ما لم يفهمه اوباما عن مصر المحروسة
تاريخ النشر : 2016-05-08 10:45

تطرق الرئيس باراك أوباما في حديث للصحافة العالمية بشهر مايو /2016 إلى العديد من القضايا بالمنطقة العربية والإسلامية ومن بينها الربيع العربي المزعوم وصرح بأنه لم يكن يتوقع أن يتنازل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن الحكم وأن يترك السلطة بهذه السرعة.

وقد استعصي علي سيد البيت الأبيض أن يستوعب لماذا كان هذا التنازل بهذه السهولة ،والحقيقة أن مرد ذلك إلي عاملين اثنين رئيسين ، أولهما الحاكم المصري ووعيه وحسه بالمسئولية ، وثانياً العقيدة المصرية الوطنية لجيش مصر.

وبالنظر إلي العامل الأول وهو وعي الحاكم المصري وحسه بالمسئولية ، فبغض النظر عن نظام الحكم بمصر سواء أكان ملكياً أو جمهورياً فلديه حسّ وطني عال وشعور كبير بالمسئولية ؛ ونتذكر جميعا كيف تنازل الملك المصري فاروق الثاني عن الحكم بعد ثورة يوليو1952؛ وكيف أن الملك خطّ توقيعه بيده علي وثيقة التنازل عن الحكم وأستقل يخت المحروسة مغادراً صوب ايطاليا بعد استعراضه حرس الشرف وإطلاق المدفعية 21 طلقة لتحيته وهو ببزته العسكرية ، وجاء بوثيقة التنازل لما كنا نتطلب الخير دائماً لامتنا، ونبتغى سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة، ونزولاً على إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش .... بتلك الكلمات البسيطة أعلن الملك فاروق نزوله وتخليه عن عرش المملكة المصرية ،وكذا فقد تنازل الزعيم الراحل الخالد الذكر جمال عبد الناصر عن سدة الحكم بعد النكسة بالجبهة العربية بالعام 1967 حتي أن الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل الذي اعد خطاب التنحي فكتب فيه أن الرئيس يتحمل جزء من مسئولية النكسة لم ترق للزعيم عبد الناصر تلك الفقرة فقام بتعديلها لتصبح انه يتحمل كامل المسئولية عن النكسة وليس جزء منها .

ولم يتواني الرئيس مبارك عن الحذو في درب من سبقوه بالزهد في المنصب ، ففي اللحظات الأولي للمظاهرات التي اندلعت بميدان التحرير سأل بعفويته المشهورة مدير مخابراته الراحل عمر سليمان عن مطالب الجماهير فأجابه بان الجماهير تطلب الرحيل ، فوافق بدون تردد وأمره علي الفور بأعداد خطاب التنحي الذي تلاه الأخير بنفسه علي التلفزيون المصري في مدة لا تتجاوز الدقيقة ؛ فلقد كان الرئيس المصري يعي خطورة الأوضاع وحجم المؤامرة التي يشترك بها أطراف داخلية وخارجية واجهزة مخابرات عالمية تواطأت عن بكرة أبيها علي مصر؛وبقي الرئيس بعد التنحي بمصر ولم يغادرها بالرغم من العروض الخليجية لاستضافته هو وأسرته إلا أن المحارب القديم لم يهرب ولم يغادر، وواجه مصيره بشجاعة كبيرة

واثر أن تكون إقامته علي ثري الوطن وهو الذي اشترك بالدفاع والذود عن حياضه بالعام 1973.

•         وبالنسبة للعامل الثاني وهو العقيدة الوطنية للجيش المصري ففي اللحظات الحرجة للوطن كان تدخل المؤسسة العسكرية هاماً ومفصلياً في الحياة السياسية المصرية وكمبدأ عام فان هذا التدخل كان استثنائياً لفرض الأمن والأمان ٬ و انطلاقاً من هذا المبدأ نزل الجيش إلى الشوارع لفرض الهدوء في يناير 1977 بأعقاب تظاهرات اندلعت احتجاجا علي غلاء الأسعار ورفع الدعم عن السلع الأساسية استجابة لشروط صندوق النقد الدولي بعصر الراحل السادات الذي أطلق اسم -انتفاضة الحرامية- علي تلك المظاهرات وقد طلبت القيادة العسكرية المصرية في حينها ممثلة في الفريق محمد عبد الغني الجمسي وزير الدفاع المصري بإلغاء تلك القرارات أولا قبل نزولها للشارع حتي لا تصطدم بجموع الشعب الثائر وكان له ما أراد ، فنزلت الوحدات العسكرية المصرية إلي الشوارع وحفظت البلد والأمن بعد إلغاء تلك القرارات .

ثم في عام1986 اندلع تمرد جنود الأمن المركزي ، وتطورت على نحو واسع حركة ذلك التمرد بكافة أنحاء الجمهورية وقد بدأت الأحداث حين بدأ ثمانية آلاف جندي مظاهرات احتجاجية بعد أن ترددت بينهم أنباء تفيد بأنه تقرر مد فترة التجنيد الإجباري لأفراد الأمن المركزي من ثلاث سنوات إلى أربع سنوات فعمت الفوضى والحرائق شوارع المحروسة ، فنزلت الجيوش المصرية لتحمي البلد من تدمير ممتلكاته و قدراته وكان ذلك في عهد الرئيس الأسبق مبارك و المشير عبد الحليم أبو غزالة الذي كان وقتها وزيراً للدفاع , واستطاع الجيش إنهاء التمرد بأيام قليلة ؛ ثم تدخل مرة أخري الجيش المصري في25 يناير ٬2011 30و يونيو 2013؛ و انحاز كعادته لمطالب الجماهير العريضة بالحرية والتغيير....

ففي جميع هذه الحالات الاستثنائية بعمر الوطن كانت هناك الضرورة للحفاظ علي الوطن ومكتسباته و لم يكن النزول بهدف الاستيلاء على السلطة ولا الوقوف ضد الحركة الوطنية الشعبية او المد الجماهيري ؛ولكن للحفاظ على الأمن القومي المصري وضروراته ،من أيدي عابثة أو مأجورة ،بعد ان وقعت دول بالإقليم في فوضي عارمة بعد أن أنشب الخريف العربي ذو النكهة الأمريكية بأظافره في جسد الأمة فأنهكها وأضناها .

-هذا ما لم يفهمه اوباما عن المشهد السياسي في مصر واستغرابه من نجاح الثورات المصرية السلمية بهذه السهولة ، فوعي الحاكم المصري علي مر الأوقات والعصور وحسّه العالي بالمسئولية القومية تجاه شعبه وأمته؛ يلجئه للزهد والتنازل عن المنصب وتقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة ؛ والعقيدة الوطنية للجيش المصري المنحازة دائماً لجموع الجماهير و تطلعات الشعب فهم كما ورد بالحديث ( إن خير أجناد الأرض جند مصر ) فهذه الأسباب التي مكنته من صنع التاريخ ؛ كعادة الشعب المصري دوماً .