طفولة السبعين ( المتوكل طه )
تاريخ النشر : 2014-01-26 00:14

 إلى إبراهيم السعافين

 (1)

لم تعد تلك المرأةُ !

كانت زائغة مشتّتة، مثل كومة الصوف المضروب، غير أنّ وجهه التفاحيّ دلّ على فحولة الفَرَس، وهي تمعن بنظرها في وجه الرجل .

تشتهيه ؟

ربّما !

قال، إن رائحة الحليب الدافئ على صدرها قد أعادتني إلى تلك الأيام. وكأني أقول، إن هبوب الجوز من إبْطها المكشوف كافٍ لأن تنسى الدّنيا ياسيدي !

ربما استرحنا، بعد جولة الغروب، على رصيف ذلك المقهى، وغبشُ المغرب يلفّ كلّ شئ، ورأيت ..!

ماذا ؟

شعاعاً خفيفاً ماسيّاً يخترق ملابسها ويتفشّى .. وأحصنة فتيّة جامحة تخرج من أضلاعها تفحّ بضوء حادّ، وحيّات تطير من ذراعيها وتدوّم بعيداً .. ثم هَمَدتْ !

عادتْ إلى حوارها السلس معه، وقد انبسطت ملامحها، والمقعد يشرب العسل الذي رنّق مقعدها.

.. ومشينا، ويبدو أن الكسل اللذيذ هو الذي جعلها تسير بتؤدّة كالعروس، التي اكتفت بثوبها الأبيض، وبأنها عبرت اللحظة الفارقة نحو الأَخْذ والتحوّل، وتعيش تلك الدقائق المصوّحة قبل أن ينفر النّصل برذاذ الكرز .

شكرتهما على كل شئ، ولوّحت له، وغمزته، فامتلأت بوابة الفندق والمركبة والرصيف بملائكة شُقر، ولفّ المكان ريح الحبق المدعوك .

بعد سنين، أسألهُ : أين تلك المرأة ؟

استغرب واستنكر، وأرجع رأسه متسائلاً : إمرأة ؟

إنّها الفالوجةُ يا صديقي !

(2)

وأخيراً، حصل صديقي وأستاذي الدكتور إبراهيم السعافين على "تصريح زيارة" إلى "مناطق" السلطة الفلسطينية. فرح حتى اختلطت مشاعره، وحضرت قصص أبيه وأُمه عن الفالوجة و "مقام سيدي أحمد" و "الضبع الأسود" و "سوق الخميس" و "أم النعاج" .. وأمضى ليلة سفره إلى فلسطين قلقاً، استعصى عليه النوم، وجاءت اليقظة كاملة ناشطة .

لعلّه غضّ الطرف عن "لغة" التصريح التي كانت بالعبرية الفصحى، غير أن التواريخ كانت بالعربية البائدة، أو بالإنجليزية الحديثة الرشيدة ! وصل إلى الجسر، ودخل رام الله !! تجمّدت أحاسيسه كالتمثال الهشّ أو عرائس الجليد، وفي نهاية السهرة الأولى، عادت إليه حرارة الوعي، فبكى حتى رأيته طفلاً ضاع من يد والده .. وتاه .

في بهو فندق رام الله الصغير، وجدته صباح اليوم التالي في كامل زينته وأناقته، وبادرني بالقول: إلى أين سنذهب .. طبعاً إلى الفالوجة، ها؟! قلت : اليوم الجمعة، وسنذهب إلى حيفا وعكا والرامة لزيارة سميح القاسم، فقد اتفقت معه ليلة أمس على ذلك، وثمة دعوة على الغداء على شاطئ عكا .

ركبنا السيارة، وخلال ثلاث ساعات طوال الطريق كان " مجمّداً " وحادّاً في كلماته القليلة، التي تنطلق من فمه كالشهب الصغيرة الحارقة، لم يكن مصدّقاً لما يرى، ولم يستوعب ما سمع وما لمس وشاهد !!

وصلنا إلى حيفا؛ من "وادي النسناس" الذي تتوّجه "قبة البهائيين" ودرجها الأخضر المعجز إلى "الحلّيصة" "فالميناء"، وقصدنا عكا مروراً ب "كريات آتا" و "موتسكين" و "كريات بيالك" .

هل تعرف مَنْ هو بيالك ؟

لم يُجب .. كان شاردا" .

-        قلت : بيالك شاعر صهيوني كبير، أطلقوا اسمه على أكبر شوارع مدنهم الجديدة، وهاهم يقيمون مدينة تخليداً له !! فردّ فوراً : وشعراؤنا يموتون في المنفى !!

.. في عكا، دخلنا جامع الجزار، وبعد صلاة الجمعة، ذهبنا بصحبة بعض الأصدقاء لتناول السمك قبالة الأسوار التي قهرت نابليون ذات يوم .

وليتنا لم نذهب، لقد حوّل الساعتين ولحظات الجلسة الخرافية الرائعة إلى مناحة كربلائية .. على عكا وأهل عكا .

وأخيراً، وصلنا إلى الرامة التي تحمل في يمينها البحر الأبيض، وفي يسارها بحيرة طبرية التي لها بطن الغزال، لنجد في بيت سميح الشاعر الكبير محمود درويش الذي لم يزر رامة سميح القاسم منذ أربعين عاماً، مع دهشة إبراهيم السعافين الذي يدخل الرامة وشمال فلسطين للمرة الأولى .. فالتغيرات و "الهضم الجغرافي" هائل ولا يمكن تخيّله .

وفي بيت سميح القاسم، هناك على تلّة "جبل حيدر"، الذي يُشرف على البحر والجليل والبحيرة، قال القاسم: تعالوا معي، أريكم الغرفة التي بنيتها لمحمود منذ ثلاثين عاماً ليقيم فيها وأسميتها شقة محمود، وأضاف مشيراً إلى محمود : انتظرتْكَ طويلاً هذه الغرفة يا صديقي!

كان المشهد مشحوناً ومحتقناً بالمشاعر التي لا توصف عندما أشار سميح القاسم من نافذة بيته الغربية إلى تلة قريبة مزدحمة بالخضرة، عالية ومشرفة، ثم قال : هناك سيكون قبري .. وسأظل مشرفاً على البحر من جهة اليمين، والبحيرة من جهة اليسار .

في اليوم الثالث، ذهبنا إلى الخليل في طريقنا إلى الفالوجة، كان يريد أن يرى مسقط رأسه، بعد واحدة وخمسين سنة من الغياب والهجر، ولكن تصريح إبراهيم السعافين لم يمكّنه من الوصول إلى الفالوجة، فتصريحه يسمح له فقط بدخول "مناطق" السلطة الفلسطينية وليس دخول "أرض إسرائيل" ! وهكذا واجهنا حاجز اسرائيلي منعنا من رؤية الفالوجة .. لتظل حتى هذه اللحظة مكاناً متخيّلاً، يكبر ويصغر، يبتعد ويختفي ويظهر، حسب أحوال الروح. وارتعش قلب السعافين، كطائر جزّوا رأسه وهو يخفق بجناحيه الصغيرين!

عدنا إلى مدينة الخليل لنصلّي في الحرم الإبراهيمي الشريف، هناك حمله والده قبل ثمانية وخمسين عاماً ليسمّيه باسم النبي العظيم إبراهيم أبي الأنبياء .

وعلى مدخل الحرم الإبراهيمي شاهدنا عشرات المستوطنين، بتلك القامات النحيلة، والبنادق الثقيلة، واللحى الطويلة، والعيون الممتلئة حقداً وشراً وشراسة، فمنعونا من الدخول للصلاة، ناقشناهم قليلاً، فإذا بفوّهات البنادق تنتصب، ولهجة الكلام تشتدّ .. لم ندخل ولم نصلّ، وعاد صديقي بخيبة أمل شعرتها على أطراف أصابعه .

في طريق العودة إلى رام الله، كانت المستوطنات المزروعة على أكتاف الجبال والهضاب المحيطة بالطريق تترك أثراً عميقاً ومؤلماً في القلب.

لا شك أننا فكرنا معاً، عبر صمتنا ذاك، بغرفة محمود درويش في بيت سميح .. تلك الغرفة التي تبدو أكثر اتساعاً وعمقاً من كل هذا .

ومازال النقصان كاسحاً، وفلسطين أبعد وأقرب ..

(3)

شارفتُ على وضع اللمسات الأخيرة، وفرِحتُ بأن إبراهيم طوقان سيحظى بابن بار، يكشف من جديد، عن جانب آخر، لم يعرفه القرّاء عنه !

استغرقني الأمر عامين، وكانت توجيهات أستاذي وأخي الكبير د. إبراهيم السعافين البوصلة التي قادتني لأنقّب عن ميراث طوقان، لأكتشف أنه أوّل من أصّل وعرف السخرية والمفارقة والأسئلة العميقة في شعرنا الفلسطيني المعاصر، وهو مَنْ أعطى الشعراء، من بعده، تُرابية ماعُرف لاحقاً بالقصيدة المقاوِمة، وهو خير من نقل القصيدة من شكلها المحنّط القديم إلى فضاءات جديدة، وأدخلها إلى مختبرات التجريب، التي فككّت قيودها وأطلقتها في البراري غير المسقوفة أو المحدودة.

ولم أعلم أن زيارتي القصيرة إلى فلسطين ستطول، وأن السجن والإقامة الجبرية ومنْع السفر سيمنعني من العودة إلى جامعة اليرموك لأناقش رسالة الماجستير ، العام 1983.

ومرّت تسع سنين ! وذهب العرب الرسميّون إلى مؤتمر مدريد وإلى المفاوضات ، فانشقّ البابُ، قليلاً ، وسمحوا لنا بالسفر إلى تونس، بناء على دعوة قيادة منظمة التحرير الفلسطينة لتلتقي كوادر فلسطين الداخل، ولم نكن نعلم أنهم يعدّون العدّة لتوقيع "أوسلو" التي كانت اتفاقية أعطت للاحتلال الشرعية والأرض والقدس .. وأعطتنا الجنائز والحسرة والهباء !

وعبرنا في العام 1992 نهر الأردن شرقاً، وكّنا، حينها، رؤساء الاتحادات والنقابات ورموز الحركة الأسيرة المحرّرين وبعض الشخصيات الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعية، ومكثنا في تونس شهراً، لم يسألنا أحدٌ عن شيء ! لا عن الشهداء ولا عن الانتفاضة ولا عمّا يحزنون ! ركنونا في الفندق، ثم قالوا ارجعوا ! فرجعنا ..

ذهبتُ إليه !

مازال بكامل أعذاقه و حضوره، أخذني كما يعانق الأبُ ابنَه البعيد، وماء زجاجيّ كاوٍ يبرق في عينيه.

كان يتابع ذلك الوهج العبقري والانفجار التاريخي في فلسطين المحتلّة بانتفاضتها الأشمل والأجمل، التي اعترضوها باتفاقيات هزيلة قاتلة، جعلت نكبة الشعب الفلسطيني تتجدد وتتعمق ثانية بفعل "أوسلو" وتداعياتها المخيفة .

وبسرعة فائقة أعادني، ثانيةً، إلى الجامعة، وقدّم مرافعةً حاسمة لقسم الدراسات العليا، برّر غيابي تسع سنوات وانقطاعي عن استكمال مناقشة رسالة الماجستير، ( كان في الاعتقال والإقامة الجبرية وفي مواجهة الاحتلال ! هل نعاقبه أم نُسانده ؟ ) وجعلني، بحمْد الله تعالى،أُناقش الأطروحة، بجهود أكيدة ومساندة موصولة من أستاذي د. يوسف بكّار وتفهّم الجامعة وعطْف مسؤوليها.

كان يحتفظ بالرسالة ! أعطاني نسخة ، وأشار إلى غير ملاحظة، وخلال عشرة أيام، اتسع لي وقته خلالها، لساعات طويلة في بيته ومكتبه، أنتهيتُ منها، وحددّ الزمان والمكان، ودعا الضيوف ليشهدوا المناقشة . لقد شرّفني العلاّمة الشيخ د. احسان عباس وفدوى طوقان وعبد الوهاب البيّاتي والزملاء في رابطة الكُتّاب والكثيرون بحضورهم، كأنهم يبعثون رسالة تضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، التي هشّمت وجه المحتلّ، و أيقظت الكون على مظْلمة التاريخ .

كم ترفّق بي أستاذي الرائع د. يوسف بكّار، وكم أحاطني أستاذي د. ابراهيم السعافين بدفوعاته و مداخلاته، كأنه المبذول لمطرقة الأسئلة، ولستُ أنا !

لولا ابراهيم السعافين لدفعتُ الثمن مرتين، لكنّه الوطنيّ العروبي، فعلاً، شأنه شأن د. يوسف بكّار و د.عفيف عبد الرحمن و د. قاسم المومني و د. حسني محمود و د. عبد القادر الربّاعي و د. عمر الأسعد و د. محمد خزاعلة، وغيرهم ممَنْ تربيّنا على أيديهم المباركة الفيّاضة.

إن في جِيْدي طوق من ورد تفضّل به أخي الكبير د. ابراهيم السعافين، لن أخلعه ولن أنساه، كلّما مررت بالمرايا أو تحسّستُ العبقَ في أيامي السادرة بالشِعر والحروف .

إن كلمة "شكراً" لا تكفي، فماذا أفعل لأردّ بعض الجميل لهذا الأجمل ؟

(4)

يا أبا حسام !

يا ملكَ القلعة السامقة المضيئة، وشِعارك دواة الجداول الكحليّة. يا معبّر الرؤى، والكلام المتداخِل المُبهم أو الصريح للمُسَرْنَمين، أو الغائبين بأرواحهم، أو النائمين على حرير الجمر أو قتاد المنافي. أيها المشبوب المتلبّس بمدن الساحل الغائمة وبساط القرى المنهوبة. لم يعد المشهد شفيفاً كغلالة الصبح، وأنتَ تهبط من علوّ القدس إلى سهول "عرتوف" " و بيت جبرين" و "الفالوجة" لتذهب يميناً إلى "يافا" أو شمالاً إلى "عسقلان" و "غزّة" ! غير أن تلك الأماكن تصحو على ندّاهة تشقّ الليل بنداءاتها المشروخة، فيخرج فارس من أشجار مهملة تركوها .. شرق قريتكم، فيومض سيفه ويصرخ، فتدبّ النار في الأنحاء .

وأخشى أن تذبل الحكاية ياسيّدي ! ويصبح حفيدك بلا ذاكرة، وتأخذ العدميّةُ أولادَنا إلى البياض الشاحب المشبوه .

لم تكتمل الرواية، واختفى الحكواتي، ولم يتبق سوى تمتمات نزقة، وقليلٌ من القابضين على نار الموقدة المقدسة، واتّسعت محاكم التفتيش "الوطنية "والمكارثية "الواقعية" لإدانة الحكْمة والمتمسّكين بالثوابت والمربّع والنصّ الأول، الذي لوّثوه وشوّهوه وأنزلوه من قدسيّته إلى شوارع النخاسة والبيْع بالمزاد !

أما أولئك الهنود الحُمر الذين ظلّوا في أرضهم، فإنهم لم يسمحوا بتكرار سيرة الإبادة ! بل ظلّوا راسخين في الأرض، يختزنون السحاب كشِعاب البرق، التي ستضرب بقضبانها النارية أصحاب التيه الأبديّ .

أعترف أمامك أن "أوسلو" سقف ثقيل وقع على رؤوسنا .. فماذا نفعل ؟

هل نتركه ونهرب إلى الخارج، وندّعي النظافة والطهارة والوطنية، وندع السقف المميت ليطمر كل شيء ويقتل كل حياة ويخنق كل ما يتنفّس من براعم وجذور وخلايا ؟ أم نبقى ونتنادى لنرفع، ما أمكن، السقف قليلاً، حتى يستنشق شعبُنا المرابط بعضَ الهواء والحياة، ونظلّ منزرعين نُجالد أثقال السقوط ودعاة الهدم والموت والفناء ؟

كأني سمعت نداءك المُدْرَك المُضْمَر الذي يقول :

ما أسهل أن تتخفّف من استحقاقات المجابهة، وتبحث عن خِطاب يتّهم و يشتم و يسبّ و ينتقد .. وستجد الذرائع "الكلاميّة" لتبررّ هروبك ! وما أصعب أن تبقى وراء المتراس في أرضك، لا تبارحها، تحمل ما تستطيع، وتصدّ الغزاة والبغاة والطغاة، و تخلق ما تستطيع من نوافذ لتشرق شمس الأمل، وتحيي في الناس قوّة البقاء، وتدفع ثمن هذي اللزوجة والعنت والقهر .. باعتبارك صابراً مُرابطاً مُواجهاً، بصرف النظر عن بعض المهزومين، الذين يريدوننا أن نترك الساحة، بدعوى الفساد والتنازل والاستسلام !!

لمَنْ نترك الأرض ؟ لمَنْ يحتلّها أم لمَنْ ،فرضاً، سيتنازل عنها ؟ وهل هذه هي الوطنية يا سيّدي ؟

ليرحمنا بعضُ الكتبة الذين توقّعنا أن يقفوا معنا صفّاً واحداً في مواجهة استراتيجيات الاحتلال و إجراءاته، ويعيشوا معنا ليالي الخوف والرّعب وسنوات السجن والفزع والملاحقة وأيام المواجهات الساخنة الطاحنة، ولديهم الإمكانية الفعليّة للبقاء في فلسطين !

فلماذا آثروا السكن خارج فلسطين ؟

ويا ليتهم سكتوا ! بل أصبحوا بوقاً مسانداً للاحتلال ، من حيث يشعرون .

إن الوطنية كما تعلّمناها يا أستاذي ،هي أن ننغمس في حمأة المجابهة وعين المواجهة، وليس أن يُشوّه البعضُ منا الآخرين الوطنيين، لأن هذا البعض يريد أن يغطّي على مخازيه وتخاذله وجُبنه بتلويث ما يقوم به الوطنيون، ليجد مبرراً لعدم قيامه وتقاعسه عن الواجب المطلوب.

أقول ما قلت لأنك تعلم أكثر منّا بأنّ إبداعنا وأدبنا ومنتجنا تحت الاحتلال هو إبداع وأدب ومُنتج الضرورة ، وما كان لنا "آباء" في الضفة والقطاع ، ما جعل تجربتنا أقرب إلى الزهر البريّ ، في مناخ أسود . وأدبنا مخدوش بالخطابية والمباشرة قبل أوسلو، وكان رمزياً مُتعدّد المرجعيات، يمجّد الصورة المُفترضة عن الفلسطيني، وقد وقع في خطاب الفلسْطَنة لأنه مُهدد بالإلغاء والنفي، وهو أدب جهوي ، طغت عليه السياسة، وهو مُنتج فردي بامتياز . وهو إبداع صدر تحت شرط الاحتلال وتخلّق تحت ضرباته العنيفة ، وواجه غير تحدٍ خارجي وداخلي ، لهذا كان مُلاحقاً ومحاصراً بشراسة . وقد كرّر البعض هذه الإتهامات و سحبها جُزافاً على كل ما صدر في الأرض المحتلة دون تبؤّر وامعان وتفهّم .

ولعلّي لا أطلب هنا سوى الهداية لهؤلاء ، وليرحموا أنفسهم ... لا أن يرحمونا .

(5)

لقد كذبوا علينا يا أستاذي !

كذبوا عندما انحازوا إلى الفكرة القُطريّة والجهويّة، وعمّقوها، وراحوا يبحثون عن شرعيات للمُغايرة والأُمم الجديدة المصنوعة ! وكذبوا عندما هتكوا أعراض الأرامل وأخضعوا الحليب للمساومة البغيضة، وحوّلوا العُرْس إلى مأتم دون عزاء .

وكذبوا عندما لبسوا ألواناً مُفارقة للون فلسطين ،من تاجها الثلجي إلى قدمها الرملية ومن بياراتها إلى غوْرها، وجعلوا صورتها / الخنجر في صدورنا .

وكذبوا عندما قالوا ثمة نور .. وكان ضوءَ الحريق ! وكذبوا عندما قالوا القدس تلّوح لنا .. وكانت تغرق ! وكذبوا عندما أثاروا التوجّس والشكوك في إيماننا المُطلق ، وجرحوا وجداننا الصافي بالمقولات الهجينة الجديدة .

وكذبوا عندما حوّلوا النكبة إلى مشكلة جوعى وعراة، وفرّغوها من معانيها الكارثية والأخلاقية .

لقد كذبوا عليك، أيضاً، وأنت الشاهد على ماجرى . ألست طفل النكبة وابنها، وحامل معانيها البسيطة والمباشرة ( الاقتلاع والطرد ثم الإحلال ) ؟

ألن تر الخيانة بأم عينيك، وأيقنت أن النكبة حلقة من حلقات الغزو الاستعماري الصليبي، وأن "اسرائيل" مملكة لاتينيّة جديدة، وخندق متقدم، أمني وسياسي وديني وعسكري للغرب المتغطرس، الذي يريد أن يُصادر المستقبل العربي مع ثرواته ؟

ألم توقف النكبة تطوّر شعب كامل أقتلعوه عن عَرْشه الأبدي ؟ وألقوا به تحت بساطير الدّرك وفوق النطْع الفارم وأمام محاكم الإنكار والاتهام والتهميش والتجريم وسحب الشرعيات والتعريفات ؟

لكنهم لم يدركوا أن النكبة هي قابلة النضال والانتفاضات والثورات، التي لن تموت، وهي فضيحة العالم الأخلاقية وجرح ضميره النازف، ودليل عجز النظام العربي الرسمي، الذي بدأ يترنّح مع إرهاصات هذا الربيع الكاسح !

إن طفولتك التي دهموها بالتشريد و العتمات، ستكون ذكرى باهتة أمام أعوامك السبعين، التي لم تتجرّأ عليها السنوات، فبقيتَ فتيّاً، كأن صورة ما تهرم نيابةً عنك! وستكون ذكرى تنأى وتغيب، لأنك، عمّا قريب، ستعود إلى فلسطين، بزفّة كونيّة، وستدخل الفالوجة، كأنك لم تفارقها !

كيف ؟

إنتظر ! فثمة صغار يحفظون النشيد، ويعبئون حقائبهم بأقواس قزح، وينظرون إلى غرب القلب، سيأخذونك معهم إلى هناك، فالمملكة اللاتينيّة تصلح للهزيمة، مثلما سيصبح المخيم لعدسات المصوّرين ومحبّي البحث عن الأشباح.

عندها، أسألك: هل سنضحك أم سنبكي .. من الفرح ، وأنت في طفولة السبعين ؟