«أولاد الغيتو».. تأملات في مآسي البشرية
تاريخ النشر : 2016-05-05 03:29

إلياس خوري يعود ليكتب عن فلسطيني 48 في عمله الجديد

لكثرة ما كتب إلياس خوري عن الشعب الفلسطيني٬ وتحديدا عن أهالي ٬48 يعتقد كثيرون أنه فلسطيني عاش القمع الإسرائيلي بحذافيره وتفاصيله٬ وكأنه موجود فيزيائيا هناك٬ حتى أصبح مثل مؤسسة توثيقية لكل القرى المهجرة الفلسطينية٬ بدًءا من باب الشمس حتى روايته الجديدة «أولاد الغيتو»٬ الصادرة عن «دار الآداب».

وعنوان الرواية باب عريض يضعنا مباشرة أمام سنة ٬1948 السنة التي دمر فيها الجيش الإسرائيلي مدينة اللّد الفلسطينية٬ وطرد سكانها٬ فمشوا والموت يطاردهم بمسيرةُعرفت «بمسيرة الموت»٬ ولكن عدًدا قليلاً من السكان لم يقبلوا الخروج من منازلهم٬ فحاصرهم الإسرائيليون٬ وطوقوا الحي٬ وأطلقوا عليه اسم «الغيتو».

وكلمة «الغيتو» تشير إلى «منطقة يعيش فيها٬ طوًعا أو كرًها٬ مجموعة من السكان يعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية معينة أو لثقافة معينة أو لدين معين».

وقد عاش سكان الغيتو بين الجثث٬ وواجهوا كل أنواع وأشكال اْلَمْوت والتعذيب٬ إلى أن أصبحت رائحة الجثث أليفة وكأنها جزء طبيعي من حياتهم اليومية.

وترتكز هذه الرواية على عناصر كثيرة تجعل منها عملاً يثبت أقدام كاتبه على منصة الروائيين أصحاب البصمة الأدبية٬ حتى وإن لم يكتب سواها.

ومن أبرز هذه العناصر الحكمة٬ وطرح الأسئلة الوجودية المتلاحقة٬ وقراءة التاريخ بشكل روائي يمزج بين الواقع المؤلم والخيال الخصب٬ بين الماضي والحاضر٬ وبين تقلبات الطبيعة الإنسانية وتغيراتها في أسلوب بارع يقطر ألما.

ولو تمعنا بقراءة «أولاد الغيتو»٬ لوجدنا أن الكاتب يضع القارئ أمام زبدة أفكاره التي عجنها بتجاربه وثقافته الكبيرة في قالب روائي مبني على تساؤلات وجودية وفلسفية وحكم تسحر القارئ٬ وتخرجه من إطار الرواية المحدود إلى أفق لا نهاية له٬ وكأنها رواية سحرية تتكاثر عبر الأسئلة المطروحة بين سطورها فتلد روايات أخرى تقرأها في خيال٬ كما أن «الحكم» التي جاءت خلاصة تجارب وتأملات في التجارب العامة والخاصة٬ ومصائر البشرية ومآسيها٬ تتغلل كل صفحات الرواية تقريبا٬ كما في: «يجب أن نتخلى نحن عن الأشياء قبل أن تتخلى الأشياء عنا (صفحة ٬«(23 و«أكتشف أن الصمت أكثر بلاغة من الكلام٬ وأريد لهذه الكلمات أن تحترق (صفحة ٬(25 و«أعرف أن الحب هو فن الانتظار(ص ٬«(36 و«الوقت لا يختفي إلا في لحظتين:

الرقص والموت٬ فكيف إذا اجتمعا؟ (ص 212)». إنها حكم وأسئلة تفتح أبوابا من التأملات الفلسفية ضمن قالب روائي محكم.

وتذكرنا «أولاد الغيتو» بأسلوب جرجي زيدان الذي يعتمد على قراءة التاريخ بشكل روائي٬ فهو يروي الأحداث التاريخية بشكل درامي٬ محولا أبطالها إلى شخصيات واقعية نتعايش ونتآلف معها٬ كما في شخصيات آدم دنون٬ وإبراهيم النمر٬ وخلود٬ وغيرهم من شخصيات الرواية. إنها ليست بشخصيات عادية تمر أمامنا مرور الكرام٬ فصدق الكاتب في رسمه لها يجعلنا نعيش معهم الأحداث ونصادقهم٬ وربما نرتبط بهم أكثر من ارتباطنا بإلياس خوري.

تماًما كما أشار في روايته٬ قائلاً «أنا لا أفهم كيف يدافع الكتاب عن أبطالهم بالقول إنهم خياليون٬ وليسوا واقعيين.. تًبا لهم٬ فأنا اعتبر هاملت حقيقًيا أكثر من شكسبير٬ والأبله أكثر حضوًرا من ديستويفسكي».

أما بالنسبة للمزج الأدبي بين الماضي والحاضر٬ فقد تنقل خوري ببراعة بين الأدب القديم والأدب الحديث٬ وربط الصور الأدبية بشكل محكم٬ فأتى خوري بوضاح اليمن من الماضي ليشبه صمته داخل الصندوق بصمت الرجال في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»:

«روايتي سوف تقود إلى الصندوق٬ وهي تشبه في ذلك رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»٬ التي أوصلت أبطالها إلى خزان صهريج الماء كي تطرح عليهم السؤال الممض: لماذا؟»

إن أهم ما يشدنا في رواية إلياس خوري هو اعتماد أسلوب بارع في وصف الألم الإنساني٬ وتقديم صور من الألم تهز القارئ٬ وتوحي بأن أبشع أنواع الوحوش هو الإنسان حين يفقد إنسانيته٬ كما في مشهد الطبيب الذي بال على نفسه من الخوف٬ ولم يستطع الحراك من مكانه تحت التهديد:

 

«عندما تراجع الجنود إلى الخلف تاركين الطبيب الذي بال على نفسه من الخوف جالًسا في مكانه (صفحة .«(201

أو صورة أم ترقص طفلتها الرضيعة الموسخة بخرائها أمام جنود الاحتلال وهي تقدمها لهم ذبيحة من فرط قهرها ووجعها:

«تقدمت من الضابط تقول له: خذها٬ خود البنية٬ أنا بدي أموت... الأم تصرخ باكية والخراء ينتشر على يدها (صفحة 226)».

هل هناك أقسى من صورة أم تصل إلى مرحلة من الانهيار والضياع لتتخلى عن ابنتها٬ وتقدمها للموت بيديها٬ لولا تدخل أحد وجهاء البلد؟ كيف ننسى صورة رجل في حقله وهو يتمسك بحبات البرتقال رغم تهديد الجندي الإسرائيلي له وركله البرتقال بقدمه:

«تقدم الجندي من الكيس٬ ركله بقدمه٬ فتدحرجت حبات البرتقال التي داسها... رأي الشباب إبراهيم يمسك بالجبان المتخشبة التي أفلتت من قدمي الجندي٬ ويضعها في عبه (صفحة 336)».

أو صور الجثث المنتشرة في كل مكان إلى حد أن المنطقة استحالت إلى مقبرة في عيون سكانها:

«فجأة٬ اكتشفنا أننا نعيش في مقبرة (صفحة 346)».

القارئ السوي لا يمكن أن ينهي رواية إلياس خوري من دون أن يذرف دموًعا من القهر على بلد يغتصب٬ وشعب يذبح كالمواشي٬ إنها توقظ كل وجع الدنيا داخل قرائها٬ فيشعر القارئ وكأنه كان على موعد ليصرخ مع الأحداث٬ أو من خلالها٬ وكأن الروائي أرادنا أن نواجه الحقيقة ربما لنشفى من ألم ما مزمن مخزن في أعماق الروح.

قد تكون حدة الألم وقسوة الصور هي التي دفعت الكاتب لإدراج بعض الاستطرادات المحببة كي يعطي القارئ محطة استراحة قصيرة يسترجع بها أنفاسه٬ قبل أن يدخله في نفق مظلم جديد٬ ومن بعض هذه الاستطرادات:

«وإذا كانت كلمة الجمال أنثوية فعلاً٬ فأنا لا أعرف أن أصف الجمال بغير لغة الأنوثة٬ لأن الجمال مؤّنث ومؤِّنث٬ مثل الأدب الذي لا يصير أدًبا إلا إذا تأّنث باللغة٬ وأدخل إليها شفافية الماء٬ وخفر العيون (صفحة .«(43

وكان من الممكن أن يتخلى الكاتب عن هذا المقطع لأنه لا يرفع من السياق الدرامي٬ أو يؤثر عليه٬ ولكنه إضافة موظفة بشكل فني ذكي تنظم نبضات القارئ في هذا العمل الدرامي المتمدد.

ويلفتنا أيًضا في رواية «أولاد الغيتو» استعراض الكاتب للطبيعة الإنسانية وتغيراتها٬ وكأنه أراد أن يثبت لنا ما قاله هيراقليطس من أن المرء لا يستطيع عبور النهر ذاته مرتين٬ وبأن احتمالات الحياة لا تنتهي٬ فكل أحوالنا تتغير مع الظروف٬ ولا شيء ثابت في الطبيعة أو الإنسان٬ المرأة نفسها التي رقصت رقصة الموت شاهدناها في نهاية الرواية ترقص من الفرح:

«أغمض عيني٬ وأراها الآن٬ المرأة التي رقصت مرتين: في المرة الأولى رقصت للموت٬ وفي المرة الثانية رقصت للحب».

إلياس خوري٬ في روايته «أولاد الغيتو»٬ كان أكثر من وفي للقضية الفلسطينية٬ فقد حمل الوجع إلينا بإخلاص ونفس روائي طويل. إن «أولاد الغيتو» ليست مجرد رواية٬ إنها ملحمة شعب وعذاباته التي لا تحتمل٬ هذه العذابات التي قد ننساها أحيانا٬ فيأتي روائي مثل خوري ليذكرنا بها٬ ليس بشكل قوي فقط٬ ولكن بشكل فني أيًضا.