ثورة الغنوشي البيضاء وسفينة النجاة
تاريخ النشر : 2016-05-23 11:38

خطاب راشد الغنوشي مثل ثورة حقيقية وانقلابا على نهج الجمود والتحجر الاخواني والاسلاموي، فهو كان خطابا وطنيا بامتياز إذ وضع تونس عاليا فوق مصالح حزبه أو مصالح الأشخاص، وأعلن أن حزبه (وطني ديمقراطي مسلم في إطار الدستور والتطور) ، وأسقط الربط السياسي بالديني

استطاع راشد الغنوشي في خطابه الحاشد بمؤتمر (حزب النهضة) العاشر في تونس أن يحدث تغييرا حقيقيا في المسار إلى الدرجة التي من الممكن القول فيها أنه أنقلب كليا على القوالب الفكرية الجامدة، وإن كان هذا الانقلاب في مساره الفكرى قد جاء على أطوار، فهو في هذا المؤتمر أعلنها بصراحة وقوة إذ قطع كليا مع متاهات الفكر الجامد غير القابل للتطور تحت صيغة المحرمات ونقائض الدين وسيف جهنم.

ثورة الغنوشي كانت بالقطيعة مع تيارات الإسلام السياسي غير المنفتحة، وقطعا من بينها النموذج المشارقي في الاخوان المسلمين الذي لا يحبذه، ومع تيارات الظلمة والتكفير مؤثرا التقدم والإصلاح والنماء والوطن حيث من أعلى من فكرة (الوطنية) كثيرا على حساب الحزب ، ومن شأن (الوحدة الوطنية) على حساب المصالح، واستطاع أن يكرّس مجموعة من المفاهيم التي سبق له أن دونها في كتابة (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) الذي رسخت فيه ضرورة فصل السلطات وتعاونها وتعدد الأحزاب للوقاية من الاستبداد اضافة لضمانات أخرى لمنع الاستبداد حيث كان قد أكد في كتابة هذا الصادر عام 1993 على خيار الديمقراطية حيث أنه (يمكن وصفها بالجملة بأنها لا بأس بها فإنها لا تتجاوز كونها ممكنا من الممكنات وأن الاسلام لا يتناقص معها ضرورة بل أن بينهما تداخلا واشتراكا عظيما) ، وهو كان قد قطع شوطا كبيرا في احترام المرأة والذي عبر عن احترامه لها بذكر أمه وزوجته وبناته بوضوح في خطابه كما أشاد بأدوارهن، حيث كان في كتابه المذكور قد أشار الى أنه (ليس هناك في الاسلام ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة (رئاسة)...).

وفي نظرته للردة رآها الغنوشي جريمة سياسية تتمثل بالخروج على نظام الدولة وبالتالي يترك للإمام (الرئيس) طريق معالجتها حيث أكد (أن الردة جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة التي أقرها الاسلام وإنها مسألة سياسية ...) وذهب في الكتاب الى علمانية أو مدينة الدولة باحترام المواطنة التي لا تميز بين أصحاب المذاهب والأديان الى القول (ان اقرار أحد على مذهبه يقتضي ضرورة الاعتراف له بحق الدفاع عنه ...) وهو ما بدا واضحا في كل خطابه الذي جمع كل التونسيين بلا تمييز.

راشد الغنوشي في المؤتمر العاشر كرس مفاهيم ديمقراطية ووطنية وحدوية للحزب وفي تونس كما حدد مبادئ الدولة المدنية ، وجعل من التنمية والاقتصاد ومحاربة التكفيريين والإرهاب والحفاظ على الدولة الشغل الشاغل للنهضويين فيما فصل بوضوح بين استغلال الدين والسياسة (النأي بالدين عن المعارك السياسية) وكرس مدنية الحزب ووطنيته بإسقاط الدعوي منه ما اعتبره في سياق التطور الطبيعي .

الوطنية :

كان الخطاب مشبعا بالروح الوطنية بامتياز ، فخلا مما هو عادة الاسلامويين من الاستشهاد بالآيات القرآنية حيث وجب أو لم يجب وفي سياق الاستخدام السياسي للآيات ولي عنقها، حيث عبر عن حبه الجم لبلده تونس بالقول أنه (من اجل تونس مستعد أن أذهب الى غوايتمالا وليس الى باريس وحسب).

ودون موارية كان واضحا بتغليب الوطني على الحزبي إذا أكد في خطابه (20/5/2016) (يمكننا أن نخسر الحكم ولكننا نربح تونس) لأن (المهم لنا وطننا واستقراره) ونحن (نساند الدولة بشكل مطلق في حربها ضد الدواعش والتكفيريين) مشيدا بكافة مفاصل التاريخ الوطني التونسي دون اغفال ، واعتبر اهتمامات الشعب أولى من الصراعات الايديولوجية التي تبعت على الملل ، مؤكدا الاعتزاز بالوطن وبالجمهورية.

لذلك قوطع خطابه فرحا حين قال (سفينة تونس تحمل الجميع) بأغنية رقص عليها النهضويون الحاضرون وهي أغنية (شدوا الهمة الهمة قوية، مركب ينده على البحرية، يا بحرية هيلا هيلا).

الدولة والحكومة :

لم ينفك عن الربط بين الوطن والدولة والدفاع عنها حد الموت إذا أعلنها صراحة موجها خطابه للمنتمين لحزبه (ايها النهضويون أنتم قوة للدولة وليس لكم سواها ، ونحن جزء من الدولة وسند لها) بل وأعلن الدعم الكامل للحكومة الحالية أيضا ، وأعلن مساندته لحرب الحكومة ضد التكفيريين والإرهابيين حيث ان تونس (أقوى من حقدهم وستهزمهم بإذن الله) فهي الدولة التي (نفديها بدمائنا) وهي (العصية على الارهاب بتجذر مبادئ الدولة) في هذه البلاد.

كما أكد دعمه (للدبلوماسية التونسية ببعديها الرسمي والشعبي ، ومهمتها الأولى فتح الأسواق ...) من حيث كان تركيزه الشديد على الاقتصاد والاصلاح الاداري والتنمية.

الوفاق وسفينة الوحدة والشراكة :

لم يتوقف الشيخ راشد عن مد يديه كحزب لجميع الشركاء حيث أن (أيدينا ممدودة للجميع ، وسياسة التوافق تتسع للجميع ، والسفينة لا تستطيع الإبحار إلا بكل أبنائها) حيث (أننا تمكنا ينهج التوافق الذي صنع الاستثناء التونسي).

لقد كان النفس الوحدوي عميقا اذ أكد (أن النهضة قوة توحيد وتجميع لا قوة تفريق وتقسيم) حيث أنه مع الاصلاح و(تونس موحدة ضد الفوضى والإرهاب .. وديمقراطية ومتقدمة) والحلم التونسي هو ما يجب تقاسمه مع كل التونسيين ما يحفزنا للكد والبذل والعمل).

وأعاد التأكيد في منتصف خطابه أنه (مع المصالحة الوطنية والشراكة ومع الثورة التونسية لإبعاد الاستبداد عن البلاد ، ومع كل الطيف السياسي والفكري بلا أحقاد ولا إقصاء) وفي ظل انكسار مواكب الربيع العربي كما قال، فإن تونس العظيمة صنعت الاستنثناء (بالحوار وقبول الآخر وتجنب الإقصاء والانتقام ، فتمكنت تونس من الصمود أمام الاعاصير)، هذا الحديث الذي يمكن الاستدلال منه بلا مواربه على رفضه القاطع لمآلات الربيع العربي وعدم موافقة على نهج الأخوان المسلمين في مصر وغيرها .

ثورة الانتقال من الايديولوجية :

إن الثورة الحقيقية للغنوشي تأتي في سياق تأكيده على وطنية وديمقراطية الحزب إضافة للأولوية للتنمية والادارة، والاقتصاد الذي تحدث عنة مطولا طالبا عدم الإملال من الحديث عنه. وفي ذات السياق الثوري أنجز النقلة لمصلحة الوطن والمواطن بالتخلي عن الشعارات الايديولوجية الخلابة لماذا؟ (لأن الشعب ملّ الصراعات الايديولوجية .. فالمواطن معنى بأشياء أخرى) بل وطالب المؤتمرين أن يعدلوا ساعاتهم على اهتمامات شعبهم لا الصراعات الايديولوجية وهنا مربط الفرس لأن (الدولة العصرية لا تدار بالايديولوجيا ولا الشعارات الفضفاضة والمزايديات بل بالحلول والبرامج الاقتصادية والاجتماعية) ما يعني التخلي عن مطلب كافة الأحزاب الاسلاموية باعتبار (الشريعة) هي أساس الحكم .

وذهب منذ بداية الخطاب للقول أننا (نميز السياسي عن بقية المجالات المجتمعية كتتويج لمسار تاريخي حيث تمايز السياسي عن المجتمعي والثقافي والدعوي في حركتنا) فأسقط الربط بين السياسي والديني الدعوي الذي رسخه حسن البنا وسيد قطب من بعده وغالب الأخوان المشارقة لانتفاء التوفيق بينهما دون أن يتم استغلال الدين لمصلحة الحزبي السياسي كما أشار بتجرده من المصالح الحزبية في مقابل الوطن.

ولذلك أوضح وأكد-ما نراه عكس ما أكده بوضوح في قطاع غزة للأسف- اننا (حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية ، والنأي بالمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي ...).

وفي إطار الرفض لإقصاء الدين، لم يذكر أي ربط للدين مع السياسة كما هو شأن أدبيات الاخوان المسلمين، وإنما جعل الربط المطلوب هو بين الدين مع الحياة العامة، وهنا يكون قد أغفل كليا الإشارة للشريعة أو العقيدة أو الأحكام كأساس للتعامل السياسي في الدولة أو بين الأحزاب أو في المجتمع ، جاعلا ذلك التعامل مرتبطا ب(قيم الإسلام) مثل الصدق والنزاهة والشغل باعتباره محرك العمل والتعبئة وإنها أي قيم الإسلام -وليس العقيدة أو الشريعة...أو الأيديولوجية- كما قال (أدوات حرب المتطرفين) بل دعى لإعادة تأهيل العلماء الوسطيين لدحض التطرف.

وحدد الغنوشي طبيعة الحياة الداخلية في الحزب أنها ديمقراطية، فالمؤتمر يعقد كل 4 سنوات ، رابطا بين الديمقراطية والشورى ما كان قد أثاره في كتابه المشار إليه وطبقه في المسيرة الحزبية للنهضة.

الهوية الجديدة للنهضة :

قال بلا مواربة أن (النهضة حزب وطني يغلب مصلحة تونس على مصلحة الخاصة) وبعد أن اعترف بالأخطاء نزع القداسة عن الشخوص والتنظيم ما كان مسار التنظيمات الاسلاموية التي تأبى النقد الداخلي وتحاربه حيث أضاف (فنحن نعترف بالأخطاء قبل الثورة وبعدها ، ونتطور ونصلح ولا نستنكف أن نسجل على أنفسنا الأخطاء فنحن بشر).

أما مسار الحزب فرآه في ثلاث مراحل الأولى المرحلة العقدية في العركة من أجل الهوية ، ثم انتقل للمرحلة الاحتجاجية كما سماها التي تدعو للديمقراطية في مواجهة النظام الشمولي واعتبر أن المرحلة الثالثة في الحروب وهي الحالية بالتحول إلى (حزب ديمقراطي مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الاسلام ملتزمة بالدستور وروح العصر) إذ اسقط كليا المفهوم التقليدي للدولة الإسلامية التي تحتكم للشريعة وأحكام الإسلام كما تراها تلك التيارات حتى الآن.

ثم اعاد تعريف الحزب ثانية بالقول (نحن المسلمين الديمقراطيين) وليس الإسلاميين مضيفا أننا (نتميز عن تيارات التشدد والعنف التي تنسب نفسها ظلما وجورا للإسلام).

ولم ينسى في نهاية الخطاب ان ينزع غطاء القدسية الموروث في التنظيمات الاسلاموية عن الحزب و رجاله لاسيما أنه اسقط الدعوي إلى غير رجعة فقال أننا (تعلمنا الشجاعة للاعتراف بأخطائنا ومراجعة سياساتنا بعيدا عن الغرور ، فالنقد الذاتي شرط في عالم الحداثة وسنكرسه في مؤتمرنا العاشر) وكأنه يشير للإخوان المسلمين المنظمة الأم التي لم يذكرها بالاسم لا بخير ولا شر.

وهو في إطار المصطلحات قد استبعد الاستخدام لمثل: الإسلامية والعلمانية والشريعة والأحكام ..الخ من تعريفات ومفاهيم أصبحت مضللة في هذا الزمان واحتكارية للخاصة (من الاسلامويين) يفهمونها

كما يشاؤون في إطارالأنانية الشخصية و الحزبية والاستغلال السياسي، وهي المفاهيم ذاتها ذات الطبيعة الاقصائية للآخر حيث يسعى كما يبدو لأن يخلص حزبه منها لا سيما وتأكيده على ضرورة توقف التنظير والأيديولوجية والاهتمام بمصالح الناس.

مبادئ الدولة المدنية :

أكد الغنوشي على مبادئ الدولة المدنية في المواطنة وحق المرأة التي أشاد بها مشيرا لدور والدته ووالدة الشيخ عبد الفتاح مورو بل وزوجته (أنظر كتابه آنف الذكر) وعلى مبادئ الكد والبذل والعمل وعلى الحرية وهيبة الدولة ورفض القمع وإعادة الاعتبار للدولة ومؤسساتها ، وكان الاقتصاد شغله الشاغل فقرنه مع الاصلاح الاداري ، بل واعتبر ان النقلة أو المرحلة الثالثة الحالية بعد مرحلة الدفاع عن الهوية والانتقال الديمقراطي عنوانها المهمة الاقتصادية ، ودعا للتميز الايجابي بالدستور ولثورة ادارية وقانونية ليطلق (العملاق من عقاله) محييا الاتحاد العام التونسي للشغل وكل المنظمات الوطنية .

لم يفت الغنوشي أن يعبر عن اعتزازه (بالجمهورية ونمط المجتمع الذي اختاره التونسيون) أي لم يختره هو وحزبه نيابة عن الله أو نيابة عن الدين لهم، بل وأكثر من ذلك اذ عبر عن اعتزازه بتاريخ بلاده بدءا من حنبعل (هانيبال) إلى رواد النهضة دون أن ينسى الجيب بورقيبة لأنه (لا ينبغي أن نضرب تاريخ بلادنا بعضا ببعض)، وليس كما تفعل بعض الأصوات في فصيل "حماس" التي لا تكف عن الإساءة للوطنية الفلسطينية ورموزها سواء أكانوا أشخاصا أو أثر مادي، ناهيك عن شلال التخوين وأحيانا التكفير.

المحيط العربي :

بعد أن أشاد مطولا بما أطق عليه (الاستثناء التونسي) -وهو كذلك حقا- ضمن الربيع العربي أشاد بالامتداد والخيار المغاربي، وقيّم الوضع في المشرق العربي إجمالا أنه (يحترق) داعيا لمصالحات شاملة دون أن يذكر اسم دولة أو حزب، ودون أي ذكر لا لفلسطين ولا للقدس ولا للشعب الفلسطيني ولا للاسرائيلي ما يحتاج لنظرة وتأمل عميق .

ورغم تشاؤمه من المراكب الخمسة كما أسماها -هي دول ما أسمي الربيع العربي) التي أبحرت في الربيع إلا انه أكد أن (الديمقراطية ممكنة في العالم العربي ، والاستثمار فيها اضمن من الاستثمار بالدكتاتوريات) غامزا من قناة بعض الدول العربية بما أسماه الانقلاب على الربيع العربي.

كان من المهم أن للغنوشي أن يختم خطابه بما بدأه وبما عنونه أي بالسفينة لأنه كما ختم قائلا (آن لسفينة تونس أن تترك الميناء وهو آمن اللآن ، لتشق طريقها نحو التقدم والازدهار والرقي لكل ابنائها وعلى بركة ننطلق).

من الممكن أن نقول ختاما أن خطاب راشد الغنوشي مثل ثورة حقيقية وانقلابا على نهج الجمود والتحجر الاخواني والاسلاموي، فهو كان خطابا وطنيا بامتياز إذ وضع تونس عاليا فوق مصالح حزبه أو مصالح الأشخاص، وأعلن أن حزبه (وطني ديمقراطي مسلم في إطار الدستور والتطور) ، وأسقط الربط الديني كليا مع السياسي الحزبي محذرا من استغلال السياسيين للدين وبالمساجد، ,واكد أن الشعب ملّ الايديولوجيات الفارغة فهذا وقت العمل للوطن ولمصلحة العباد، كما أسقط قداسة الاسلامويين بالاعتراف بأخطائه وضرورة ممارسة النقد والنقد الذاتي ضاربا المثل بالخراب الذي عليه نظراء حزبه بالعالم، فتحية لتونس ول(الاستثناء التونسي) وشعبها وكل أطيافها، وللفكر الحر لراشد الغنوشي