يوميات مواطن عادي(50) نيلسون مانديلا... في رام الله
تاريخ النشر : 2016-05-04 19:23

مرت عدة أيام على الاحتفال في مدينة رام الله بمناسبة افتتاح ميدان نيلسون مانديلا وإزاحة الستار عن التمثال الضخم للقائد الكبير الذي قدمته جمهورية جنوب افريقيا كهدية للشعب الفلسطيني. لاحظت كمواطن عادي مدى الاهتمام الذي لقيته هذه الخطوة الرمزية من قبل قطاعات واسعة في المجتمع الفلسطيني. وفي اعتقادي ان مصدر هذا الاهتمام نابع اولاً من الهدية التي خصت بها جنوب افريقيا الشعب الفلسطيني، وثانياً كونها تعبير واضح عن التضامن ووحدة الحال وتشابه الظروف بين الشعبين، من ناحية النضال الطويل ضد سياسات الاستعمار والتمييز العنصري.

شاءت الظروف ان يكون الميدان والتمثال الضخم في الحي الذي اسكنه في مدينة رام الله، وأجد نفسي يومياً أمر في الذهاب والإياب من أمام تمثال المناضل والقائد نيلسون مانيلا. واجد نفسي كل يوم اطرح العديد من الأسئلة حول رمزية التمثال بالنسبة لنا كفلسطينيين عانينا ونعاني من ويلات الاحتلال وسياساته في مختلف المجالات، وعلى مدار ما يقارب القرن لا نزال نسير في ذات الطريق الذي سار عليه الجنوب افريقيون من اجل تحررهم من نير التمييز العنصري. لن أدخل في تحليل سياسي حول الأسباب والمسببات والمعيقات التي تحول بيننا وبين تحقيق أهدافنا حتى الآن، لكن أردت التركيز على قضية أخرى ربما علينا التفكير فيها في واقعنا الحالي.

القراءة السريعة في تاريخ حياة مانديلا تشير الى انه، إضافة لكونه أصبح رمزاً للنضال ضد الاستعمار والتمييز العنصري بعدد السنوات التي قضاها من حياته داخل السجن والتي قاربت على الثلاث عقود. انتخب بعد الافراج عنه أول رئيس أسود لجمهورية جنوب افريقيا، ورئيس لحزب المؤتمر الوطني الافريقي، وحظي في بلاده بلقب "أبو الأمة"، وأصبح لاحقاً رئيساً لمنظمة دول عدم الانحياز، وحصل على (250) جائزة دولية. اما القضية التي تلفت الانتباه في تاريخ هذا الرجل فهو قراره باعتزال الحياة السياسية والعامة في العام 1999 من اجل التفرغ لحياته الشخصية. أي تخليه عن كل المناصب والمراكز سواء في الدولة او في الحزب. وبعد عدة سنوات عاد للحياة العامة من خلال النشاط الخيري، وليس السياسي، في برامج مكافحة الفقر والأوبئة والأمراض.

مراراً حاولت وانا أمر من أمام تمثال مانديلا استحضار كل معلوماتي عن التاريخ العربي الحديث، وعبثاً حاولت ان أجد نماذج مماثلة له في ثنايا هذا التاريخ. الزعيم او المسئول في عالمنا العربي يظل زعيماً ومسئولاً في كل الظروف والأحوال، الرئيس يظل رئيساً مدى الحياة، وهذه القاعدة تنطبق على طيف واسع جداً في حياتنا في مختلف المجالات، وهي ليست مقصورة على رئيس الدولة او الحكومة فقط، إنها تنطبق على رئيس الحزب والمنظمة والمؤسسة والجمعية والنقابة. وبمجرد ان يصبح الرئيس رئيساً، سواء بالانتخاب او التعيين أو بأي وسيلة أخرى، فإنه يختم نفسه بختم واحد مكتوب عليه "مدى الحياة"، وغالباً ما نشهد بعد وفاته صراعاً على منصبه وإرثه ينتهي في معظم الأحوال بانقسام وتقسيم، أو بقتل وتقتيل.

موجز القول إنه في ثقافتنا وواقعنا الحالي، لا يوجد مكان لمفهوم "تداول السلطة" في مواقع صنع القرار المختلفة، ولم يسجل تاريخنا، سواء الفلسطيني خصوصاً او العربي عموماً، الا حالات نادرة جداً واستثنائية ممن تمكنوا من تجاوز هذه القضية والتنازل عن موقع صنع القرار لصالح اشخاص آخرين، بينما يعج تاريخنا بالنماذج والأمثلة المعاكسة. وربما تكون هذه احدى القضايا التي تعيق تقدمنا وتجعلنا ندور في ذات الحلقة المفرغة. حيث باب النقد البنّاء الهادف مغلق تماماً، والباب الوحيد المفتوح على مصراعيه هو باب الانسياق مع التيار والواقع القائم دون أي مساس بأسسه وأركانه وأنظمته والقواعد التي تحكم وجوده واستمراره. وأمام هذا الواقع فإنه ليس غريبا أن نجد النصيحة المفضلة التي تختتم نهاية معظم مناقشاتنا على كل المستويات هي الجملة التقليدية المشتقة من أحد الأمثال الشعبية والتي تقول "لا تحمل السلّم بالعرض".

أما بالنسبة لتمثال مانديلا الشامخ الواقف في مدينة رام الله فأعتقد أنه لو تكلم ربما كان يقول لنا: شكراً لكم على لفتتكم الكريمة هذه، فهذا شرف لي أن أكون بينكم كشعب مناضل، وأن أكون رمزاً لنضالكم مثلما كنت رمزاً لنضال شعبي وتجسيد إنجازات ذلك على أرض الواقع. أما بالنسبة لكم فإنني أدعوكم إضافة الى التقاط الصور معي الى التفكير وقراءة دروس التاريخ، فالتجربة فيها الكثير مما يمكن تعلمه.