ركّاب (الفيسبوك) من أرسطو إلى عمرو
تاريخ النشر : 2016-05-22 14:26

  عندما يتجول المرء أثناء مروره على سهول وهضاب المنطقة الجغرافية الافتراضية على الشابكة (الانترنت) المسماة (فيسبوك) -وعلى شقيقاتها من وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى وإن بشكل أقل- يجد جماعات متنوعة ومتناقضة تنتشرهنا وهناك ، ويرى أفرادا متفرقين منهم من افترش الفضاء وكأنه مقيم دائم لا هم له إلا الظهور، ومنهم من يطل من كوة في الجدار---يعطي شيئا أو يلملم أشياء---- ويغيب، ومنهم من يمسك بيده العصا وعمامة الحكمة، أو قد ترى منهم من يصعد الهضاب فيلقي بحجارته على الناس، وقد نرى الوافر من الضاحكين والمبتسمين في جماعات يناقضها أولئك السوداويين المحبطين البائسين.

بين الينابيع والمستنقعات في جغرافيا التواصل الافتراضي وما بين السهوب والجبال ترى التنوع والتعدد المرغوب ، وترى ينابيع كما ترى ظواهر مستنقعات مقززة, تثير الاشمئزاز أو تجعلك ترغب بشدة أن تهجر هذا المكان وتطلقه إلى الأبد.. الإعلام الاجتماعي يمثل مقهى كبير يمارس فيه الكثرة حديث القلة.

المقهى قديما

في عصور مضت كان الرجال، يستخدمون المقهى للدردشة، وكان حكرا عليهم، دون النساء والأطفال والسفهاء، أما مواقع التواصل الاجتماعي فهي مفتوحة كسوق يرتاده كل الأنواع والأصناف، في المقهى الناس يتحدثون كما يتحدث رواد مواقع التواصل الاجتماعي فالحديث أو الدردشة أصبح (chat) والمشاركة (share) وقول ما لديهم من خلال المنشور (post) فيحققون ثلاثية المتعة والاتصال والفائدة، وربما أحيانا لا يكون إلا المتعة والتكاسل ونحر الوقت بلا طائل أو إفادة للذات أو للعباد، بخلاف مهم أن المقهى للذكور والناس وجها لوجه مستورة الجسد، والعين بالعين تخجل، والمجتمع الافتراضي للجميع دون استثناء والناس يستخدمون أحيانا أسماء غير أسمائهم وصور غير صورهم وقد يتحدثون وهم بلا احتشام بالجسد أو الألفاظ.

في الماضي كانت النساء تلتقي ما قبل الظهيرة لذات الغرض في بيت إحداهن فتصبح أخبار المحيط من الجيران متداولة، وكلما كان الحديث يطال إحدى الغائبات بالغمز واللمز أوبالذم والقدح كلما زادت فناجين القهوة أوملحقاتها من المعجنات أوالحلويات.

 

الحياة على الشابكة أم في الفيسبوك؟

عندما تسير في شارع من شوارع أي مدينة في العالم، فأنت لا تدخل فقط المقهى وإنما قد تدخل البقالة أو السوق التجاري أو المطعم أو المتحف أو المكتبة أو الحديقة، أو قد تعرج على النهر أو البحر وقد تدخل المسجد أو الكنيسة ، وقد تزور صديقا أو قد تعرج على الطبيعة تقبل الأشجار والأزهار والأطيار.

أنت تتحرك وتمارس في الجغرافيا مختلف النشاطات ذات الأمكنة المتعددة ، ولو تخيلنا الشابكة (الانترنت) بنفس الشاكلة فإن كثير منا لا يدخلون مما سبق إلا المقهى (أي الفيسبوك) فأين الحياة في ذلك؟ وأين العلم وأين الفائدة؟ وأين العمق بل وأين المتعة؟ وهنا تقتصر حالة المدمنين على هذا الموقع أو أشباهه أنهم يطلّقون الحياة الافتراضية المتنوعة على الشابكة أولا كما يطلقون الحياة الحقيقية فكيف لنا أن نسمي ذلك حياة ؟ قد لا تكسب هذه الفئة إلا مزيدا من هدر الطاقة وضياع الفكر وضياع الوقت.

حكماء الفيسبوك ومتمرديه

في هذا المقهى الافتراضي الكبير (أي الفيسبوك) الذي يمد أذرعته كالإخطبوط على مستوى قارات العالم نجد النماذج المختلفة تلك التي تتربع بين سهوله وهضابه وفي ينابيعه ومستنقعاته لتمارس الكثير مما يجوز لها ممارسته في مكان مادي فيزيائي آخر ولكنها تجد من السهولة والمتعة أو تجد من الكسل والتراخي ما يمكنها من هذه الممارسة دون قيد أو شرط، وقد نرى من بعض النماذج ما يلي.

شخصية أرسطو

هم حكماء الفيسبوك : هم الفئة التي تصادفك صباحا وتجعلك تلطم خدودك بمجموعة لا تنتهي من النصائح أو بمجموعة من الحِكم والأمثال والعِظات ذات الطابع البات المانع القطعي والمطلق و المنسوب لهم لا لمفكرين أو مصلحين أو علماء يعتدّ بهم، في جُمل خبرية تبدأ بمثل ((الحياة ...) (لا شك ...) (بلا جدال ...)) وكأنهم قد لبسوا عمامة الشيخ أو رداء العالم أوثوب الأنبياء أو كلهم معا، فالمخاطب هو أنا المخاطب (أي جماهيره كما يعتقد) وليس هو.

ويثير فيك السؤال إن كان هذا "الحكيم" يمتلك كل هذه الحكمة أو يؤمن بما يكتب إلى هذه الدرجة لم لا يستطيع أن يعيد بناء العبارة بشكل مريح أو أفضل ولم لا يعمق رؤياه أو رأيه بمقال أو بحث أو دراسة ولم لا يسند ما يقوله ولم لا يحتمل المعارضة أو التعديل على قوله ، ولما لا يقرأ كثيرا ليكتسب من الأدب والثقافة والعلم ما يجعله مؤهلا ليعرض وليس ليفرض رؤيته؟.

شخصية هولاكو

هم أصحاب (الشخصيات المتسلطة) حيث يواجهك هؤلاء الأفراد بمجموعة من النصائح على شكل أوامر مباشرة بلا مواربة فما هي بالنصيحة أو العظة ك"الحكماء" السابقين، بل هي تأتي مفترضة منك الاتباع الأعمى، هي أوامر سلطانية ملوكية موجهة لك وليس له ، وما عليك إلا الخضوع او الطاعة المطلقة وكأننا تحت مقصلة تنظيم فكراني (أيديولوجي) يقطع الرقاب فعليك أن (لا تفعل) أو(افعل) وإلا.

شخصية عمرو أديب

أو هي شخصية الإعلامي، إذ قد يكون منهم الإعلامي الحقيقي الذي يعرف كيف يصيغ الخبر وينقله ويقدمه بحيادية وثقة ومصداقية وامانة دون إشباع الخبر بالعواطف والتجريحات التي تنقل الخبر من كونه خبر إلى منطقة الرأي غير العلمي وغير المستند لأساس عاطفي وهؤلاء الاعلاميين المنصفين هم القلة للأسف الشديد.

الطائفة العظمى هي من أشباه الإعلاميين أو مدعي الإعلامية هم الذين يرددون الأكاذيب أو خلائط الحقائق مع الأكاذيب وهذا تماما شأن فكر التضليل لدى كثرة من الأحزاب، أو كما هو شأن الدعاية الرمادية لدى الدول والمنظمات والجماعات، أو كما هو شأن الاعلانات التجارية التي تجعل من المادة الغذائية الفلانية او الآلة العلانية أو المسحوق الفلاني ضرورة لك أو لبيتك تفقد فيها نصف حياتك إن لم تمتلكها وفي حقيقة الأمر هي لا تقدم شيئا ولا تؤخر.

شخصية النرجسية

هي شخصية الإنسان الذاتي أو المنفاخ أو المحب لذاته المغتر بها، ومثل هؤلاء من يستقبلونك بالأنا المتضخمة فيطل على أحبته (يفترض أن كل ركاب الفيسبوك ينتظرون طلعته البهية أو كلماته السلطانية أو سقطات لسانه الدريّة) بكلمة مكررة مثل صباح الخير أحبتي الأعزاء أو مساء الخير أصدقائي الحلوين، وما يشبه ذلك بشكل متكرر ، وإن غاب عن حسابه في الفيسبوك يجد نفسه ملزما أمام (جماهيره) (الغفيرة) أن يبرر ذلك فهو إما مريض ويعتذر أو مسافر أو في العملية أو يده مكسورة أو عينه مخرومة أويعاني من الزكام أو ...

شخصية شكري سرحان (من شريط ساعي البريد)

حيث يمتليء الفيسبوك بصفحة الاجتماعيات فتنتقل الصفحات بين الدعوات للغداء أوالعشاء خاصة بعد أن تكون المناسبة قد انتهت والصورة طافحة بما لذ وطاب وعليها عبارة تفضلوا؟! يا سيدي اتصل بي واعزمني مسبقا! آتيك ركضا أو حبوا على يديّ ورجلي، وقد تجد التباريك بمولود أو عيد ميلاد أو خطبة أو زواج (لم نجد حتى الآن إشعارات بطلاق أو نية طلاق)، وتجد أخبار الوفيات وفي هذا نعتقد أنها مشاعر جميلة ولطيفة وهامة، ولكنها تفقد قيمتها الأصلية والبرئية اذا ظلت فقط على حائط (الفيسبوك) وتم الاستغناء فيها عن الحياة المعاشة، وفيها من الإسفاف أن فلان يحتفل بذكرى وفاة أمه العشرين واضعا يده على خده ويبكي أو يظهر هكذا، ناهيك عمن يتصور مع احد أقربائه على سرير الموت وهو يضحك (لم نجد صورا حتى الآن لأشخاص عرب تصوروا مع أمهاتهم بعد الموت بلحظات بصورة ذاتي(=selfie))، أو ذاك الذي يحيى ذكرى أبيه الذي علمه وأصبح قدوة له كما يدعي بينما هو في الواقع كان ولدا مشاغبا لم يستمع قط لأبيه.

العجائب الاجنبية كأن يظهر المستخدم للفيسبوك برفقة ميت أو قتيل للتو صدمته سيارة أو للتو مات لم تبرز حتى الآن، ولكن مثلها أن يتصور أحدهم مع صديق مريض يجري عملية قلب أو خلافها داعيا جمهوره (العريض) لأن يدعو له بالشفاء وهو يتضور ألما ، أو أن يلتقط صورة له وهو على سرير المستشفى أو وهو يعاني من نزلة برد ما يتضمن انتهاكا للخصوصية.

شخصية محمود درويش

حيث تجد مجموعة من المحاولات التي لا ترقى لتكون تأملات أو حتى شطحات يعتبر كاتبها نفسه شاعرا أشوسا ومفكرا لا يشق له غبار أو أديبا يناظر بأدبه أحمد شوقي أو عباس محمود العقاد أو محمد حسين هيكل (غير محمد حسنين هيكل) أو إسعاف النشاشيبي أو محمود درويش (طبعا غالبهم لا يعرفون أصلا هذه الأسماء) وتحفل مقطوعاتهم (الأدبية) و(نصوصهم الشعرية) بما لذ وطاب من الأخطاء الإملائية وأخطاء الصياغة وركاكة اللفظ والنص ذاته ، وإن جرؤت على نقد أيهم؟؟؟ أو دعوته للتعلم وللقراءة العميقة... يا ويلك ويا سواد ليلك!

في إطار النقد لطريقة الاستخدام التي نراها سيئة أو غير سيئة، منصفة أو غير منصفة أو ذات اسفاف لوسائل التواصل الاجتماعي أحيانا لدرجة إدمان البعض نجد بالمقابل امكانيات عالية لاستخدامها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بل وأمنيا، فلا بأس بذلك باعتدال، ومن الاستخدامات الناجحة الأخرى غير كتابة المنشور والدردشة حملات التبرع وحملات الدعم والمؤازرة وحملات القيام بنشاط ميداني مشترك ، والدعوات لحضور مناسبات / حفلات /دورات/ افتتاح شريط أو مسرح أو طلبات المشاركة في نادي أو جمعية ما نفيد من كل ذلك ان الامكانيات وافرة ولكن طريقة الاستخدام وفن العرض هي محدد النتيجة المتوخاه أما ضياع أو تضييع للوقت فهو الانتحار بعينه.