مفاوضات بلا آفاق
تاريخ النشر : 2014-01-26 20:24

مفاوضات بلا آفاق واتهامات بلا جدوى:

لا تتعجلوا التحريض واطلاق الأحكام المسبقة

 

تعودنا كلما جرت جولة من التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين أن نسمع أصوات احتجاج ورفض صارخة، منددة بالعملية وبالأطراف القائمة عليها، وكأن التفاوض بحد ذاته رجس من عمل الشيطان.. فيما الحقيقة أن التفاوض - أحياناً - كعملية هو وسيلة للتخذيل وكسب اتجاهات الرأي العام وتأييد المجتمع الدولي لصالح قضيتنا، والتي تتعرض لمحاولات تهميش وتشويه وحرف لمسارات التعاطف بعيداً عنا، والأخذ بما تُسوقه إسرائيل من ادعاءات وكذب لكسب مواقف الدول الغربية وسياساتها خلف هذا الكيان الغاصب .

إن التفاوض كآلية لكسب مواقف الشعوب وسياسات الدول لا بدَّ من التعاطي معه، ولكن ربما نختلف حول أبعاد العملية التفاوضية ومرجعياتها والأسس التي تقوم عليها، ولكننا يتوجب أن يكون بيننا وحدة فهم واتفاق على أن المدخل لكسب معركة الرأي العام والمجتمع الدولي تحتاج لمثل هذه الآلية، وإن كانت الحقوق – كما علمنا التاريخ - لا تُرد بها وحدها، وقديماً قال الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد فرح عقيلان: "إنَّ ألفيِّ قذيفة من كلامٍ لا تساوي قذيفةٍ من حديدِ".

فالشعوب تصنع كرامتها البنادق، وتسترد حقوقها بدماء الشهداء وتضحيات الأحرار، وعزيمة "إحرص على الموت توهب لك الحياة".

التفاوض: علم ورؤية وتكتيك

بناءً على ما سبق، إذا سلمنا بأن التفاوض كمبدأ والعملية التفاوضية كإجراء هما أحد أدوات حل الصراع بين الدول وفض النزاعات بين الشعوب والأمم، فيتوجب علينا عدم التشكيك أو التشهير بمن يفاوض إلا بالقدر الذي تظهره النتائج أو ما يرشح من تسريبات، ويتضح معه أن هناك تفريطاً أو تنازلاتٍ مسَّت بالحقوق والثوابت الوطنية.

إن علم التفاوض اليوم هو الملجأ الآمن للأطراف الضعيفة للوصول إلى تسويات مرجعها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ووثيقة جنيف الرابعة وإعلان روما ...الخ، إضافة إلى أن الأمم المتحدة؛ كمؤسسة أممية، قد تكون – الآن - من أفضل البدائل التي يمكن اللجوء إليها للوصول إلى ترضيات وتسويات بين الأطراف المتنازعة، وإنهاء أوجه الصراع والخلاف بأقل المظالم؛ سواء ما يتعلق بالحدود والتعديات المتعلقة بجغرافيا الدول، وحركية القاطنين في مناطق جوارها أو الثروات التي تقع في مساحاتها الإقليمية.

إن علم التفاوض قد تقدم كثيراً بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وما نتج عنهما من ويلات وكوارث، وما طورته الدول من أدوات القتل والدمار وإهلاك الحرث والنسل، والتي تركت كمَّاً هائلاً من العداوات والأحقاد بين الكيانات البشرية، شاهدنا تداعياتها خلال فترة الحرب الباردة، والتي استمرت من منتصف الأربعينيات إلى أوائل التسعينيات بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتفكك إمبراطوريته العظمى بخروج العديد من جمهورياته، وخاصة الإسلامية منها.

لقد أدركت الدول الغربية أهمية التفاوض والعملية التفاوضية لنزع فتيل التوتر والحروب، فأنشأت مراكز ومؤسسات بحثية وأقسام في الجامعات لتضع أسس وضوابط ونظريات لهذا العلم والمجال المعرفي الهام، وأهمها اليوم جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك مؤسسة التفكير للأمام Forward Thinking)) في بريطانيا، وهناك اليوم أساتذة أعلام قد وضعوا ضوابط ونظريات لهذا العلم، ومن أشهرهم الأمريكي بروفسور روجر فيشر، د. سارة كوب وآخرين.

وإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي وجدناه مليئاً بالشواهد على ذلك؛ بدءاً من صلح الحديبية في مرحلة الصدام بين الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وكفار مكة، إلى صلح الرملة بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين، إلى تاريخنا المعاصر من حيث الصراع مع إسرائيل، وما اشتمل عليه من حروب طاحنة امتدت على طول ستة عقود وما تزال مرشحة للمزيد، بالرغم مما تمَّ توقيعه من اتفاقيات مع بعض الدول العربية والكيان الإسرائيلي الغاصب.. فهناك اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها الرئيس السادات مع بيجن عام 1978م، وهناك اتفاقية وادي عربة التي وقعها الملك حسين مع رابين عام 1994م، وهناك اتفاقية أوسلو – سيئة الذكر – التي تم التوقيع عليها في واشنطن عام 1993م بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال.. وهناك أيضاً العمليات التفاوضية التي تمت بين حزب الله وإسرائيل عبر وسطاء غربيين، لتبادل الأسرى في السنوات التالية: 1991، 1996، 1996، 2004م.

الحقيقة، أن المشكلة ليست في التفاوض كآلية وإجراء، بقدر ما هي في أسس واستراتيجية التفاوض وأشخاص العملية التفاوضية، والأهم هو – أحياناً - توقيت التفاوض وجهة الوساطة، إذ أن الخلل يقع دائماً مع وجود اختلال صارخ في موازين القوى، ووجود تحيزات لصالح الطرف الأقوى، وتفرد جهة لا تتمتع بالحيادية والنزاهة كراعية للعملية التفاوضية، كما نشاهد اليوم فيما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين للتوجس والرفض، كون أمريكا تاريخياً ذات سوابق أضرت بالقضية ولم تحفظ عهدها ولم تفِ بما وعدت به الفلسطينيين بعد التوقيع في واشنطن في سبتمبر 1993م.

هل نحن بحاجة للتفاوض.؟ نعم؛ ولكن..

نحن الفلسطينيين ربما لتعقيدات وضعنا السياسي، وتغول إسرائيل العسكري وما تلقاه من تحيز ودعم غربي، نجد أنفسنا اليوم - وأكثر من أي وقتٍ مضى - بحاجة لكشف أقنعة الاحتلال، وفضح سياساته العنصرية، وتظهير غياب الرؤية لديه في تسوية سلمية ترد الحقوق لأصحابها، كما تبين فداحة الظلم وحجم النكبة التي لحقت بالشعب الفلسطيني جراء الممارسة الاستعمارية لهذا العدو منذ العام 1948م وحتى الآن.

في الحقيقة، كان اتفاق أوسلو عام 1993م صدمة للشعب والقضية.. ولذلك، فإن غالبية الفلسطينيين – اليوم - يتشككون من أية محاولات لإجراء مفاوضات جديدة في ظل ما هو قائم من غياب التوازن العسكري بيننا وإسرائيل، وتراجع مكانة العرب في معادلة الصراع بالمنطقة، وحالات الاحتراب الداخلي، وغياب الموقف الموحد.. إن مرور أكثر من عشرين عاماً على توقيع ذلك الاتفاق المشئوم بحصيلة من الأوهام التي أربكت ساحتنا ومزقتنا شرَّ ممزق، هو ما يجعل معظم القوى السياسية والحزبية والإطارات الوطنية ترفض تفرد أمريكا ورعايتها لأية مفاوضات قائمة، وتشكك بمصداقية جون كيري أو أي جهد تبذله إدارة الرئيس باراك أوباما، من باب "لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين" .

ولكن نحن لدينا مجموعة من التساؤلات أمام هذا الواقع الظالم الذي يعكس غياب العدل والإنصاف الدولي، وتسلط القوى الكبرى الموالية لإسرائيل على مقدرات وشئون المنطقة، كما أن حالة الانتكاسة التي أصابت الربيع العربي، وأرجعتنا من جديد إلى تسلط العسكر وفلول الدولة العميقة على رقاب البلاد والعباد، والتهميش الحاصل للقضية الفلسطينية من دول الجوار، وتراجع أهمية القضية والشعور بمظلومية الفلسطينيين لدى المجتمع الدولي.. الأمر الذي يفرض علينا مواجهة أنفسنا وطرح الأسئلة التالية:

هل نترك الرئيس أبو مازن وحيداً أم نشكل رافعة له.؟

إذا كان التفاوض مع إسرائيل محظوراً، فما هي خياراتنا وبدائلنا الأخرى.؟

هل العمل العسكري هو – الآن - أفضل الخيارات.؟

هل نحن قادرون وحدنا على إنجاز ما تتحدث به بعض القيادات الإسلامية بلغة الواثق من نفسه وإمكانياته: بترديد مقولة "نغزوهم ولا يغزوننا"، أم أن المسألة لا تتعدى تكتيكات الحرب النفسية.؟

هل أمتنا ودول الجوار تتمتع بالقوة والتأثير ولديها الجاهزية لحمايتنا والدفاع عنا، وإذا استدعت الضرورة خوض معركة التحرير والعودة معنا، أم أن انتكاسة الربيع العربي والخصومة القائمة مع النظام في مصر – الآن - قد حرمتنا مما كنا نسميه "دولة التمكين".؟

وكذلك عندما نتحدث عن (حطين 2)، ونهاية إسرائيل في السنوات الثمانية القادمة، وهو شيء يعاظم – بلا شك - من معنوياتنا، ويرفع من منسوب التطمينات لدينا، مما يسوقنا لطرح التساؤل التالي: هل يا ترى درسنا كيف تحقق النصر في (حطين 1) على أيدي الناصر صلاح الدين.؟ وكيف تمكن هذا القائد المسلم العظيم من توحيد بلاد مصر والشام، ونجح في تحييد كل الخصوم بالمنطقة للتفرغ لمواجهة الصليبيين، في تحركات استدعت 12 عاماً من الجهد والعمل الدؤوب.

نحن والحمد لله ثقتنا في المقاومة عالية؛ وبإمكانيات شعبنا في الصمود ومواجهة تحديات الاحتلال، ومطمئنين لحجم الاستعداد العسكري لأية حروبٍ قادمة، حتى في ظل الاختلال القائم على مستوى التقنيات الحربية والسيادة في البحر والجو، وهي حالة سبق وأن واجهناها في العدوان الموسع على غزة عام 2008/2009م، وكذلك في حرب حجارة السجيِّل في نوفمبر 2012م؛ حيث صنعت المقاومة إنجازاً بطعم الانتصار.

إننا - هنا - فقط نحذر من المبالغة بالشعور بالقوة، فقبل نكسة عام 1967م كانت الساحات العربية مفتوحة على مصراعيها لألسنة البعض ولحناجر البعض الآخر، وقد دفعت الأمة أكلافاً باهظة ثمن هذا الاستخفاف بعقولها، حيث كانت الفاجعة التي أطاحت بمنظومة الفكر القومي والناصرية لحساب دعاة الفكر الإسلامي، حيث حدث التحول الكبير في اتجاهات الرأي العام بالمنطقة العربية لصالح الإسلاميين وشعار "الإسلام هو الحل".

ليس هناك اليوم على الساحة من هو على قناعة بأن إسرائيل سوف تعطي الفلسطينيين شيئاً ذا قيمة، وخاصة فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية على حدود 67 والقدس عاصمة لها، وهذا هو الحد الأدنى لما يمكن أن يمضي معه التفاوض أو يتوسع حوله، وأن ما يجري هو "أفكار للاستسلام وليس للسلام"، كما جاء على لسان جمال محيسن؛ عضو اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

إن كل التصريحات القادمة من إسرائيل لا تشي بأن لديهم الجاهزية لذلك، وكل ما يبدو أنهم فقط معنيون باستمرار العملية التفاوضية؛ لأن ذلك يمنحهم مساحة للمناورة السياسية مع الدول الغربية القلقة على مصالحها بالمنطقة، والتي لهم فيها مصالح حيوية واستراتيجية ضخمة يتهددها كما يقولون "الإرهاب الإسلامي"، وخاصة إذا ما ظل هذا الجرح مفتوحاً.. ولذلك، فإنهم يتطلعون لحلٍّ ينهي حالة الصراع والتوتر المستمر بين العرب وإسرائيل.

لذا، فإن المشكلة في العملية التفاوضية هي في الحقيقة ليست مع الأمريكان، وإن كان دورهم – تاريخياً - يحمل في طياته انحيازاً للطرف الإسرائيلي، ولكنهم مع ذلك يحاولون التوصل لشيء يمكن فرضه على الفلسطينيين وتسويقه عربياً وإسلامياً.

كما أن الطرف الفلسطيني من جهته رافض لكل ما ورد من تسريبات حول خطة كيري للتسوية السياسية، والرئيس أبو مازن نفسه غير مقتنع بما يجرى داخل الغرف المغلقة من لقاءات بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، ولكنه يبدو مضطراً لمجاراة الأمريكان، ويعمل بسياسة "لاحق العيَّار لباب الدار"، حتى لا يعطي ذريعة للإسرائيليين والمجتمع الدولي اتهامه بأنه المعطل لعملية إحلال السلام بالمنطقة.

إن نظرة فاحصة لكل ما صدر من تصريحات حول جولات كيري المكوكية وخطته ما تزال غير واضحة المعالم، وتمنحنا الثقة بأنه حتى اللحظة فإن "الإخفاق هو سيد الموقف".

وتكفي الإشارة لبعض مما قيل على ألسنة طاقم التفاوض صائب عريقات ومحمد إشتية، وكذلك التصريحات التي صدرت عن عزام الأحمد وياسر عبد ربه، وأخيراً ما ورد عن الرئيس الأمريكي بأن فرص نجاح كيري أقل من 50%.. إضافة لكل ما سبق، فإن ما جاء من أقول لشخصيات إسرائيلية سياسية وأمنية ملخصها كلها "لا أمل" بتوقيع أية اتفاقات من جولات كيري المكوكية، حيث التعنت الإسرائيلي المبني على معادلة القوة والعنجهية، وأيضاً على حسابات دينية وسياسية وأمنية هو العقبة الكأداة أمام تحقيق أي تقدم في المفاوضات مع الطرف الفلسطيني.

بناءً على ما سبق، يمكننا القول: إن هذه كلها مؤشرات فشل للعملية التفاوضية وليس ارهاصاتٍ بإمكانية نجاحها.. من هنا، نطرح السؤال التالي: لماذا يستمر البعض في فتح النار على الرئيس أبو مازن والعمل على إضعاف هيبته، والرجل أكد أكثر من مرة في لقاءاته السياسية المتكررة مع جهات فلسطينية وعربية، وأيضاً في مخاطبته للأمريكان بأنه لن يقبل بأقل من حدود 67 والقدس عاصمة لفلسطين، والقضايا الأخرى ما تزال في طور التفاوض، ولا يظهر أن الرجل قدم تنازلات تستدعي كل هذه الموجات العاتية من الاتهام والتشكيك .

لذلك، لتمضي عملية التفاوض مع تحفظنا الشديد على ما يجري - إلى نهاية مددتها المقررة؛ أي شهر إبريل القادم، والتي ستؤدي – إذا أحسنا فلسفة التكتيك والمناورة - لفضح الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية، وليكسب الرئيس أبو مازن والقضية بأنه نجح في تعرية إسرائيل كدولة احتلال ذات ممارسات عنصرية (أبرتهايد) بصبغة دينية متطرفة.

إن عملية التفاوض الدائرة حالياً هي بلا آفاق، وهي تلقى رفضاً فلسطينياً من الجميع؛ الوطني والاسلامي، ولن يستطيع الرئيس أبو مازن تمرير أية تسوية والحالة الفلسطينية بالوضع الذي هي عليه - الآن - من الانقسام والتشرذم في السياسات والمواقف، وحتى لو أراد اجراء استفتاء شعبي على الاتفاق فلن يستطيع تحقيقه على الأرض؛ لأن غزة ليست طوع يديه، وهي ليست في صورة ما يجري من تفاوض، والفلسطينيون في الشتات لن يقبلوا بالطبع بغير العودة لوطنهم بديلا.

إن ما أراه ضرورياً، وأتمنى على الكل الوطني والإسلامي العمل به، هو التحفظ على ما نطلقه من أحكام مسبقة واتهامات لا تجدي، فالرئيس أبو مازن برغم حالة الضعف التي عليها السلطة في رام الله، "لن يرضخ لا لأمريكا، ولا لإسرائيل".. إن الرئيس بوعيه الفكري وفهمه للسنن الكونية يدرك أن طبيعة الصراع القائم هو بين الحق والباطل، وأن المآلات هي لصالح الطرف الفلسطيني؛ طال الزمن أم قصر، وأن حنكته السياسية واتساع دائرة التشاور التي يقوم بها على كل المستويات العربية والإسلامية والدولية تمنحه الرأي والموقف الذي يمنعه من تكرار أخطاء أوسلو الكارثية، والتي كان الرئيس عرفات (رحمه الله) شريكاً فيها.

إن المطلوب منا جميعاً - إسلاميين وقوى وطنية – هو الحفاظ على وحدة الموقف الفلسطيني، ومحاولة تشكيل رافعة للرئيس أبو مازن وشبكة أمان بأننا لن نخذله، ولن نسمح لأحد أن يلعب بورقة الانقسام لإضعاف الرئيس، طالما هو على موقفه الثابت بالحفاظ على الثوابت والمقدسات.

إن علينا أن نفهم بأن الرئيس أبو مازن يعيش في عقده الأخير، والسياسيون في العادة لا يفرطون بتاريخهم، ودائماً يسعون لترك بصمة Legacy)) أو أثر طيب تذكرهم به شعوبهم، وأنا لا أظن أن الرئيس في مثل هذا العمر الذي تخطى فيه السبعين عاماً، وبصحة معلولة عافيتها؛ ولا تخلو من وعكات وآلام تذكر بقرب دنو الأجل، سينهي حياته بصفحات بلا أمجاد.

إن أفضل ما عرفت في سيرة الرئيس أبو مازن هو أنه أستاذ في فن التخذيل وكسب الاصدقاء والدول إلى جانب قضيته.

صحيحٌ، أن للرجل أخطاؤه وزلاته، وله اكثر من كبوة على مستوى تقديراته لبعض المواقف السياسية، وكذلك في رؤيته للمقاومة وانتقاداته اللفظية لعملياتها العسكرية تجاه إسرائيل.. ولكنه يبقى السياسي المخضرم، القادر على حشد الدعم المالي والإنساني والدولي خلف الموقف الفلسطيني.

إن الذين يفتعلون معارك كلامية بهدف خلق مشهد بطولي لتياراتهم وأحزابهم، وبهدف تسجيل موقف في غير ساحات الوغى، نقول لهم جميعاً: عليكم التريث حتى ينجلي غبار معركة التفاوض، وحينئذ يمكننا - معاً - أن نتحدى الرئيس ونعمل على نزع شرعيته، أو أن نقول له جميعاً: أحسنت يا سيادة الرئيس.

إن معركتنا الحقيقية مع إسرائيل ليست فقط عسكرية؛ وإن كان الفعل المقاوم أهم أركانها، بل هي سياسية ودبلوماسية وإنسانية بامتياز.. وهذه ساحات وميادين علينا ان ندخلها من باب واحد بلغة الحكمة ومنطق الحق الذي نملكه، وأيضاً بالشرعية الدولية التي نجح عدونا طوال فترات الصراع معه حرفها عن معناها، وتجنيدها – بدهاء – لصالحه.

إن علينا أن نغير طريقة التعامل مع بعضنا البعض، وبدل أن يكون بعضنا نصلاً في خاصرة الآخر فليكن سيفاً في يده؛ نحمي - معاً - مشروعنا الوطني، ونحفظ ثوابت قضيتنا، ونظهر في كل ساحات نضالنا بأننا على قلب رجل واحد.

إن الرئيس أبو مازن قد عرف كيف يفكر العدو، وكيف يتكتك لجرنا دائماً إلى مربع الرفض والظهور أمام العالم بأننا إرهابيون؛ مولعون بالقتل وسفك الدماء، ولسنا أصحاب قضية وطلاب حق سليب، وأن شعبنا قد تشرد في فيافي الأرض يلاحقه الموت في كل مكان حط فيه وأقام.

وحتى لا نظل نندب حظنا العاثر، ونبكي مع الموال: "والليِّ مضيع وطن وين الوطن يلقاه"، أتمنى أن نحفظ ألسنتنا، وليكن شعارنا: من كان يريد الخير لهذا الوطن "فليقل خيراً أو ليصمت".

* رئيس هيئة الوفاق الوطني