عُمان: واحة سلم في صحراء مشتعلة
تاريخ النشر : 2016-05-29 14:58

عُمان...هذا البلد، بدا وكأنه واحد من القلائل الذين نجوا من الفوضى التي إكتسحت المنطقة منذ حلول ما يسمى بالربيع العربي، وإستطاع أن ينأى بنفسه عن التوتر بل وحالة الإستقطاب التي أخذت المنطقة العربية بأسرها رهينة مع وتيرة متصاعدة وبشكل غير معهود. الدور العُماني بدا محايداً وسلمياً، ومغايراً بشكل واضح عن باقي الدول المحيطة حيال مختلف القضايا الإقليمية. أما وبالبحث في مكنون الحقيقة، نجد أن هناك دور خفي، فريد من نوعه لا يعرفه أكثر الناس، تقوم به عُمان بعيداً عن ضوضاء الإعلام وأحاديث العوام.

 كباقي البلدان المحيطة، عمت موجة من الثورات الشعبية عُمان، وكانت هذه المظاهرات تطالب بتحسين مستوى المعيشة، وتخفيض تكاليف المعيشة اليومية، وخلق فرص عمل جديدة، والحد من الفساد، وتحسين عملية التمثيل الديمقراطي. ومع ذلك، فقد كانت تلك الاحتجاجات والمظاهرات سلمية، وأبدت احتراما كاملاً للسلطان، وفي المقابل وافق السلطان على جميع المطالب المقدمة وإتخذ عدد من الخطوات لإحتواء الأزمة.

 جاءت الاستجابة الأولى عن طريق إجراء تعديل في مجلس الوزراء ومنح البرلمان مزيدا من الصلاحيات، وكان من بين مجموعة متنوعة من الترتيبات التي هدفت لإحتواء حالة الإحباط لدى الشباب مرسوم ديوان البلاط السلطاني بإنشاء هيئة مستقلة لحماية حقوق المستهلك بالتوازي مع تقديم خمسون ألف وظيفة حكومية جديدة، وكذلك تقديم مساعدة شهرية للعاطلين عن العمل بقية ٣٩٠ دولار شهرياً. بإختصار، تمكن السلطان قابوس من الذود عن بلاده من تداعيات ما يسمى بالربيع العربي، إلا أن تحدٍ جديد خطير بدا يلوح في الأفق: حالة الاستقطاب.

 فمع استمرار التحولات الكبرى في المنطقة، نشبت حالة غير مسبوقة من الاستقطاب بين معسكرين: إيران وحلفائها في المنطقة مثل ( النظام السوري وحزب الله وحوثيي اليمن) من جهة، والمملكة العربية السعودية ودول عربية وغير عربية مثل ( تركيا) من جهة ثانية.

 فيرى الفريق الثاني بأن سياسة إيران تشكل خطراً أيدولوجيا وتهديداً مباشراً لأمن الدول العربية، وأن تحركاتها تهدف لزعزة إستقرار المنطقة المفعمة بالأزمات في الأصل، بينما تجد إيران وحلفائها بأن الطرف الآخر يناصبها العداء دون سبب، ويحرف البوصلة بعيداً عن الخطر الحقيقي: إسرائيل. ووصلت حالة الإحتقان بين الطرفين ذروتها عندما حدث الإعتداء على السفارة والقنصلية السعودية في إيران، عقب عملية إعدام الشيخ نمر النمر مطلع عام ٢٠١٦، وأدت هذه التطورات إلى تحويل الأزمة الجيوسياسية لصراع بدا طائفي واسع النطاق.

 وفي إستعراض واضح للقوة قامت إيران في التاسع من شهر مارس الماضي بسلسلة من الاختبارات والتجارب على إطلاق صواريخ باليستية، أعقبها في المقابل أجراء تدريبات عسكرية واسعة النطاق بقيادة المملكة العربية السعودية ضمت عشرون دولة إسلامية وعربية.

 وفي خضم كل هذه التطورات الهامة والدقيقة بدت عُمان كواحة سلم تقع بمعزل عن هذه التجاذبات الخطيرة، وأظهرت شخصية مستقلة تختلف كثيراً عن جاراتها الأقربن لها. ظهر هذا الموقف جلياً حين عارضت دول الخليج الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، فسلطنة عمان لم تدعم هذا الاتفاق وحسب بل كانت هي من استضاف المحادثات السرية بين الجانبين الأمريكي والإيراني.

 لقد منح دور عمان المحايد ميزة فريدة من نوعها كونه أصبحت وسيطاً في العديد من القضايا الإقليمية. فعلى سبيل المثال، كان لعُمان دوراً أساسياً في فك أسر ثلاث سياح أمريكيين أعتقلوا في إيران بتهمة التجسس عام ٢٠١٠، وهذه السياسة ليست بجديدة، فإبان الحرب العراقية الإيرانية، إستضافت مسقط مباحثات بين الطرفين لكن دون نتائج تُذكر.

دور المحايد أدى إلى نجاح السلطان قابوس في الحفاظ على ثقة كل من الأمريكيين والإيرانيين، وجمعهم على طاولة المفاوضات خلف الأبواب المغلقة وبسرية تامة. ففي يوليو ٢٠١٢ استضافت عمان أول لقاء بين أمريكا وإيران ولاحقاً بعد تسعة أشهر التقى وليام بيرنز وزير نائب الخارجية الأمريكية سراً مع نظيره الإيراني مجيد رافانشي في مسقط، وقدم المبعوث العماني خلال الإجتماعات السرية رسائل هامة تحمل شروط المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران.

يمكن القول هنا بأن الإتفاق النووي الإيراني كشف الغطاء عن دور سلمي فاعل غير معلن لعُمان في المنطقة، وسياسة مستقلة ومواقف تختلف عن بقية دول الخليج. عُمان كانت الدولة الخليجية الوحيدة التي أبقت على عمل سفارتها في صنعاء بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة، كما أنها لم تشارك في عملية "عاصفة الحزم"، بل وأبقت قنوات الاتصال مفتوحة مع الحوثييت وموالين صالح. ولهذا، لم يكن مستغرباً أن يكون لها دوراً محورياً في تسليم جثة الطيار المغربي إثر سقوط طائرته في منطقة تقع تحت سيطرة الحوثيين.

لم يقتصر هذا الدور العماني على الأزمة اليمنية والاتفاق النووي الإيراني أو حتى قبلها الوساطة بين العراق وإيران، بل عزز دورها المحايد في تطوير علاقات جديرة بالثقة مع أطراف عديدة في الكثير من الأزمات الإقليمية. فقد حافظت عمان على علاقاتها مع النظام السوري في الوقت الذي قامت به الدول العربية بمهاجمه ومقاطعة الأسد، وفي أغسطس ٢٠١٥ التقى وزير الخارجية السوري نظيره العماني في مسقط، وفي أكتوبر من نفس العام التقى يوسف بن علوي وزير الخارجية العماني الأسد في دمشق. من جهة ثانية، توسطت السلطنة في الجزائر وساعدت في إحتواء أزمة غير معلنة بين الأمازيغ الأباضية وبعض العرب التابعين للمذهب المالكي.

وبعيداً عن الأزمة التي إستطاعت عُمان إحتواءها في الجزائر، يربط أغلب المراقبين الموقف والدور العماني مباشرة بإيران، فالوساطة بين إيران والعراق إبان الحرب بينهما، أو العلاقات مع أطراف بعينها في الأزمة السورية واليمنية على حد سواء، والوساطة السرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، جميعها ترتبط بشكل مباشر بالأخيرة.

يمكن القول أن هناك عدة أسباب قد تكون وراء هذا الإرتباط. فعلى الرغم من أن عُمان أحد دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها تشترك مع جار قوي – إيران- في ملكية مضيق هرمز الاستراتيجي، وهنا يصبح التعاون والنأي بالنفس عن أي إحتكاك أو تحدٍ خيار واقعي. كذلك وفي ظل الإنخفاض المتسارع في أسعار النفط، بدت خطوة الحفاظ على علاقات قوية مع مصدر ضخم للغاز الطبيعي قرار إستراتيجي خاصة وأن عُمان من أقل الدول غنى بالنفط في دول التعاون الخليجي. ولهذا، بدت وتيرة العلاقات الإستراتيجية بين عُمان وإيران متسارعة وبشكل ملحوظ، فبدأ البلدان في عملية تطوير خط أنابيب للغاز الطبيعي في المياه، كما أجريتا في شهر يناير الماضي مناورات عسكرية مشتركة.

في ذات الوقت، لم ينظر لهذا الدور السلمي التي تميزت به عمان إليه بشكل إيجابي من قبل الكثيرين، فالعديد من اليمنيين على سبيل المثال اتهموا مسقط بدعم الحوثيين ووصفتها بالأداة الإيرانية في المنطقة، وذهب مسؤولون آخرون لإتهام الدور العُماني بتقويض الجهود الرامية لعزل إيران في المنطقة. وهنا قد يتبادر لذهن بعض القًرّاء تساؤلات حول الأسباب التي تكمن وراء استمرار الدول التي ترى من إيران خطراً في التعامل مع عُمان بعد كل هذه المواقف والمؤشرات.

يمكن القول بأنه وحتى اللحظة لم تر هذه الدول أن التخلي عن عُمان – بسبب عدم تطابق المواقف في كافة القضايا أو حتى التقارب مع إيران- خياراً، وخاصة في ظل التدهور الكبير في أوضاع المنطقة، وإنطلاقاً من أن عُمان مكوناً أساسياً من البنية العربية الخليجية. كذلك، فهناك خشية بأن خسارة عُمان قد يعني موالاة الأخيرة لإيران وتعقيد الأمور أكثر عمّا هي عليه. إضافة لذلك، فإن السياسة الخارجية العُمانية بدت من الحنكة في ألا تُظهر مولاة ودعم مطلق لإيران، بل عبرّت في عدة قضايا عن وقوفها بشكل قاطع مع الإجماع الخليجي والعربي، كموقفها الحازم والرافض للاعتداء على السفارة والقنصلية السعودية في إيران.

في الختام، يبقى القول بأن استقرار السلطنة هام للمنطقة بأسرها، وأضحى دعم هذا الدور وعدم تحييده ضرورة ملحّة، فدورها التوافقي كان سبباً في نزع فتيل العديد من الأزمات، وهو الدور المرشح للمزيد من الجولات والمهام الصعبة وخاصة في ظل اتساع حالة الاستقطاب.