كي لا تنتكس فتح بقضية شعبها
تاريخ النشر : 2016-11-25 18:04

مميزات الاستبداد واحدة، لا تختلف بين أن يكون المستبدون سياسيون سلطويون، أو دينيون يتلفعون بـ "البراءة" و"الجراءة" على ممارسة فنون الاستبداد، أو من أولئك الشخوص السلطوية ممن ركبوا موجات التحرر، وآلت الأمور بهم إلى أن يصبحوا أكثر سلطوية، وأكثر استبدادا من أمثالهم من سياسويي الأنظمة الرسمية الذين جاءوا بالإكراه وغلبة القمع والمؤسسات الأمنية والعسكرية، عبر انقلابات هادئة أو ذات الضجيج العالي، والمتعالي على المجتمع والجماهير والناس أجمعين.

الاستبداد "التحرري" أعلى منزلة، وأكثر تغولا من الاستبداد "السلطوي"، وهو استبداد مضاعف ومضاف إلى تنويعات السلطة الممارسة ضد المعارضات وكافة أصناف الاعتراض والنقد والاختلاف، حتى لم يبق من مجال للتعايش بين سلطة الاستبداد "التحرري" وبين أي معترض أو ناقد أو مختلف، وفي هذه الحالة فاق "التحرريون" في مسلكياتهم وفنون استبدادهم كل أولئك السلطويين أو "التدينيين" الذين لم يعودوا يفرقون بين ذواتهم والذات الإلهية، أو بين أفهامهم ومفاهيمهم والشريعة ومقاصدها، وتلك الضرورات التي تبيح المحظورات.

لقد تحولت محظورات التحرر الوطني، في أيامنا هذه، بل تخطت كل المحاذير، لتقيم صرح استبدادها على حساب قضية الشعب الوطنية، وضرورة تحرره من الاحتلال. وهنا فالمسألة الأهم ليست مسألة السلطة وكيفية تنظيمها الوظائفي واستمرارها، بقدر ما هي المسألة التنظيمية والسياسية التي تقود الخطى وتحثها، نحو تنظيم مسألة التحرر، كقضية مركزية لشعب احتلت أرض وطنه وصودرت ممتلكاته، وشرد خارج المكان الحميم (الوطن) وفي داخله كذلك، ولم يبق من مكان يجسد فيه تطلعاته وأمانيه الوطنية؛ لا في داخل الوطن ولا في خارجه. أما الاستبداد السلطوي أو "التحرري" فهو مما يمكن أن يمارسه السلطويون المستبدون في كل مكان، حتى في مخيمات اللجوء أو النزوح.

في بلادنا خاصة، كما في العديد من بلدان العالم، لم يعد هناك ما يفرق بين أوصاف تسميات اليمين واليسار، وإن كانت أقسام من اليمين قد اتجهت نحو مواقع اليمين المتطرف، كما هو الوضع في أوروبا الغربية والولايات المتحدة مؤخرا، في ذات الوقت الذي اتجهت فيه بعض أقسام اليسار نحو الاعتدال، على ما بينت نتائج انتخابات رئاسية في شرق أوروبا (بلغاريا ومولدافيا).

أما في الوضع السلطوي الفلسطيني الخاص، فما يجري على صعيد مؤتمر فتح السابع، وما يشهده الوضع الفلسطيني عموما، فهو ارتداد سلطوي يتغول أكثر، استمساكا بموضوعة الهيمنة والاستفراد والأحادية الفردية، حتى بدت وتبدو الأمور وكأن لم يبق في "فتح المؤتمر" أي اعتراض أو نقد أو خلاف مع قادة المؤتمر، أما "فتح الأخرى" التي يجري العمل على استبعادها، فقوامها من غير الموظفين في دوائر السلطة أو من الأتباع، بقدر ما هم من المعترضين على السياسات الفردية أو المختلفين معها، أو من نقاد تلك السياسات، الأمر الذي عنى ويعني أن هناك انقلابا عاما في المزاج السياسي والتنظيمي والجماهيري الفلسطيني، حتى إنه لم يعد يبالي باستقرار ما قر عليه الوضع الوطني الفلسطيني، حتى وهو يواجه سلسلة هزائمه وتراجعاته، بانعكاس كل ذلك على أوضاع أطرافه الداخلية، لا سيما ما تشهده اليوم حركة فتح من تفسخات قد تقود إلى نوع من انشقاق عامودي، سوف يؤثر بالتأكيد على المشروع الوطني وعماده وركيزته الأساس: منظمة التحرير الفلسطينية، وهي التي جرى تغييبها منذ زمن بفعل بريق السلطة، وها هو الأمر الآن يتكرر على صعيد حركة فتح، التي يراد تغييبها كذلك، على مذبح السلطة وبريقها، فما مصير المشروع الوطني في هذه الحالة الأكثر من مزرية، خاصة في ظل استبداد سلطوي بات فاضحا، ومسيئا ومضرا بالقضية الوطنية، وبكل أوجه الكفاح الوطني التحرري للشعب الفلسطيني؟.

لقد اعتدنا على أن تكون حركة فتح رائدة الوحدة والتوحيد، وتجميع الكل الفلسطيني في بوتقة انصهار وطنية واحدة، رائدها الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، لا التفريط بها على مذبح التعايش والتنسيق مع الاحتلال، ولا ينبغي اليوم أيضا أن تنتكس فتح بذاتها وبقضية شعبها على مذبح السلطة والاستبداد الفردي، فها هنا يكمن مقتلها ومقتلنا جميعا.

لهذا فإما أن يكون المؤتمر السابع لحركة فتح مؤتمرا وطنيا فلسطينيا قلبا وقالبا، همه الأساس وشواغله هي القضية الفلسطينية، أو يتحول إلى مؤتمر خاص بموظفي السلطة، وهنا الطامة الكبرى التي تزيدها الأحادية الفردية وتغولها السلطوي، لتجعل مما يجري معولا للهدم والتدمير، هدم وتدمير "معبد" التحرر الوطني الذي صاغته الحركة الوطنية الفلسطينية، وفتح في طليعة قواها المكافحة، على امتداد أكثر من نصف قرن منذ انطلاقة فتح في الفاتح من كانون الثاني (يناير) من عام 1965، وهذا ما سوف يجعل إسرائيل وحدها هي الرابحة، وفلسطين هي الخاسرة بالتأكيد؛ لا سيما إن أعاد المؤتمر إنتاج ما تعيشه اليوم القضية الوطنية من تغييب لشرعية وفعالية منظمة التحرير كشرعية عليا، وللشرعيات الوطنية الأخرى المتوافق عليها من الكل الفلسطيني، والاتجاه بدلا من ذلك نحو تكريس الفردية والنزعات السلطوية، وجعل السلطة هي الراية العليا التي تعلو راية فلسطين، التاريخ والجغرافيا والمكان الذي احتوى عظام أجدادنا.