قصة قصيرة: الناموسة (د. عبد القادر فارس)
تاريخ النشر : 2016-05-01 23:26

" من مذكرات فدائي " (2)

كان لتوه قد أنهى نوبة حراسته التي استمرت من منتصف الليل , وحتى السادسة صباحا , في منطقة قريبة من غور الأردن , تشرف على مستوطنتي " الزرَّاعة" وبيسان , في خط المواجهة مع العدو , واللتين تشتهران بوجود مزارع السمك بهما , حيث تنبعث رائجة مخلفات الأسماك الكريهة , وينتشر الناموس الكبير الحجم , الذي تشتهر به منطقة الغور الحارة , والتي تزيدها حرارة ورطوبة مياه " نهر الأردن , التي كان يطلق عليها الفدائيون اسم " الشريعة " , ولتفادي لسعات الناموس , كانت الخدمات العسكرية تصرف زجاجات من دواء سائل , يدهن بها الفدائيون في قواعدهم في الغور , الأماكن المكشوفة من الجسم , على الوجه واليدين والأقدام ... خلع " حذاءه العسكري " البوط " من قدميه , ورفع " البيريه " ( الطاقية العسكرية ) عن رأسه , وتوضأ وصلى ركعتي الفجر , ثم بعد ذلك أخذ يمسح قدميه ويديه ووجهه وأذنيه , بالدواء السحري ليمنع لسعات الناموس , ولم ينس زيادة في ذلك من إشعال بعض العيدان وأوراق الشجر اليابسة , زيادة في الحرص على ابعاد الناموس عن الخيمة التي سينام فيها , بعد تلك الليلة الساهرة .. تمدد في فراشه دون غطاء من شدة الحر في تلك الليلة " الحزيرانية" , غير أن احتياطاته لمواجهة غارات الناموس لم تنفع , فما أن أغمض عينيه , حتى سمع صوت طنين ناموسة تزن قرب أذنيه بجناحيها , كأنها مروحة طائرة هليوكبتر , تتأهب لشن غارة في ذلك الصباح على موقعهم , بعد أن أعلنت قيادة الجيش الاسرائيلي , أن مجموعة فدائية تسللت إلى المستوطنة قبل الفجر , وقامت بنصب كمين لدورية اسرائيلية في منطقة ليست بعيدة من غور الأردن الشمالي , موقعة قتلى وجرحى في صفوف العدو , وهو ما استدعى حالة استنفار ... حاول تفادي الغارة داخل خيمته , رغم النعاس الذي بدأ يغلبه , قام بدس نفسه داخل غطاء صوفي " بطانية " , رغم الحر الشديد , غير أن صوت طنين الناموسة كان يخترق البطانية , ليشعر من ذلك " الزن " المؤذي للسمع , أن شعر رأسه يقف من هول ما هو قادم ... لم يحتمل حرارة الغطاء , وعاد ليكشف عن جسمه , فلربما صوت طنين الناموسة , أو حتى لدغتها ’ تكون أرحم من هذا الحر الذي لا يحتمل , عندما تصل درجة الحرارة لنحو الخمسين في هذا الصيف ... النعاس يغلبه , يريد النوم ولو لساعة واحدة , غير أن غارة غادرة من الناموسة في طرف أذنه الأعلى أطار النوم من رأسه , بعد أن شعر بحرارة السم الذي افرغته الناموسة يلهب جسده , أخذ يدهن مكان اللسعة " اللدغة " , حتى يهدئ آثارها , حين أحس في ظلمة الخيمة بالناموسة تغير أسفل عينه وتحدث بها لدغة أشد من الأولى , سارع للماء يبرد ثار اللدغة , غير أنه لا الماء البارد ولا الدواء المضاد للناموس نفع معه و طار النوم من عينية .. ما العمل إذن ؟!! ... فقد صوابه , قرر الانتقام , سحب رشاشه الكلاشنكوف , وأطلق صلية باتجاه صوت الطنين القادم من أعلى الخيمة , ما استدعى استنفارا من رفاقه في الموقع , حضر الجميع يستفسر الخبر , أخبرهم بما جرى لهم في تلك الليلة السوداء و واثارها الحمراء على جسده ’ تهامسوا فيما بينهم , وأخفوا ابتساماتهم عنه , وقالوا له نتمنى أن تكون قد أصبت الناموسة اللعينة , لكي تتمكن من النوم باقي النهار , استعدادا لمواجهة قادمة في الليلة القادمة ... تركوه يعود لخيمته بعد أن تفقدها ووجد ثلاثة تقوب تخترقها من أثر الرصاص , قرر أن ينام ويختبر ما فعل , غط في نوم عميق , ولم يستيقظ إلا على صوت زميل له يدعو لتناول طعام الغداء ... يا الله , ألهذا الحد غرق في نومه إلى ما بعد الظهيرة ... يبدو فعلا أنني قد أصبت الناموسة وقضيت عليها , هكذا حدث نفسه , سأكون قناصا بعد اليوم لاصطياد جنود العدو , بعدما تمكنت من قنص أصغر المخلوقات ... أخير رفاقه على الغداء بأنه تمكن من إصابة الناموسة " الهليوكبتر " إصابة قاتلة , وإفشال غاراتها في تلك الليلة , وأنه سينضم بعد اليوم إلى سرية القناصة ... ضحكوا جميعا , واشادوا ببطولته ونجاحه في تلك المواجهة .. , ولم يكن يدري أن رائحة البارود التي عبأت الخيمة جراء اطلاق الرصاص , هي من أبعدت الناموسة عنه ليكمل نومه, في انتظار مواجهة قادمة !!.