فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية
تاريخ النشر : 2013-10-14 18:43

حاسة "العد" هي حاسة بشرية جديدة إلتصقت بالشعب الفلسطيني دون غيره من المخلوقات، فقد عاهد هذا الشعب تراب أرضه قبل أن يعاهد نفسه على الثبات، والإستمرار والرباط على الأرض مهما واجه من ويلات. حفظ هذا الشعب العهد، وصبر وصابر، وصمد وقاوم، منذ نهاية عهد العثمانيين، ثم البريطانيين والسماح بقدوم اليهود المهاجرين، وما تخلل هذا من مذابحٍ ومآسٍ تندي الجبين، مروراً بالنكبة ثم النكسة، وإنطلاق الثورة وبزوغ فجر المقاومة، فالاغتيالات والإجتياحات والإعتقالات، ثم المفاوضات، وبضع إتفاقات، وبعدها المزيد من المفاوضات، ولن ننسى ذكر بلاء الإقتتال، حين إستخدم سلاحاً فرّق بعد أن أعزّ الرجال، فأضحى الإنقسام نبعاً جديداً لسمٍ يتجرعه أهل البلاد. قليل هي هذه الكلمات، ولكنها تشخص حالة شعب لطالما تحمل الأزمات، شعب صابر راسخ في أرضه، وأمله في الحرية والعودة- أبداً ما مات.

وبالحديث عن حاسة العد، فبعد مرور بضعة أشهر على سلسلة المفاوضات الجديدة (والمفترضة أن يكون سقفها الزمني تسعة أشهر فقط)، والتي عبر الكثير من المسؤولين الفلسطينيين عن علمهم المسبق بأنها لن تؤتي شيئاً، لأن الإسرائليين متعنتين في مواقفهم، بدى وكأن جميع التصريحات المتشائمة تصدر فقط عن المسؤولين الفلسطينيين، الذي بدى وكأنهم يعدون الشارع الفلسطيني لخبر الفشل الجديد، أمّا المسؤولين الإسرائيليين، فلم يظهر منهم ما يشير إلى تشاؤم أو عدم رضا، وأبرز تلك التصريحات جاءت على لسان تسيفي ليفني، التي رأت أن المفاوضات قد تستمر لأكثر من تسعة أشهر. صحيح أن تصريحها لم يكن متشائماً، ولكنه يحمل في مضمونه الكثير من واقع حال هذه المفاوضات.

وفي تحليل سريع لأسباب هذا التمايز بين موقف المفاوض الفلسطيني والإسرائيلي، نجد أن الأخير في موضع قوة، فهو الذي يتحكم بكافة تفاصيل الحياة، أكانت في قطاع غزة المحاصر المحتل، أو الضفة الغربية المحتلة.

يفاوض الجانب الإسرائيلي في وضعية مريحة، بعد أن إستقر له الحال الأمني، مما تبعه من إستقرار إقتصادي أدى لزيادة الإستثمارات وإرتفاع أرقام السيّاح الأجانب، ولم تتوقف مصانعهم عن إنتاج البضائع من مأكولات ومشروبات وغيرها من سلع إستهلاكية، فالسوق الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية كفيل بأن يبقى حياة هذه المصانع لعشرات من السنين قادمة.

المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية لم تعد تعدو أكثر من تهديد في مقطع على الإنترنت أو منشور يوزع على بعض الوكالات الإخبارية، وفي أروع الأحوال مسيرة لبضع فتية يحملون عدة بنادق آلية. أما في غزة، وبعد كل ضربة مؤلمة وجهها المحتل الإسرائيلي للقطاع وفصائل المقاومة هناك، لم يتبقى من المقاومة إلا تهديد هنا أو وعيد هناك، مع الاحتفاظ طبعاً بحق الرد- في الوقت والمكان المناسب. الحكومة المقالة ملتزمة تماماً بإتفاق وقف إطلاق النار، ولا يجرأ أي مقاوم من الاقتراب من السياج الفاصل، وإلا فسيتم إلقاء القبض عليه.

أما عن الإستعداد وإعداد العدة، فبدت وكأنها ذهب أدراج الرياح مع إغلاق الأنفاق، فلم يعد هناك أية إمكانية لنقل سلاح أو عتاد، إستعداد لمعركة قادمة.

وبعيداً عن المقاومة- أو ما تبقى منها، فالأمور على الأرض تسري وفقاً لرؤية ومصلحة الجانب الإسرائيلي، فتغيير الحقائق على الأرض (خاصة في مدينة القدس) تسري على قدم وساق، والبناء الإستيطاني والتوسع يسريان بلا توقف، فلا يكاد يمر يوماً إلاً وتقضم المزيد من البقعة المتبقية من أراضي الضفة الغربية، والهجرة اليهودية من كافة بقاع الأرض مستمرة بلا توقف، والموارد الطبيعية من مياه جوفية وخيرات تستغل بأكبر قدر ممكن، أما الغاز الطبيعي قبالة السواحل الفلسطينية فأصبحت مزاداً تسعى السلطات الإسرائيلية لإستغلالها وبأسرع وقت ممكن.

إذاً، ولم العجلة، فتسعة أشهر قد تكون غير كافية، وخاصة أن كل يوم يستمر فيه الفريقين الفلسطيني والإسرائيلي في الجلوس سوياً على طاولة المفاوضات، يقلل حجم الضغط الدولي (إن تبقى أية قيمة له)، ويرفع أي عتب عن الجانب الإسرائيلي.

حقيقة أنه وخلال فترة توقف المفاوضات لم تكن الأوضاع الدبلوماسية الإسرائيلية بأفضل أحوالها، وصحيح أن العلاقات الرسمية بين إسرائيل والكثير من دول العالم أصابها الفتور خلال الفترة الماضية، إلا أن هذا لم يضر إسرائيل كثيراً، وخاصة أنها تلقى دوماً، وتحت أية ظروف، دعم أمريكي غير محدود.

 ولكن هناك حقيقة لا يجب إغفالها وهي أن نجاح إسرائيل خلال تاريخها القصير نبع بالدرجة الأولى من نجاحها في الدبلوماسية العامة والقدرة الفذة (لأسباب كثيرة) في إخضاع وسائل الإعلام الغربية على تبني روايتها ورؤيتها. من هذا المنطلق يبدو جلياً الأسباب التي تجعل إسرائيل متمسكة بالمفاوضات، أو أحاديث المفاوضات، أملاً في إحداث توازن ومن ثم التفوق بعد أن حقق الجانب الفلسطيني أفضلية نوعية خلال العامين الماضيين، والذي إنعكس إيجاباً في تصويت الأمم المتحدة على قبول فلسطين دولة غير عضو.

إذاً، تسعى إسرائيل إلى المزيد من الأحاديث، ولا شيء إلا الحديث، مع إستمرار العمل على الأرض وتغيير ما تبقى من واقع فلسطيني، ومراهنة في الوقت ذاته على إستمرار الإنقسام الفلسطيني، مع يقين بمحدودية قدرة الجانب الفلسطيني على إتخاذ قرار الفعل وليس رد الفعل، علماً بقلة خياراته، خاصة في ظل التناحر المقيت في المحيط العربي.

ذات يوم قال لي أحد أعضاء "الحرس القديم" في الثورة الفلسطينية أن نجاح إسرائيل وإستمرارها يعتمد على عاملين. الأول هو المحافظة على تماسك جبهتها الداخلية (المفككة بطبيعتها) من خلال وضع مواطنيها دوماً في موضع الخوف والتهديد، فتبقى الصفوف موحدة لمواجهة خطر عدم البقاء. أمّا العامل الثاني فهو الإبقاء على حالة اللا-سلم واللا-حرب في هذه المنطقة، لعلم صانع القرار الإسرائيلي أنه وإن قامت حرب طاحنة حقيقية، فستصبح إسرائيل أثراً بعد عيْن، أما وإن تحقق سلام حقيقي، فسيكون إشارة البدء لتآكل وإنتهاء كيان شاذ لن يقوى أن يحافظ على أفضيلته وسط بحر من العرب. ولهذا السبب، فكلما إقتربت أي مفاوضات من تحقيق إتفاق سلام حقيقي، تختلق إسرائيل الشروط "التعجيزية" الجديدة، وبدعم من ماكنة الإعلام الأمريكي، وهو الأمر الذي يؤدي لتأجيل أو فشل "جولة جديدة من" المفاوضات.

 وكذلك، فتتجنب إسرائيل أية مواجهة أو حرب مباشرة مع أي دولة كانت، وتقوم بالتحريض، وبمساندة اللوبي الصهيوني النافذ في الولايات المتحدة الأمريكية، لتقوم الأخيرة بحروب بالوكالة عن إسرائيل. وأقرب مثال يحضر في هذا المقال هو أنه عندما قصف صدام حسين إسرائيل 1991، لم تقم إسرائيل بالرد ولو بصاروخ واحد تجنباً لحرب حقيقية أرادها صدام حسين، إلاّ أنها أوكلت المهمة للولايات المتحدة الأمريكية لتنجزها وبالنيابة عنها، للقضاء على جيش، إعتبر في ذلك الوقت أقوى جيش عربي.

ويبقى التساؤل هنا، أما جاء الوقت لنعد العدة ونفكر ونخطط لما هو أبعد من التسعة أشهر تلك؟ ألم يحن الزمان لأن نأخذ المبادرة ونحن بمتسع من الوقت لنخطط ونرسم لما هو قادم؟ ألم تأتي الفرصة الآن لجميع من إعترض على المفاوضات بأن يبدأ بتقديم بدائل عملية بعد أن أعطيت المفاوضات فرصةً جديدة. أعتقد جازماً أن أول هذه الخطوات يجب أن تكون بإنهاء إنقسام ظلم شعباً وقهر قضية.