قصة قصيرة-جارة القمر(شفيق التلولي)
تاريخ النشر : 2016-05-30 03:52

وقفت أمام المرآة وأخذت تدور فرحا بطيفه كالهالة المحيطة بالشمس؛ شقت ابتسامتها دمعتها الأربعين، لمعت في عينيها صورته الملائكية، صوته الرسولي يوشوشها:

- لا تنسي الابتسامة يا رفيقة الروح.

تفر دمعتها، تمسحها سريعا بمنديله الهندي السكرى، تبتسم ثانية، تنظر إلى ساعته التي طوقت معصمها، دقات عقاربها قانون المحبة الذي يضبط ميناء قلبها على إيقاع وصيته الأخيرة

- أريد أن أرى ابتسامتك، احفظي الدرس الأخير؛ فقد يكون الفصل الأول في روايتك.

أربعون يوما مضت على رواية ما بعد الرحيل، ما فتئت تقص أجمل القصص، قصص الفل والياسمين الذي انفرط قبيل سكوت نبض القلب الأخير، وقصة "سهام" التي لم تستطع حمل قلبها الجديد إلى فرحة أبيها، أوجعها موت سهام بعدما ظنت قبيل الرحيل بقليل بأنها أمل زوجها في حياة جديدة، لم تك تعرف بأن القلبين سيسقطا تباعا في رحلة البحث عن الفرح، وأن روايتها ستطول، في كل غصن شجرة فصل وحكاية، وعلى كل تلة ذكرى من ذكريات حياته المعلقة في عنقها كطوق الياسمين، تقرأ ما تيسر من سور جمال وجهه في أوراق الصنوبر والجوز والتين والتوت، تركض خلف خياله المتسلل من نافذة الشجن، تقيم وجبتها الدسمة من حديث الروح، الروح التي استوطنت فؤادها؛ وما عاد يهتف إلا باسمه وباسم كل المعاني الجميلة التي أورثها إياها، ما زالت تحتفظ بمقاليد الوفاء لكل ما ترك خلفه من مذكرات كُتبت بالآه وبآخر دقات القلب المتهالك.

وحدها تعرف لغة عصافيره الصباحية، ووحدها تعرف كيف يخيم الليل على خوابئ دفاتره بذاكرته المعذبة بغربة الروح في الشتات والمنافي، وكيف رصعها بأمل العودة إلى أرض الوطن؟!

أخبرتني ذات مواساة بأنه يعشق البحر وأمواجه المترامية، يعشقه في رحلة الشتاء والصيف، وعند الشروق وعند الغروب، يعشق غزة كما يعشق القدس، يعشقها لأنه يرى فيها يافا وحيفا وطبريا وكل فلسطين.

قلت لها:

- طالما الأمر كذلك تعالي بنا نكتب حكايته على رمل الشاطئ.

- تمهل يا صديقي، واستطردت:

- ربما أنت كاتب تستهوي جقجقة الورق، أما أنا؛ فعلى جدار قلبي نقشت الحكاية، أعدك أيها الكاتب أن أقص عليك ما يليق به من القصص.

- حسنا يا سيدتي؛ سأنتظر أن يورق الصبار، وأعرف بأنني كمن سيكتب على ألواحه وبين أشواكه، لكنني أظن بأن القلم الذي يكتب بحبر الروح لن يضل طريقه أبدا، وليس المهم أن تأذني لي بإعلان البدء عن سباق ماراثون كتابة رواية قد يطول طريقها، المهم أنني قد تلمست الطريق إلى المرسى حيث ميلاد الياسمين وانبلاج ضوء جارة القمر.

تركت حديثها الشجي قليلا وأدرت قرص البحث عن المعاني الكامنة في هذه الهالة "الدائرة الساطعة حول القمر في السماء، الطُّفَاوة، الدائرة النورية التي تُرسم حول رؤوس القديسين، والطفاوة المذكورة هي الدائرة حول الشمس"

انتهت المحادثة ولكن رحلتي في البحث عن هذا الفارس العثم الأصيل لم تنته؛ هو سُمها الموشوم بلسعة من ضوء القمر، وهي عقده الياسميني الذي لا ينفرط.