المثقف والمفكر...غموض المفهوم - 1-
تاريخ النشر : 2016-01-31 20:02

بعد تفرغنا من تتبع أثر المثقف والمفكر الأوروبي، وكيفية تشكل هذه الطبقة من القرن الخامس عشر إلى غاية يومنا هذا، نحاول الآن التعرف عليه بدقة أكثر من خلال تفكيك المفهوم الذي قل ما نجد توافقا بين من وضعوا هذه المفاهيم سوى كانوا من العرب أم الغرب، وفك الإلتباس عن هذا الغموض، ومن جهتي ليس الغموض في المفهوم بقدر ما هو غموض رصد سلوك المثقف الأصيل والمثقف المقلد الذي يعطينا نظرة ذهنية تتشكل من خلالها المفاهيم، وعدم المفارقة بينهما سبب إحراجا كبيرا، وإرتباكا لمن صمموا كلمات تجريدية للمثقف أو المفكر، ففي الحقيقة لا يمكن وضع تعريف محدد لكلاهما، لأن المهام التي قد تكون من نصيب المثقف في زمن ما، تختلف عنه بطبيعة الحال في زمن آخر، وليس العصر الذي يسعى فيه المفكر أو المثقف لتحرير العقل، مثل السعي نحو بناء السلم في عصر يسوده العنف كعصرنا هذا، وبالتالي هنا يقع الظلم، ويصبح المثقف مقيدا بمهام قد أصبحت تقليدية في حين أن الحاجة تتطلب أكثر من هذا، كما تتطلب أدوارا جديدة، وفي هذه الحالة سنركز على التعريفات التي يحاول أصحابها بناء نظرية نقيس من خلالها هذا مثقف وهذا مفكر، ومن ثم التملص منهما للخروج بما هو أكثر فائدة وإنتاجا.

من هو المثقف؟

يقدم لنا الدكتور علي شريعتي في كتابه مسؤولية المثقف، تفكيكا للمفهوم لغويا وكيفية إنتقاله من أوروبا إلى باقي القارات الأخرى، من خلال النقل الأعمى بدون تمحيص وتدقيق، وذلك واضح في قوله: " لقد طرحت قضية المثقف بيننا في ظل هذه الظروف نفسها، حتى مصطلحها نقل إلى لغتنا خطأ، فأخطأنا من البداية في استخدام الصفة التي ألبسناها للمثقف، وبالتالي جرى علينا الخطأ تماماً في تفسيرنا لأنفسنا كمثقفين".

هذا الخطأ كان سببا في الجمود الحاصل داخل الأقطار العربية، خاصة ضمن فئة الشباب الذين أحبوا أن يزاولوا هذا العمل، إلا أن النقل الأعمى يحرف طريقهم ليصلوا في النهاية إلى المثقف الذي يريده الآخر وليس كما نريده نحن من أبناء هذه الأمة، ولكي نتفادى هذا الأمر دون الإطالة ندخل مباشرة في هذا المصطلح اللغوي، في رحلة مع الدكتور شريعتي، حتى يتسنى لنا على الأقل رسم صورة ذهنية لهذا المصطلح في أدمغتنا، ولكن دون أن نكون مؤيدين أو معارضين، حتى ننتهي من هذا كله.

إذن شريعتي يقول: " الكلمة التي تعادل ما عبرنا عنه بالمثقف في لغتنا، هي في اللغة الأوروبية Inteligentsia وهي اسم مصدر، والصفة منها هي: Intellectuel وأصل الكلمتين معاً هو: Intellect أو Intelligence؛ وكلمة Intellet تعني الفطنة أو الذكاء أو العقل أو قدرة الإدراك والفهم والإستنتاج، ومن ثم تعني الصفة منها: العاقل المتفهم، وتطلق على الرجل الذي يحسن التفكير، ومن ثم تطلق على أهل الفكر أو Intelligentsia على شريحة من المجتمع تكون من صفاتها المتميزة البارزة هي استعدادها الفكري والعقلي وذكاؤها؛ هذا هو معنى المصطلح لغويا، وعليه فكل إنسان ذكي يبرز ذكاؤه وفكره وفهمه عن سائر مواهبه الأخرى في حياته ومجتمعه فهو مثقف."

ولو أردنا مقابلة هذه الفقرة للدكتور شريعتي بما يقابلها في اللغة العربية لوجدنا أن " الفطنة" وحدها كافية لتفسير المصطلح من جميع جوانبه، ولكن يبقى إهمال أي الأصناف تحديداً؟، هل الصنف ذو الأعمال العقلية أم الالجسدية؟، أي أن المثقف حقيقة في قواميس الغرب هو كل من يمارس العمل العقلي، قد يكون أي شخص يمارس عملا فكريا يصنف ضمن فئة المثقفين، هذا الإنطباق الذي حاولت القواميس الغربية رسمه هو مثقف القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، بينما مثقف اليوم هو أكثر من هذا بكثير، فكما قلت هو من يقابله بالفطنة وذوو المسؤولية في المعاجم العربية اتجاه شعب أو أمة، أو هم من بحملون شعلة الحقيقة.

أما عن الجانب الإصطلاحي فهو يصرح في إحدى صفات الكتاب بمنتهى الروعة، فيقول عن كلمة مثقف: " تعني صراحة ذلك الذي يتميز بوضوح الرؤية وسعة الأفق...ومرادف كلمة مثقف في اللغة الفرنسية هو كلمة Clairvoyantومعناها بعيد النظر أو مستنير، وتعني ذلك الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق، ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها، وإفهامها للآخرين، هذا هو Clairvoyant بالمصطلح الفرنسي الذي يرادف كلمة مثقف عندنا".

هكذا يقر سيدنا الدكتور ذو العقلية الفذة بأن المثقف هو من يعرف ذاته ومجتمعه، ويعرف مشاكل أمته، هو حسب إعتقاده بمثابة الطبيب الذي يسعى جاهدا لإنقاذ روح من الموت، ولكن الأهم من هذا كله، هو أن التعريف الآنف الذكر لا يبرر لنا كيف تم صياغة المثقف في قالب جامد، مناصرا للنظام، فإذا كانت حقيقته أن يكون في المجتمع كما يقصده في تعريفه هذا، حتى أننا أصبحنا نعددهم على رؤوس الأصابع في أيامنا هذه، فالمشكلة لا تكمن في من هو المثقف؟ بقدر ما تكمن كيف يكون مثقفا؟ هكذا نصل إلى رؤية أخرى يطرحها المفكر علي حرب.

يقدم لنا هذا المفكر نظرة مغايرة تحكي على أسفه على واقع المثقف اليوم – أي في البلاد العربية – بمعنى ظلامي، وسواد تام، ويجوز الأمر لو وصفناه بالنظرة المتشائمة جدا لحال المثقف الذي أصبح محل رثاء، فحسب إعتقاده أن المثقف كان قبلاً ، ولم يبقى الآن، نتيجة لتحريف مهامه، وهو يقدم لنا ما قد تخلف عنه الدكتور شريعتي في وضع فئة المثقفين ضمن صنف المجتمع أم النظام.

وعلى هذا الأساس نقدم أولا مفهوم ونظرة علي حرب ومن ثم ننطلق شد أطراف التعريف لتمزيقه حتى نرى بواطنه، ونكتشف ثغراته، فهو يقول عن المثقف: "ليس من يملك حظا وافرًا من الثقافة العامة أو المعارف المشتركة؛ ولا أعني به، بالطبع "الإختصاصي" في فرع من فروع المعرفة أو المنتج في حقل من حقول الثقافة، أي لا أعني به بالتحديد، العالم أو الكاتب أو الأديب أو الفنان؛ كما لا أعني به بالضرورة المفكر، الذي يصنع أفكارًا أو يخلق بيئة فكرية، وإن كان المثقف يستعمل سلطة الفكر والنقد؛ وأخيرًا لا أعني به الداعية أو صاحب الأدلوجة، أي المنظر العقائدي أو المرشد الروحي أو القائد الثوري أو الزعيم الحزبي، مع أن مهمة المثقف تكاد تتطابق مع مهمة الداعية".

كل هذ الوصف لم يكن شيئا ولا جزءا من المثقف، فهو ليس من أي صنف، بل هو مستقل عن كل هذا، فليس المثقف من يحمل كمًّا هائلا من المعرفة الخاصة أو العامة، كما أنه ليس ذو توجه إيديولوجي أو ديني، وليس جامدا ولا ثوريا..إلخ، إذن من هو الذي يقصده يا ترى؟

المثقف – حسب إعتقاده – هو: " قد تكون له علاقة بكل واحد من هذه الأوجه والمجالات تكثر أو تقل، تشتد أو تضعف؛ ولكني أعني به في المقام الأول، من تشغله قضية الحقوق والحريات، أو تهُمُّه سياسة الحقيقة، أو يلتزم الدفاع عن القيم الثقافية، المجتمعية أو الكونية، بفكره وسجالاته، أو بكتاباته ومواقفه؛ قد يكون المثقف طوباويا أو عضويا، ثوريا أو إصلاحيا، قوميا أو أمميا، إختصاصيا أو شموليا، متفرغا لمهمته أو غير متفرغ؛ وقد يكون شاعرًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا أو عالماً أو فقيهاً أو مهندساً، أو أي صاحب مهنة أو حرفة أو صناعة... ولكن أيّاً ماكان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجال عمله، فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام، أو من ينخرط في السجال العمومي، دفاعا عن قول الحقيقة أو حرية المدينة أو مصلحة الأمة أو مستقبل البشرية؛ فهذه صفته ومهمته، بل هذه مشروعيته ومسؤوليته؛ بهذا المعنى، فالمثقف هو الوجه الآخر للسياسي، والمشروع البديل عنه".

هذا ما يزعمه صاحبنا، فهو ليس من كل هذا، ولكن ينتمي لهذا الكل، لعبة لغوية جيدة تكاد تختفي بين أحضانها كل الرسائل المغلوطة في تحديد قالب المثقف، فهو الذي ينتمي للمجال السياسي، والعلاقة بين المثقف والمجال السياسي هي المحدد الوحيد للقياس، فهناك – حسب رأيي – مثقفون لا ينتمون للمجال السياسي ولكن كان لهم إنتاج وتأثير كبير على مجتمعاتهم؛ فسيقول غيري أثبت لنا ذلك، بأي دليل وبأيّ حجة تناقش، سأقول مثلا رجال الدين عندنا لهم ثقل كبير ولكنهم لا يرتبطون بال جال السياسي، كذلك هناك أدباء إستطاعوا تغيير مسار التاريخ دون أن يكون لهم خيط واحد بالمجال السياسي، إذن المثقف عن المفكر علي حرب هو الذي يحمل مشعل الحقيقة، وهذه الحقيقة التي يبحث عنها المثقف كامنة في الإطار السياسي، إما ناقداً أو مدافعاً، وهو يحبذ الناقد على المدافع وفق حدود.

وهنا نتوقف عند نظرة فؤاد زكريا التي تحمل من الواقعية ما يفي العقل للإقتناع بها، فالمثقف في نظره هو ليس الإيديولوجي الذي يقيس مظاهر الثقافة وتوجهاتها بمسطرة باردة من المعايير الإيديولوجية التي لا تعرف إلا منطلقا أحادياًّ يقسر الناس على السير فيه، كأنهم جداول ماء متدفق في أنابيب من الكونكريت لا حول لها في توجهها ولا قوة كما يزعم علي حرب، ولا هو يقسر نفسه على تنوير عامة الشعب كما يرى الدكتور شريعتي!؛ بل هو رجل الاختيار ورسم البدائل لشعبه وأمته، هو من يحاول أن يجد حلا لكل مشكلة تهم المجتمع بكامله سوى كانت في صف النظام أم في صف الشعب، فكلاهما واحد إن كان الهدف واحداً.

وأخيرا أقول بأن هذا فيما يخص المثقف، وفي المقال القادم إن قدر لنا البقاء واللقاء سنستعرض مفهوم المفكر، ونحدد العلاقة بينهما.