتلال. وفي هذا كشف حقيقي لرؤية كل طرف على المستوى الاجتماعي والثقافي لاتفاق أوسلو. ويمكن القول أكثر من ذلك؛ إن أوسلو غيّر المجتمع الفلسطيني إلى القبولية، في حين حوّل المجتمع الإسرائيلي إلى كامل الرفض! وهذا يدفعنا للقول، إن المجتمع الإسرائيلي لا يمكن له أن يصنع سلاماً مع الآخرين، فضلاً عن نفسه.. ولهذا يدفع الإحتلال بعناصره المأجورة لأن يُجْهزوا على فتح ويقدّمونها لقمة سائغة للهضم والابتلاع .

وقد وَقَع العالم الغربي في خطيئة أخرى من خطاياه؛ وهي أنه ساعد ودعم وحاول نشر فكرة القبول للإسرائيلي داخل المجتمع الفلسطيني، عن طريق مراكز البحث والدعم المالي والدورات وخلق النُخب وتشجيع المبادرات وربط المساعدات بهذه الثقافة الجديدة، في حين أن هذا المجتمع الغربي لم يطلب من الإسرائيليين الشيء ذاته، الأمر الذي تحوّل فيه الإسرائيليون إلى متطرفين أكثر فأكثر .. بحيث شهدنا، منذ أوسلو حتى اللحظة، تفريخاً متصاعداً لأحزاب اليمين المتطرّف والمتوحش والحاخامي.

إن فتح تحتاج، في داخلها، إلى ما يُسمّى بالكتلة التاريخية، بالمفهوم الغرامشي، أو لإسمنت يربط كل أطراف الحركة ، وتكون هذه الكتلة الخليّةَ الصحيّة القادرة على جذب الخلايا الحيّة، والتي تستطيع أن تحتلّ المساحات البور واليباب في جسد الحركة المُرْهَق .. برؤية متكاملة أوّليّة تتغذّى على تصوّرات واقتراحات ورؤى تحقق الإجابات المطلوبة لكل سؤال ، على أن تكون هذه الكتلة فلسطينية بامتياز ، وأن تكون ثقافة هذه الكتلة ثقافةَ المقاومة الواعية لقوانين الصراع وقوانين التحرر الوطني ، التي تتسع لكل معاني المقاومة، غير المختَزَلة في شكل واحد، يتناقض مع جدلية المقاومة والنضال .

 

إن حركة فتح تدرك أن الجمر الساكن تحت الرماد ما زال متّقداً، ويصلح لأن يدبّ ثانية في لحم العتمة، ليسيل النهار فتيّاً من جديد، رغم إثقال الزمن الفلسطيني بكل أسباب البطء والموت والتخلّف والتشظّي والحرمان والقهر والعدميّة.

وقد يبدو أن تجليات الجَزْر والتراجع في الوعي الجماعي الفلسطيني بادية للعيان، منها توجّه بعض الكوادر نحو الخلاص الشخصي، والابتعاد عن الفعل الجماعي، وعدم الثقة بالعمل الطوعي والجمعي، عداك عن الذهاب للانتماء إلى الحلقات الصغيرة كالبلد أو العشيرة أو الشلّة، وكذلك فإن تقمّص البعض للقاتل هو أحد تجليات الإرتكاس، إضافة إلى أن استخدام البعض للغّة النهائية (التكفير، التخوين ..الخ) هي لغة المهزومين، علاوة على أن الكفر بالحضارة والتاريخ والثقافة والجذر الأصيل هي من مميزات المقهور والمهزوم، كما أن إشاعة لغة الكآبة والإحباط والسواد والتعبير عنها هي من مفردات المهزوم، إضافة إلى أن تمزيق الذات الوطنية أو الحركية والإساءة إلى الرموز وإهانتها هي من مسالك المهزوم وسجاياه العقيمة .. لهذا فإن فتح مدعوّة لمواجهة ذلك، بعد إدراكه وتفهّمه، ووضع العلاجات الأكثر مناسبة، للبدء بتأريخ جديد، تبدأ معه فتح تاريخها الحديث، وانطلاقتها الجديدة .

      وحركة "فتح"  لم تتجاوز تماماً مرحلة التكاتف والإيثار والتضحية الجماعية والتآزر والتسابق للشهادة والتسامح الوطني وقانون المحبّة، أي ما يُسمّى في المرحلة الأولى للثورات بِ" الرومانسية " ، ويريد البعض أن يُدْخلها إلى مرحلة الإنفراط والتخلّي الواضح عن الشعارات والأهداف ، لغير سبب .. وإنّ ذلك  يجعلنا نقف على بوابة المرحلة الثالثة أو ما يُدعى بإعادة التلاقي والتقاطع والتخلّص من الأدران ، أو مرحلة الثورة في الثورة ، على طريق التجمّع الأكثر نضوجاً وعمقاً لنُخَبٍ تواصل المسيرة حتى تحقيق الأهداف ! وفتح ما فتئت في المرحلة الثانية القاصرة ، ومن الصعب عليها - لكنه ليس مستحيلاً - أن تلج مرحلة إعادة تعريف الذات وتجديد الإنطلاقة ، بمعاصرة وواقعية ، إلا بشروط ، بعد أن أصبحت " ظاهرة " فتح تحت المِجْهر الإسرائيلي وفوق طاولة الإحتلال، وباتت مكشوفة إلى درجة كبيرة ! ولا يغطّيها سوى دم أولئك الأفذاذ ؛ الشهداء والأسرى والجرحى، والذين لم يغادروا مربّع الأحلام الصعبة ، وما زالوا يتمسّكون بالثوابت.

وتدرك فتح أنها أمام حقائق صادمة ؛ أوّلها أن حلّ الدولتين قد ذهب مع الاستيطان ، وأن حلّ الدولة الواحدة سيقود الى نظام أبرتهايد مخيف ، نرى إرهاصات حرائقه في كل أرضنا المحتلة ، وأننا ذاهبون إلى حصار ، سيفرضه المستوطنون وينكّلون بنا وبأشجارنا وبيوتنا ودروبنا.. فما هو السيناريو الذي وضعته فتح لمواجهة هذا الرعب القادم ؟ والحقيقة الثانية أن الفصائل الفلسطينية قد انفرط بعضها أو انكمش أو فَقَدَ تأثيره المعهود، أو يسعى إلى خيارات تعميق الإنشقاق والإنقسام والبحث عن اتفاقيات ، إنْ تمّت ، ستقضي على مشروعنا الوطني ، فماذا أعدّت فتح لإنهاض الفصائل والحيلولة دون التشظّي وتخريب الوحدة الوطنية ، عبر انتخابات واجبة للمجلس الوطني والتشريعي والرئاسي . والحقيقة الثالثة أن القوى الكبرى لن تهبّ لتقديم " الدولة" لنا على طبق نظيف ، لأسباب معلومة، وأن عمقنا العربي يشهد درساً في الخراب والطحْن والعدمية ، وأنه منشغل بنزيفه المهول . عدا عن حقائق "داخلية" تشير إلى أزمات اقتصادية واجتماعية ووطنية شديدة الصعوبة والتعقيد ، مثل البطالة والهشاشة .. فأين فتح من كل هذا ؟ وهل تمتلك إجابات شاملة وعلمية وواقعية ؟

ويمكن تلخيص أهم الأسئلة التي تتقدّم نحو فتح ، أو ما يشكّل تحدياً لها ، من قضايا عسيرة ، يتمثّل فيما يلي :

1- إن ما كان يصلح من لغة وخطاب قبل إحدى وخمسين سنة لم يعد يصلح اليوم ، لأن المسائل التي تصدّت لها ، وصُمّمت من أجلها فتح  لم تعد هي نفسها اليوم.

2- لقد تعرّضت  فتح لعملية إفساد مُمنهجة بدأت منذ عقود من قبل قوى إقليمية ودولية وعربية ، إضافة الى عملية تجريف وتفريغ لمحتواها الوطني والثوري والثقافي والتطهّري ، ما جعل هوامش السوء والنتوء تحتل مساحات كبيرة داخل فتح.

3- إن الهدف الذي وضعته فتح لنفسها عند انطلاقتها كان يتركّز حول تحرير الوطن، لكنها اليوم تجد نفسها قد انغمست في إقامة السلطة الوطنية ومشكلاتها وقضاياها ، إضافة إلى الانخراط الإجباري في حِراك العمل الإقليمي، ما جعل سؤال التحرّر وبرنامجه يتأخّر ويتخفّى .

4- لقد هرمت حركة فتح ، التي لم تفسح المجال للأجيال الشابة لأنْ تنسرب في شرايينها ( أصغر عضو في اللجنة المركزية تجاوز عمره خمساً وخمسين سنة)، ما جعلها حركة قديمة من حيث القيادة والأدوات والتفكير .

5- إن الهيكل الذي قامت عليه فتح لم يعد يصلح اليوم من حيث الاستطالات والأذرع التنظيمية والمواقع ، ما جعلها في مواجهة أزمة بنيويّة عميقة مركّبة وشائكة.

6- لم تستطع حركة فتح أن تجدّد خطابها واجب الوجود،  الذي ينبغي أن يجيب على تساؤلات اللحظة، بقدر ما نجد خطابات متعددة ومتناثرة ومشتتة للحركة ، ما ينفي وجود نصّ متماسك حداثي جامع وقادر على المجادلة والنفاذ والتأثير.

7- إن حركة فتح اليوم تعيش تحت الشرط الاحتلالي ،  الذي يسعى للعبث في أحشائها والتأثير في مكوّناتها والعمل على قتل الخلايا الحيّة فيها.

من جهة أخرى ، يؤكد كثير من المفكرين والسياسيين، أن أية مجموعة سياسية، تعمل تحت الشرط الاستعماري، وتكون مُحاطة بقوة الاستعمار، وتحت ضرباته، هي مجموعة غير قادرة على إحداث فرق نوعي. بل يذهب بعض المثقفين للقول إن حركات التحرر في زمن الهزيمة مُجْبَرة إلى الإنزلاق، ولا تستطيع التوقف إلاّ في قاع الهاوية.. لهذا نجد أنفسنا مضطرين لمجابهة هذه المقولات من باب التحديق في المرآة والمناقشة، وسبر غور هذه اللحظة التاريخية، التي تصطخب فيها غير قوة ورأي ووجهة نظر، وتشهد دعوات حاسمة، تنادي بضرورة أن تستعيد حركة فتح دورها، ولتجد لها ولنا الكوابح الكافية ، لإيقاف تلك الهرولة وذلك الإنزلاق الذي يومض بتسارعه نحو الحضيض .. ما يستوجب البحث عن انطلاقة جديدة، أو ميلاد ثانٍ للحركة، تتجاوز به عوامل الهضم والتذويب والإخضاع والتطويع. باختصار؛ نريد أن يكون المؤتمر السابع ولادة طبيعية بإجراءات سليمة تحافظ على الكائن وتحفظ مستقبله الشائك.

وإن المناخ الذي خلقته أوسلو عمل على  تهشيم الفصائل ونظام الحركة الأساسي، وأسست لفكر جديد، تجاوز البرامج والمبادئ، ولم نجد المسافة بين السلطة وبين " الثورة "، وآمنت بالسلام استراتيجياً، ولم تضع بديلاً إذا انهار السلام – وقد انهار - ، وأشاعت ثقافة التسويات.

وعلى مدار أكثر من عشرين سنة ، فقد سيطر الارتباك والتردد والضبابية في إدارة فتح تنظيمياً وجماهيرياً وسياسياً، وهذا ما اتّضح في انتخابات البلديات والمجلس التشريعي الأخيرة، لأن موازين القوى لم تكن راجحة لنا بقدر ما كانت ضاغطة علينا، ما دفع  بفتح - عملياً - لأنْ تضع كل بيضها في سلّة العملية السلمية التسووية، والتي لم يلمس المواطن منها سوى الاستيطان والحواجز والفقر. كما أن فتح لم تستطع أن تحيّد نفسها تماماً، أو تجد مسافة متساوية بين المتناكفين العرب، بل وخسرت الكثير من " أخلاقها " عندما اصطفّت مع أنظمة تحرق مواطنيها وتجزرهم بساديّة وجنون ! وعاكست روح الثورة التي أطلقها الباحثون العرب عن الخبز والعدالة والكرامة، قبل أن يتمّ اعتراض ثورتهم وتلويثها وإزاحتها عن جادّتها الأولى .

  وعلى فتح أن تستعيد بقوة أكبر شرعيتيّها اللتين تمدّانها بالحيوية والحضور والنفاذ ، وهما الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية ، رغم ارتباك شرعيتها الإقليمية بسبب اصطفاف قوى ودول إقليمية مع النقيض ، إضافة إلى وجود عقبات كأداء أمام ما يُسمّى بشرعية المستقبل  ( حقّ الأجيال القادمة في الحقوق )  وشرعية العمل الوطني الجماعي ( أن تعمل بمنطق الكلّ 

الوطني ).

إن الشرعيتين الثورية والانتخابية أو إحداهما، لا يمكن الحصول عليهما أو إنجازهما إلاّ عبر الجماهير وبها.

إن اندفاع قيادة حركة فتح ومكابدتها نحو البقاء والسيطرة، يجب ألّا يدفعها نحو خيارات خطيرة جداً، تتمثّل في وضع نفسها في خدمة المخططات الإقليمية والدولية، كما يحلو للبعض المحيط بنا، بحيث تحوّل من إطارٍ وطنيّ إلى نُخْبة سياسية أمنية، تنفّذ برنامجاً يصبّ في خدمة الرؤية الكبرى للقوى المتحكّمة ومصالحها المختلفة، لترتيب المنطقة واستلاب ثرواتها، ورسم سياسات بعيدة المدى.

كل ذلك على خلفية عدم الإنجاز السياسي بسبب التعنّت الاسرائيلي والانحياز الأمريكي الظالم ، والإخفاق التنموي لسيطرة إسرائيل وإجراءاتها التخريبية ،  والتخشّب الفكري أو غياب الرؤية الثقافية بمعناها الإجتماعي . ولهذا فإن كل ما نشهده من تراجع للصورة الفلسطينية والنموذج الفلسطيني، ورغبة البعض في أن يغسل يديه من قضيتنا، هو نتيجة لما وصلت إليه رائدة الكفاح والمقاومة فتح، التي استمدت شرعيتها وتأثيرها الغلّاب من مشروعها الكفاحي.

وحركة فتح  قد وَقَعت في إشكالية، "منُجَز السُلطة" و " مُنجَز المقاومة " إذا ما اعتبرنا أن " السلطة " خيار دولي أكثر منه إنجازاً وطنياً أصيلاً !

 وعلى فتح أن تَلعب بقوة في السياسة والدبلوماسية ، وأن تلعب باحتراف في المقاومة، بكل أشكالها الشرعية والمُتاحة، وأن تلعب في المنظور المستقبلي عبر تخليق القوى المطلوبة، وتدعيم كل أذرعها التي تبقيها على مستوى التحديات السياسية وعلى الأرض ! كما أن فتح ليس لديها إعلام قادر وقوى ومهني ، وليس لديها مؤسسات ثقافية ومُنْتَج يعبّر استراتيجياً عنها ويسوّق مقولاتها ، وتشكّل أدبياتها وجدان عناصرها الطالعين، وليس لديها مشاريع اقتصادية ، عدا عن أن عناصرها الموزّعين على النقابات وفي الاتحادات منسيّون ، ولا تربطهم بفتح علاقة ساخنة تذكّرهم بأنهم فتحاويون ، ما خلق غُربة بين الكادر الفتحاوي وحركته، وهذا أدى إلى تراخي العلاقة وفتورها، وسهولة الإفلات أو التقيّد بقراراتها ! وهذا أغرى البعض للتطاول والنقد الشخصي البشع والتسرّب منها، والذهاب نحو الكآبة والانطواء. مع تأكيدنا على ضرورة حفظ الحق المقدس للنقد البنّاء، دون قيد أو شرط على الحرية، سوى المزيد منها.

وعلى الجميع أن يعتمد ويُحَكِّم النظام الفتحاوي لحسم مسألة العضوية للمؤتمر، وأن نشهد سلامة الإجراء، ونبتعد عن موضوعة تشكيل القوائم والمرشحين للجنة المركزية أو المجلس الثوري، ما يؤكد السطحية والمصلحة الشخصية الغالبة على هؤلاء، الذين لم يدركوا أهمية تركيز الحوار حول الإعداد والتشخيص والاهتمام الحقيقي لإنجاح المؤتمر ، الذي أراه يفتح الأبواب على مصاريعها، ليخرج الهواء الفاسد، وتدخل شمس القدرة على قول كل شيء، دون مواربة أو نقصان.

وإن حالة البؤس التي تعيشها حالتنا الوطنية والفصائل، ناتجة عن بؤس في حركة فتح ، لا بدّ من تجاوزه بعد إدراكه وتفكيكه . وبالتأكيد فإننا نعي كل أشكال وآليات استراتيجيات الاحتلال القوية والمتواصلة، ودروها في تخريب ومحاصرة وتهديم الذات الحركية والفلسطينية، ولكن أقول : آن الأوان للردّ على غوائل الاحتلال، وخلق الفعل المتناغم والمناسب، والقادر على إبقاء حركتنا حاضرة ومتماسكة، لتمتلك عوامل الصدّ والثبات والإنهاض، وإشاعة الخَلْق والوحدة والطهارة والإيثار .

    ونرى أن على المؤتمر السابع أن يُعيد تعريف "فتح" كحركة نضالية، تستمد شرعيتها من طرحها النضالي المتعلّق بتحرير الأرض لزاماً، دون الوقوع في مفاوضات عبثية ولا طائل منها، وتشكّل ذريعة لتجميل الاحتلال وبقائه، ما دامت هذه المفاوضات دون مرجعية ودون سقف زمني ودون ضمانات دولية أو إقليمية .

   وأن على المؤتمر السابع أن يحدد موقع فتح ومسؤوليتها بالنسبة لكل من السُلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهل هي حركة تحرر وطني أم حزب لبناء السلطة أم التزاوج بين الأمرين؟ إن هذا التحديد سيفيد الحوار الوطني الداخلي، ويجعل منه سهلاً وقابلاً للتحقّق، ويحرج الطرف الذي يرفض التوافق الوطني ويكشفه. وعلى المؤتمر القادم أن يؤكد على أن الوحدة الوطنية تتقدم على كل أمر ، وأن الإنقسام ليس قَدَراً ، وأن فتح هي التي تقدّم التضحية الكبرى في سبيل توحيد الفصائل ووحدة الوطن ، وأن ذلك يكون بأن تتقدّم فتح برؤية متكاملة تنهض معها بمنظمة تحرير جديدة تشمل بعباءتها كل القوى على قاعدة وطنية سياسية جامعة وبمؤسسات ناشطة وحيوية وشابة ورائية .

   وعلى المؤتمر السابع أن يقضي على ظواهر القوى والتيارات والوجاهات والأمراء والأجندات وتأثير الأموال، وأن يقوم هذا المؤتمر بحلّ أزمة الأجيال والجهويات، والإنتماء إلى الدوائر الصغيرة، عبر المكاشفة والمحاسبة، بعيداً عن التخوين والإعدام، وإقرار قانون المحاسبة بجانب قانون المحبّة والأخوّة النضالية .

   وعلى المؤتمر السابع أن يشير، بما لا لبس فيه، إلى خواء التعبئة الفكرية منذ عقدين ، والمتميزة باضطرابها وتفككها، والعمل على نشر رؤية فكرية تعبوية، تقرأ الواقع كما هو، جيداً، وتفسّره، وتقدم الحلول المطلوبة على غير صعيد، بمعنى أن على فتح وكوادرها ونُخبها، تقديم برامج مكتملة ووطنية للنواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعليمية .. الخ ، وتكون هذه البرامج لها صفة التكامل، وربما تكون القاعدة التي ينبغي أن تقوم عليها برامج السلطة .

    وعلى المؤتمر السابع أن يعتمد الطرائق التنظيمية / البنيوية التي من شأنها إعادة هيكلة فتح من القاعدة إلى القمة، وهذا يعني استحداث أنماط هيكلية غير تلك التي أثبتت عقمها وهشاشتها واختراقها؛ بكلمات أخرى على المؤتمر أن يقرّر بأن هذه الحركة ليست حشداً جماهيرياً بل حركة نضالية لها قوام وملامح وحدود وتعيش تحت ظروف الاحتلال الذي لم ينته بعد . غير أن هذه الحقيقة قد تغيب عن البعض أحياناً كثيرة !

 إن السريّة والتنظيم العنقودي والخلايا .. هي مفردات لم تعد قائمة اليوم، وما أحرى بنا لأَنْ نجترح ما يناسب لحظتنا التاريخية المعيشة !

    وعلى المؤتمر السابع أن يرمّم صورة فتح عبر إصلاحها، بشكل عام، حتى لا تظل صورة مُتَّهمة وفي دائرة اللعنة والشك.

 إن إصلاح واستعادة فتح لروحها وفاعليتها سيرفع من مستوى أداء الفصائل التي تحللت وأنكمشت، وسيواجه أي خطاب ينأي بنفسه عن الوحدة الوطنية ومصالح فلسطين الكبرى، ويسمح لنفسه بالارتباط بأجندات إقليمية ..

   وعلى المؤتمر السابع أن يستحدث دوائر وهيئات ثقافية وإعلامية وتربوية قادرة على وصل القاعدة بالقمة، وإحداث حراك ذهبي بين كل الكوادر والعناصر، على اختلاف مواقعهم ومهامهم، لجعلهم يقفون على خطّ واحد . لأن الاهتمام الكامل والشامل بالعنصر أولاً، هو ذخر هذه الحركة الذي فقدته، وإن ذلك سيؤدي إلى تساوي الفُرص داخل الحركة، التي تحتاج إلى دافعية وتنافس شريف ودماء خضراء جديدة .

    وعلى المؤتمر السابع أن يؤكد مرجعياته النهائية التي لا نقاش حولها ولا اختلاف، وهي المرجعيات العربية والإسلامية، وإن أية اتجاهات نحو الانكفاء وإدارة الظهر والنكوص لحضارتنا وعمقنا، يجب أن تواجهه فتح بالرفض والإدانة.

ونتمنى على القائمين على هذا المؤتمر، ألّا يتيحوا المجال لطرف كي يفرض وجهة نظره أو مداخلته أو أجندته غير المرئية والجاهزة سلفاً ! وخصوصاً أن ثمة قضايا كبرى، يجب تداولها في هذا المؤتمر، ولا يجوز معها الإنجرار نحو الصغير والمبتذل، كما لا يجوز معها التعنّت وتجميع عوامل الضغط لحسم وجهة نظر على حساب أخرى .

إنّ كوادر حركة فتح، التي حملوها وحملتهم، لا يمكن لهم إلا أن يؤكدوا على هويتنا الوطنية الفتحاوية ، بإنجاح المؤتمر الذي سيكون ردّاً عمليّاً وحاسماً على كلّ مَن تُسَوِّل له نفسه العبث بفتح ، التي لم يتبقَ للشعب الفلسطيني إطاراً غيرها ، بعد انكماش قوى اليسار ، وبعد أن ثبت أن حماس تذهب في انتمائها إلى خارج فلسطين ، لارتباطها العضوي بحركة الإخوان المسلمين العالمية .. لهذا يريد الاحتلال  ومَن يتماهى معه أن يفتّوا في عضد فتح بالسيطرة عليها ، والذهاب بها حيث تريد إسرائيل ، أو بالقضاء عليها وإنْهاكها وتخريبها . 

وعلى كوادر فتح أن يقدّموا إشارات ظاهرة، تؤكد أنهم قادرون على إحداث فَرْق ملموس. وأن الخيارات، ومهما انعدمت، ستكون مبذولة وممكنة. وأن بعض الشخصيات " الإقليمية " أو القضايا، التي يعتبرها البعض قَدَراً لا مفرّ منه، ليس أكثر من وَهْم مُخاتل، وكومة قش سرعان ما تترمّد، أمام عود ثقاب الحقيقة والإصرار، والتحرّر من الخوف أو الرغبات .

وأن "الواقعية" التي بآسمها يريدون الذهاب بنا إلى مهاوي التخلّي عن المبادىء والأصول والثوابت ، ما هي إلاّ قراءة عاجزة ، واستسلام للأمر الواقع، وفرض ما هو قائم كأنه قضاء مبرم، لا فكاك من رفع الراية البيضاء أمام جبروته وأثقاله .

لكن فتح الغلاّبة لم ترفع يوماً الراية البيضاء، ولم تعلّم بنيها أن يفعلوا ذلك المُنكر.. ولا يليق بفتح إلاّ أن ترفع راية الوحدة والمثابرة والانعتاق ، أو ترفع الكرت الأحمر لمن ينبغي له أن يخرج من ملعبها الوطني .