المشروع الفرنسي بين سياستين
تاريخ النشر : 2016-05-05 16:39

نتنياهو يستنزف المشروع الفرنسي حتى قبل إطلاقه، تقابله سياسة الفريق الفلسطيني: الهرولة وراءه، والتفريط المسبق بأورق القوة.. ورقة بعد ورقة.

■ تعامل نتنياهو، والقيادة الرسمية الفلسطينية، مع المشروع الفرنسي لإستئناف المفاوضات بسياستين مختلفين، تعكس كل منها إستراتيجية صاحبها، في تعاطيه مع قضايا الصراع في المنطقة. وهي إستراتيجية لا تقف عند حدود المشروع الفرنسي نفسه بل تتجاوز هذا المشروع نحو العديد من القضايا المشابهة، وهي من شأنها في الوقت نفسه أن تعكس نفسها بشدة على تحركات كل طرف، داخلياً، مع حلفائه وخصومه، وإقليمياً، ودولياً.

نتنياهو، إستقبل المشروع بتحفظ، ولم يرحب به، بل أخضعه للدراسة، والتمحيص، وطرح الأسئلة حوله وحول بنوده، وحول مساره السياسي. ثم أعلن إعتراضه على نقطتين إعتبرهما تدخلان في باب الشروط المسبقة وهي إستعداد فرنسا للإعتراف بالدولة الفلسطينية في حال وصلت المفاوضات إلى الطريق المسدود. وقال إن هذا من شانه أن يشجع الفلسطينيين على إفشال المفاوضات لينالوا الإعتراف الفرنسي. النقطة الثانية رفض رسم سقف زمني لإنجاز المفاوضات، معتبراً أن هذا الشرط من شأنه أن يشكل مسدساً مصوباً إلى رأس المفاوض الإسرائيلي.

الجانب الفرنسي، إرضاء لنتنياهو، وحتى قبل الدخول في المفاوضات، إستجاب لملاحظاته وإعتراضاته، وأسقط الوعد المسبق بالإعتراف بدولة فلسطين، كما أسقط من بنود مشروعه مسألة السقف الزمني. وبعد أن نال نتنياهو ما أراد، وعصر المشروع الفرنسي، أعلن رفضه له، لأنه لا يريد شريكاً، لا فرنسياً، ولا أميركياً، إلى طاولة المفاوضات، بل يريدها مفاوضات ثنائية وجهاً لوجه مع الجانب الفلسطيني، ولسان حاله يقول «إن الإستفراد بالفلسطيني يتيح لي أن أضغط عليه حتى آخر الحدود لا كسب كل ما أريد» أما في حال حضور طرف ثالث، فإن هذا الطرف من شأنه أن يقدم إقتراحات «متوازنة»، على حساب الضغط الإسرائيلي، وبالتالي سيشكل الطرف الثالث في كل الأحوال، عاملاً مساعداً أو مسانداً للطرف الفلسطيني، لذلك الإصرار الإسرائيلي الدائم على إستبعاد أي تدخل دولي أو إقليمي في المفاوضات، إلا إذا كان المؤتمر الدولي على شاكلة مؤتمر أنابوليس، حيث تجتمع الاطراف الدولية والإقليمية لإطلاق المفاوضات، ثم ينفرط عقد المؤتمر، وتدار المفاوضات في الإطار الثنائي.

الجانب الفلسطيني المتلهف على المفاوضات، بإعتبارها الإطار السياسي الذي يضمن له إبقاءه في المعادلة السياسية الإقليمية، وبإعتبارها خياره الوحيد، ومن شأن تعطلها أن يضرب له هذا الخيار.. سارع إلى الترحيب بالمشروع الفرنسي حتى قبل أن يطلع على بنوده.. وحين أسقطت فرنسا وعدها بالإعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشلت المفاوضات، بقي الترحيب الفلسطيني على حرارته. وحين أسقطت فرنسا من مشروعها السقف الزمني، لم يتزحزح الجانب الفلسطيني عن موقفه في الترحيب الحار. بل ذهب أبعد من ذلك حين قدم تنازلاً مسبقاً من طرفه، فسحب الشكوى إلى مجلس الأمن ضد ملف الإستيطان، بذريعة أنه لا يريد أن يشوش على مسار المشروع الفرنسي، وحتى لا يشكل ذلك حجة لنتنياهو لرفض المشروع. بلع نتنياهو التنازل الفلسطيني المثلث الزوايا، وإنتهى به المطاف إلى رفض المشروع الفرنسي. وبدا سحب مشروع الشكوى إلى مجلس الأمن وكأن قضية الإستيطان مجرد قضية «تكتيكية»، وليست قضية إستراتيجية، وبدلاً من أن يطالب الجانب الفلسطيني بوقف الإستيطان، شرطاً مسبقاً ليدخل في المشروع الفرنسي، رضي بإستمرار الإستيطان ورضي بالتغاضي عن الإستيطان، من أجل إنجاح المشروع الفرنسي الهابط  درجة بعد درجة. ما يطرح سؤالاً مهماً، هل بات المشروع الفرنسي هدفاً بحد ذاته، تجند لأجله السياسة الفلسطينية بما في ذلك «التسامح» مع الإستيطان. ولأجل ماذا كل هذا الهبوط والإنزلاق نزولاً؟

رئيس السلطة يبدو، في مواقفه ضعيفاً في مواجهة السياسات الإسرائيلية. هو في الحقيقة ليس ضعيفاً، بل إن من شأن سياسته أن تضعفه، وتضعف مواقفه، وإن تضعف الحالة الفلسطينية من وراءه.

  • هو رئيس أكبر حزب فلسطيني في م.ت.ف، لكنه يدير هذا الحزب بسياسات تفتقد إلى الحكمة المطلوبة، وهذا أدى إلى إضعاف حزبه في عيون الشارع الفلسطيني، وحتى في عيون أبناء حزبه والصف العريض من قيادته. ولا تخلو الصحافة الفلسطينية يومياً، من أكثر من مقال، يشكو هذه السياسة ويشكو إضعاف فتح، ولعل ما كتب عن إنتخابات جامعة بيرزيت وكيف تسببت سياسات أبو مازن في إضعاف لائحة فتح، ومن أكثر من معلق، كلهم أصدقاء وأعضاء في فتح، تأكيد على ذلك.
  • هو رئيس م.ت.ف التي يفترض أن تشكل الإطار الإئتلافي لعموم الشعب الفلسطيني. وعنوانه  الدولي، بقيادتها ولجانها، ومؤسساتها، وإتحاداتها الشعبية. والمنظمة قوة سياسية فاعلة، حين يتم إعتمادها سياسة توحيدية، برنامجياً، وتنظيمياً. تذكروا كيف إقتحمت م.ت.ف الأمم المتحدة عام 1974، بيدها بندقية، وباليد الأخرى المشروع الوطني الفلسطيني الموَّحد والموِّحد. وكيف إنتقل العالم، كله، إلى جنيف، عام 1988، ليستمع إلى كلمة م.ت.ف بشأن مبادرتها السياسية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. كانت المنظمة موحدة، وكانت اللجنة التنفيذية قيادة فاعلة. أما اليوم فاللجنة التنفيذية هيكلية باهتة. والمجلس الوطني معطل، والمجلس المركزي قراراته ليست فقط معلقة على الرف، بل ضرب بها عرض الحائط لصالح قرارات «المطبخ» الأمني. والإتحادات مشلولة. وما المنظمة سوى هيكل عظمي، مفكك الأوصال، مهدد بالإنهيار. كيف نفسر قرار قطع مخصصات وحقوق الجبهتين في الصندوق القومي، ولخدمة من هذا القرار؟ كيف نفسر العبث بعضوية اللجنة التنفيذية، ولخدمة من قرار العبث هذا؟ وفي أي سياق تندرج كل هذه السياسات الفردية، هل لتعزيز أواصر الإئتلاف في المنظمة أم لتدميره وبالتالي لتدمير المنظمة، وتحويلها إلى جثة هامدة؟
  • هو رئيس سلطة فلسطينية، جرى تأسيسها بإعتبارها نواة الدولة الفلسطينية المستقلة. ماهي الخطوات العملية المرسومة لأجل الإنتقال نحو الدولة الفلسطينية؟ هل بالتنسيق الأمني (المقدّس) كما يقول رئيس السلطة؟ هل بالتبعية الإقتصادية للإقتصاد الإسرائيلي؟ هل بمحاصرة الحركة الوطنية ونشطائها وأنشطتها؟ هل بإعتقال الشباب ومحاصرة المدارس والمعاهد والجامعات؟ هل بإستبعاد أصحاب الكفاءة؟ هل بمكافحة الفساد أم بالتستر على هذا الفساد؟ راجعوا تقارير المنظمات الدولية حول الشفافية في الدول ولاحظوا كيف أن السلطة الفلسطينية تندرج في «موقع مريح» في لائحة «الدول الفاسدة»
  • هو رئيس لشعب صنع أهم ثورة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. صمد في وجه أعتى قوى الأحتلال. ومع ذلك يناصب هذا الشعب العداء. علاقته متوتره مع رجال القضاء حين إلتف عليهم بتشكيل المحكمة الدستورية. إصطدم مع الموظفين العموميين ونكل بقيادتهم النقابية. إصطدم مع نقابة المعلمين ونكل بقيادتهم النقابية. إصطدم مع أوسع القطاعات الشعبية حين سطا على حقوقها في الضمان الأجتماعي. أين هي الوحدة الوطنية أذا لم تقم على برنامج وطني، وسياسة إقتصادية إجتماعية تعزز صمود أوسع قطاعات الشعب، خاصة الفقراء الذين يقدمون، عادة، التضحيات الكبرى في المجال النضالي.
  • أما على الصعيد العربي، فقد أعاد القضية الفلسطينية إلى لعبة المحاور، فزج بها في صراعات إقليمية لا تخدم مصالح القضية الفلسطينية. فالإنحياز إلى محور ما، ضد محور آخر، على الصعيد الإقليمي، لا يخدم القضية، خاصة إذا كان هذا المحور لا يعتبر القضية الفلسطينية، أصلاً، واحدة من عناوينه، بل يتجاهلها، لصالح صراعات بديلة. أين هي سياسة تحييد القضية الفلسطينية وسياسة العمل على كسب تأييد العرب والأطراف الإقليمية، بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني ونضالاته؟

سياستان في التعامل مع المشروع الفرنسي.

  • سياسة «القوة»، لإستنزاف المشروع بأوسع قدر من التنازلات المسبقة، ثم الرمي به جثة هامدة، والذهاب بدلاً من ذلك لمواصلة إستراتيجية الإستيطان والضم، وسن القوانين العنصرية، وتعزيز قبضة الإحتلال، ورفع وتيرة قمعه للإنتفاضة وللحركة الشعبية الفلسطينية، وتوفير الغطاء القانوني (الإسرائيلي العنصري) للقتلة في صفوف الجيش والمستوطنين.
  • تقابلها سياسة «التهالك» بالجري خلف المشروع الفرنسي، رغم مالحق به وما سوف سوف يلحق به من هبوط. سياسة التلويج بأوراق التنازل الجاهزة لوضعها إلى الطاولة. سياسة «القبضة الحديدية» في مواجهة الحركة الشعبية. وسياسة «اليد المرتجفة» في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي.

سياسة التفريط بأوراق القوة ... ورقة بعد ورقة.■